الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قسطنطين زريق وثالوث الثورة والعقل والحرية

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2021 / 1 / 31
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لقد بلور قسطنطين زريق صيغة نموذجية جديدة للنزعة القومية، حيث تنتظم فيها وتجتمع بنسب واقعية كل من الرؤية الثورية والعقلانية وفكرة الحرية من خلال رفعهم إلى مصاف الفلسفة الإصلاحية. وهذه بدورها إصلاحية تستند إلى رؤية خصوصية الحضارة المعاصرة والعمل بمعاييرها، أي السير معها وبها مع الاحتفاظ بالأصالة القومية المبنية على أساس الثقافة التاريخية وبلوغ حكمتها الفعلية. لهذا نراه على سبيل المثال يتكلم عن ضرورة التوحيد الدائم بين العلم والإنتاج والاستقلال التام. وأعتقد بان التجّهز بالعلم والإنتاج هو مصدر القوة وأساس الاستقلال الفعلي. وبالتالي، فان عدم بلوغ الاستقلال الفعلي للعالم العربي يكمن في أنه لا يوجد استقلال تام، ووقوف الاستقلال عند الحد السياسي. بمعنى أن الاستقلال الفعلي هو الاستقلال التام فقط. ومن اجل بلوغ ذلك وضع قسطنطين زريق ما يمكن دعوته بالحل المستقبلي الأمثل من خلال "بلوغ المجتمع العلمي"، و"دور الدولة" الخاص بذلك، و"فكرة النضال"، و"متطلبات النضال". كما لو انه يؤسس لأركان البديل الضروري بهذا الصدد.
وحصر سبل بلوغ المجتمع العلمي في ثلاث هي كل من الإيمان بها، وجهد رجال الفكر والعمل وقادة الحكم، وأن يكون المجتمع المنشود ما نريده، أي بقدر وضوح الإرادة وعمقها وانتشارها .
أما دور الدولة، فحصره في قواعد عامة وهي "أن يصبح هذا الهدف أساس سياستها ومحور نشاطها". وذلك لأن "الدولة لا تستطيع أن تبني مجتمعا علميا منتجا إلا إذا كانت هي ذاتها منظمة على أساس العلم ومنصرفة إلى الإنتاج" . من هنا ضرورة الإنتاج والإنماء، والتخطيط والإستراتيجية، بحيث تسود العقلية التخطيطية التصميمية على نشاط الدولة والأفراد والجماعات . وأن يجري استكمال ذلك بالبحث والاهتداء بهدى الحقيقة. وذلك لأن "البحث العلمي هو الركن الركين للإنتاج والإنماء والتخطيط. لهذا يجب أن ينفذ التخطيط في عروق الدولة وشرايينها لبثّ القوة والمناعة في أجهزتها" . الأمر الذي يتطلب "حشد الكفاءات المادية والبشرية وتهيئة الكفاءات الممكنة" . وأخيرا إتمام ذلك بتنشيط دور الشعب، من خلال جعله حافزا ومراقبا، أي ضرورة الرقابة الشعبية وحرية الفكر والكلمة. فالحرية ليست حقا، بل هي أولا وقبل كل شيء واجب وتبعة، كما يقول زريق .
أما فكرة النضال وبث الروح النضالي، فيحصرها زريق بمصادر وهي: وضوح الغاية وتغلغلها في النفس عبر إزالة الفرقة أو عدم الانخداع بوصفها قضية جوهرية. مع ما ترتب عليه من انقسام الدول والشعوب والأفراد إلى "قوميين" و"اشتراكيين" و"تحرريين" و"انقلابيين" و"تطوريين" و"مناضلين" و"انهزاميين" وما إلى ذلك من نعوت. وإن أبرَزَ مظهر لتعثر النضال هو انعدام الإرادة العربية الواحدة في مستويات الحكم العليا. من هنا ضرورة الإرادة الواحدة في صفوف الشعب والتعبئة الشعبية، وكذلك ضرورة ارتباطها بالدار والأرض والوطن. بمعنى الاستفادة من الدرس التاريخي لنكبة فلسطين. فقد وضع الفلسطينيون حربهم في أيدي الدول العربية وأنظمتها السياسية. وكان المفروض بالعكس، بمعنى جعلها فلسطينية بوصفها حربا وجهادا من أجل الأرض والوطن. وأخيرا ثقة الشعوب بقادتها .
