الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رغيف الخبز -يوم كنا عايشين-

نادية خلوف
(Nadia Khaloof)

2021 / 1 / 30
المجتمع المدني


كنت معلمة في مدرسة حاتم الطائي في القامشلي ، وفي إحدى السنوات كنت أعلم الصّف السادس ، لفت نظري أن إحدى التلميذات لا تنزل علامتها عن العشرة، وهي هادئة ومهذّبة ، أحببت أن أتعرف على واقعها ، سألتها : هل والدتك هي من تهتم بك؟ أجابت: لا . والدتي لا تجيد القراءة و الكتابة ، ولا تفهم العربية ، إذن لك إخوة أكبر منك يعلمونك ، أجابت أيضاً بلا. قالت: أنا أكبر إخوتي . في أحد دروس التعبير ، وكعادة كل المعلمين ، حيث يطرحون تلك الفكرة السخيفة : " ماهي أمنيتك" !
لم أعد أذكر ما كتبته التلميذة حرفياً ، لكنني أذكر ما بدأت به: " أخجل من الفقر، أتمنى أن أصبح في المستقبل معلمة كي أنقذ أمّي. عندما تذهب أمي في الصباح لتجلب لنا الخبز أخشى عليها البرد ،تبقى ساعات على الفرن حتى تستطيع جلب خمسة أرغفة ، يكون وقت المدرسة قد حان، نتناول أنا و إخوتي كل منا نصف رغيف نأكله على الطريق، و إن كان لدينا وقت تدهن لنا دبس البندورة عليه"
أتحدّث عن الثمانينات من القرن الماضي، وكنت لم أسجل في نقابة المحامين بعد، وكنت أتعاطف مع الفقراء وفي نفس الوقت أمجّد الفقر ، و أعتبره من دواعي الفخر ، فقد يكون الإنسان فقيراً لكنه صاحب فكر حسب تسمية محمد الماغوط لمدينته "السلمية" مدينة الفقر و الفكر، لكنّني اليوم أسأل كيف يمكن لهذين النقيضين أن يجتمعا ؟
أعود هنا لتلميذتي . تلك الفتاة التي اجتمع فيها النقيضين لكن في فترة طفولتها فقط ، حيث أرغمها الفقر على أن تأخذ دور أمها في رعاية إخوتها بعد أن أقعد ذلك المخجل والدتها طريحة الفراش، رأيتها تجلب الخبز من الفرن، وكنت أنا بدوري ذاهبة لأجلب رغيف خبز سميك واحد كي أقسمه بين أولادي لآنهم يحبونه . كان الطابور طويلاً ، رأيت إحدى النساء تلفّ خمسة أرغفة بخرقة، تحني ظهرها وتسير مسرعة، ثم توقفت وسلمت عليّ:
-مرحبا آنسة.
-أهلا وسهلاً
-لم تعرفيني ! أنا فلانة . تركت المدرسة في الصف الثامن كي لا يتشرد إخوتي فأمي مريضة ، أعتني بها أيضاً . هل تذكرين عندما قلت لك أنني أكره الفقر. أخجل كثيراً عندما آتي لأشتري الخبز، في هذا الكان المزدحم أشعر بالذّل ، و أنه ليس لي قيمة ، ثم سألتني :أنسة ! هل أنت كردية حتى عاملتني بلطف ؟ مع أنني كنت مجتهدة ، فقط أنت من عرف ذلك. قلت لها: لا أدري لأية قومية أنتمي، لكن لا بأس ما دام الأمر يسرك فليكن .
رغيف الخبز في الثمانينات من القرن الماضي كان عزيزاً في الجزيرة السورية و التي يمكن أن تسد مجاعة العالم لو استثمرت . كان هناك خبز سهل الحصول عليه في الدكاكين وبسعر أغلى ، لا يستطيع تأمينه إلا قلة من الناس ، وقد كان الموظف محظوظاً ، رغم أنه عزيز كرغيف الخبز في الجزيرة فحتى معلميهم كانوا استيراداً من الساحل السوري إلا ما ندر.
ليس فقط تلميذتي من يخجل من الفقر ، بل أنا أيضاً أخجل منه، وجميع الفقراء يخجلون، مقولة أن الفقر ليس عيباً هي مقولة تخصّ غير الفقراء. هؤلاء الذين يمجدّون الفقر ، ويعتبرونه ميزة للتفوق الفكري هناك خطأ لديهم ، و الخطأ ليس فردياً بل جماعيّاً ، فعندما أرى صور وفيديوهات لشيوخ كبار ، ونساء مرهقات على وسائل التواصل أدير وجهي خجلاً، حجة من يلصقون تلك الصور و الفيديوهات، وبخاصة المحطات الفضائية إثارة الرأي العام هي حجة كاذبة، فالرأي العام الفاعل لديه ملفات كالة عن ما يجري وعن مآسي الشعب السّوري ، الشيء الوحيد المطلوب هو تحقيق الربح من قبل المحطات . . .
سوف أستشهد بمثال آخر : كان هناك عامل بلاّط ، عمل لدينا في المنزل، كان يبدو مختلاً ، وفيما بعد في موجة لجوء في الثمانينيات لجأ إلى هولندا ، وحصل على الجنسية ، أتى إلى سورية وقت أحداث القامشلي ، ومعه كاميرا حديثة. صوّر المظاهرات ، أمسك به الأمن، تدخلت الحكومة الهولندية ، وكانت تطالب به كهولندي، وفنان . كان مع الفقر مجنوناً، و أصبح مع الوفرة فناناً .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أردوغان يدين موجة العنف ضد اللاجئين السوريين ويلقي باللائمة


.. ألمانيا والسويد تعتقلان سوريين يشتبه بتورطهم بجرائم حرب




.. بريطانيا تحاول عرقلة عمل المحكمة الجنائية الدولية.. ما القصة


.. نقل أطفال مصابين في القصف الإسرائيلي على مدرسة النازحين في خ




.. In defence of free expression and peaceful assembly in solid