أما متطلبات النضال فيحصرها زريق بأربعة وهي: العقلانية، أي التشوق إلى الحقيقة والأنفة من الجهل والخطأ والانخداع والخديعة، ومحبة العمل والقدرة عليه عبر رفعها إلى مستوى العقيدة، والانضباط والانتظام، والتقشف .
إن الحصيلة الكامنة في هذه الرؤية تكشف عن طبيعة وحجم وغاية النقد الذاتي المكتوي بناء المحنة. فقد أراد زريق أن يجعل منه مصدر الإثارة بالنسبة للعقول وصهر النفوس وإعادة الخلق الذاتي خلقا جديدا. فالمحنة تغدو فاتحة النصر إذا هي أدت إلى خلق الإنسان العربي الجديد، كما يستنتج قسطنطين زريق . وضمن هذا السياق يمكن فهم قيمة اقتراحه الذي دعا فيه إلى تأسيس "مؤسسة الدراسات العربية" من أجل دراسة الواقع والإمكانيات والمشاكل المشتركة .
لقد شكلت هذه المقدمات النظرية أساس نظريته العملية، التي جعلت من العمل محك ومعيار ومقياس وأسلوب بلوغ الأهداف الكبرى. فهو لم يقف عند حدود الفكرة العامة عن ضرورة العمل، بل ووضع لها متطلباتها الدقيقة. فقد شدد زريق على أن آرائه أقرب ما تكون إلى متطلبات وإدراك مهماتها. الأمر الذي جعل من فكرته بهذا الصدد شيئا أقرب ما يكون إلى نظرية الجهاد العقلانية. وبالتالي يمكن دعوة نظرته التاريخية بتاريخ الجهاد والعمل. ومن الممكن رؤية كل ذلك بالأخص في جميع كتاباته المتأخرة، وبالأخص موقفه من النكبة الأولى والثانية (النكبة مجددا). إذ نراه يعتبر التاريخ نتاج جهاد النفس وجهاد الطبيعة . مع ما ترتب عليه من اعتبار العمل مقدمة ضرورية للإبداع الحضاري. وأدرج فيه ما اسماه بمتطلبات ضرورية ست هي "متطلبات العمل التاريخي المبدع". وأدرج فيها كل من صحة الإحساس بالحاضر وحدة هذا الإحساس، والتطلع إلى المستقبل والإقدام عليه، والإبقاء على الصلة بالماضي بوصفها صلة إدراك وحكم واستلهام وتسامي، والشعور بالقدرة على الاختيار والاستعداد على تنفيذه، والشعور بحدوده، وأخيرا اعتبار الإنسان نفسه خاضع لحكم التاريخ . وتوصل بأثر ذلك إلى استنتاج عام يقول، بأن "إحساس الإنسان بالمشكلات الحاضرة وضرورة حلها على ضوء رؤى المستقبل وبروح الأمانة للتراث وشعوره باختباره وقدرته وبقيوده وحدوده. إن هذا كله يملأ نفسه روعا وهيبة" .
ولا يعني هذا في الوقع سوى تناسق فكرة النقد والحرية، أي تأمل الماضي والحاضر والمستقبل بمعايير الرؤية التاريخية والحضارية العصرية. وهذا بدوره ليس إلا الوجه الآخر لفكرة الحرية كما فهمها قسطنطين زريق. إذ ليست حقيقة هذه الروعة والهيبة سوى الحرية بمختلف مستوياتها ومظاهرها، بوصفها إبداعا عقليا صرف. وليس مصادفة أن تتخلل فكرة الحرية الرؤية القومية لقسطنطين زريق كما لو أنها النسق الساري في كل ما كتبه، بوصفها تنظيما متصفا بفكرة الحداثة. بحيث نراه يحولها إلى عنصر جوهري في نظراته التاريخية. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن "كل عمل منتج مسبوق بالحرية والاختيار. وأن قيمته متوقفة على مدى الحرية التي يتمتع بها المرء" . ليس ذلك فحسب، بل وأن فكرته العامة والأساسية عن "الثقافة التاريخية" بوصفها القوة الفكرية والروحية القادرة على توحيد الذات الفردية والاجتماعية والقومية بمعايير الرؤية العقلانية والإنسانية، كانت تهدف أساسا إلى إرساء أسس الإطلاق والتحرر، أي الحرية والإبداع الأصيل.
لقد وضع زريق فكرة الحرية في أولوية القضايا التي ينبغي فهمها وحلها في المشروع القومي العربي . بحث نراه يجعل من الحرية فكرة جوهرية في "الحكم على التاريخ". وينطلق بذلك من أن جوهر الإنسان هو قابليته للتحرر واكتساب الكرامة الذاتية. أما الإبداع التاريخي فهو فعل الحرية (الفردي والجماعي) للتخلص من النقائص الذاتية العقلية والخلقية والروحية . وفيما لو تجاهلنا ضعف دقة التعبير في مفاهيم ومقولات في كتابات قسطنطين زريق، فان مضمون أفكاره القائلة، بأن "الإبداع التاريخي لا يأتي من الخضوع المطلق للتاريخ، بل يتطلب نوعا من التحرر"، وأن "الاتجاه المستقبلي يتميز بالثورية والتحرر، لكنه يجهل أو يتجاهل تاريخية الإنسان" وغيرها، تشير إلى حدسه الحقيقة القائلة، بأن حقيقة التاريخ المبدع هو التاريخ الحر والمستقبلي. ونعثر على ذلك في محاولاته وضع منظومة من المقاييس الضرورية للحكم على إبداع الثقافة بوصفها مقدمات الحرية. لهذا نراه يدرج ضمن مقاييس التقدم الحقيقي في الحضارة خمس وهي كل من إدراك فهم إسرار الطبيعة وتطورها الفعلي (في التكنولوجيا والتطبيق)، وتعميمها النظري الفلسفي، والإبداع الجمالي (الأدب والفن)، والتطور الأخلاقي (مراتب الخير والفضائل)، وأخيرا تحصيلها جميعا في إحراز الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية وفي العدل والمعرفة والعلم . ذلك يعني أنه جعل من هذه المقاييس معيارا للحرية، تماما بالقدر الذي تكشف فيه عن وحدة أو معاني الحرية والكرامة. وجعل منه ما اسماه بالمعنى القوي للأثر في "إشاعة الحرية والكرامة" .
وبهذا يكون قسطنطين زريق قد جعل من معنى الحرية جوهر التاريخ وحكمه. ووضع ذلك في عبارة تقول، بأن "حكم التاريخ في نهاية المطاف هو حكم في مقدار إدراكنا لحريتنا، ومقدار تحقيقنا لها" . أما حصيلة كل ذلك فتقوم في وصوله إلى الحكم القائل، بأن "كرامة أي فرد أو أية امة هي حصيلة الحرية الحقيقية التي يتمتع بها الفرد أن تنعم بها الأمة. وهذه الحرية هي بدورها نتيجة لتحقيق القابليات التي يتميز بها الإنسان من الإدراك العقلي والسمو الأخلاقي والروحي والفعل المبدع الناتج عنهما" . وبالتالي، فان بلوغها الممكن والواقعي والضروري يكمن في الكفاح من اجلها، بوصفها تاريخا وتصنيعا له. فعندما يعتبر التاريخ (بما في ذلك النظر إليه من حيث نتائجه) متوقفا على إدراك الناس لمعنى الحرية وحقيقتها، فانه يقسم مواقف الناس وتياراتها إلى من ينظر إلى مشكلاته الآنية فقط، وإلى من يعتقد ويشعر بالصعوبات التي يواجهها، لكنه يعتقد بأنها بقضاء وقدر، ومن يعمل ويهتم به لكنه رجعي. ووجد فيهم "فئات لا تصنع تاريخا". ذلك يعني أن صنع التاريخ مرتبط بفكرة الجهاد العملي والثقافة التاريخية المؤسسة بمعايير ومقاييس الحضارة المعاصرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رفح: اجتياح وشيك أم صفقة جديدة مع حماس؟ | المسائية


.. تصاعد التوتر بين الطلاب المؤيدين للفلسطينيين في الجامعات الأ




.. احتجاجات الجامعات المؤيدة للفلسطينيين في أمريكا تنتشر بجميع


.. انطلاق ملتقى الفجيرة الإعلامي بمشاركة أكثر من 200 عامل ومختص




.. زعيم جماعة الحوثي: العمليات العسكرية البحرية على مستوى جبهة