الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القاعدة الاجتماعية لسلطة 14 تموز مقارنة بالعهد الملكي : (1-6)

عقيل الناصري

2021 / 2 / 1
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تبني القاعدة الاجتماعية لأي مجتمع، على علاقات الانتاج وأساسها هو علاقة ملكية وسائل الانتاج والتي بدورها تنقسم إلى الملكية الاجتماعية (ظهرت حسب تاريخية ظهورها: ملكية العشيرة والقبيلة والكومون والملكية العامة أو ملكية الدولة والملكية التعاونية) ؛ والملكية الخاصة (ظهرت في ثلاثة أشكال: الملكية العبودية والملكية الاقطاعية والملكية الرأسمالية) وعليه يشكل، على هذين النمطين من الملكية، انتاج الثورة المادية التي هي أساس وجود وتطور للمجتمع الإنساني، بمعنى أن كل العلاقات الاجتماعية تتبع لعلاقات الانتاج ومن ثم تفسير مسار التاريخ الإنساني. .
وأن التحليل الجدي والنظري"... للطبقات مهمة في غاية الصعوبة إذ أنه يستلزم، من ناحية، فهم الاتجاهات والمعوقات الموضوعية للبنية أو البنى الاجتماعية التي تشكل الطبقات جزءاً لا يتجزأ منها و يستلزم من ناحية أخرى الضلوع في معرفة كمية هائلة من التفاصيل وخصوصاً تلك المتعلقة بالأفراد والعائلات الذين لهم تأثير اقتصادي وسياسي فعلي وبالعلاقات المتبادلة فيما بينهم... ".
ومما يزيد من صعوبة التحليل هو الظروف المادية الملموسة لماهية منطلق التحديث، الذي يحددها السيسيولوجي القدير د. فالح عبد الجبار، في البلاد العربية مقارنةُ بما كان عليه في أوربا والتي أنطلق فيها "... التحديث من الوجود الاجتماعي أولاً, من وسائل التعامل مع الطبيعة وبتحديد أدق عبر الانتقال من الحرفة اليدوية القروسطية البليدة إلى المانفكتورة الحديثة, أنه انتقال محفوف بانبعاث ابسمولوجي (معرفي) علمي تطبيقي (الفيزياء, الرياضيات..الخ) سرعان ما شق طريقه إلى الفلسفة (أي مجال الفكر الاجتماعي) الحاضنة الشاملة لكل العلوم الطبيعية والاجتماعية عهد ذاك. كان بطل التحديث الفعلي:المنتج البرجوازي وكان حليفه الفكري رجل العلوم الطبيعية والفيلسوف اللذين كانا في أحيان كثيرة شخصاً واحداً.
انطلق التحديث في بلداننا من ميدان الفكر الاجتماعي ولم يشق طريقه إلى الوجود الاجتماعي وكان بطله التاجر القروسطي, بمحدوديته التاريخية والفكرية والمقيدة بدولة مركزية مالكة لكل شيء ومانعة بالتالي لظهور المنتج البرجوازي المستقل... وفي مجرى التطور أنبثقت شروط نشوء المنتج البرجوازي، لكنها ظلت كسيحة وأنتقلت مهمات المنتج إلى الدولة، التي تبرز اليوم في بلداننا كمالك ومنتج وراعٍ اجتماعي. وهذا الدور محضها حقاً شاملاً جعلها سيدة المجتمع المدني الذي أنجبته، وليس نتاج هذا المجتمع الذي خلقها في أوربا ... " . وهذا ما ميز المرحلة الملكية (أب 1921- 14 تموز 1958) ومنذ تأسيسها حيث غرست بعض بذور التحديث في العشرينيات ومن ثم ظهور نواتات النمط الرأسمالي منذ نهاية الاربعينيات وتأسيس غرفة التجارة والصناعة وسريان فكرة التعامل الاقتصادي بين المؤسسات رغم ما يكتنف ذلك من كونها "... حداثة تقليدية، أو بتعبير هشام الشرابي هي (مجتمع بطريكي حديث)، أما بديلها الديني المطروح فهو تقليد محدّث. وينطوي الأثنان، بقدر ما يتعلق الأمر بالبنيان السياسي، على بذرة نفيهما الخاص وتجاوزهما الذاتي من داخلهما، طالما أن البنية السياسية الواحدية ليست نتاج منظومة فكرية، بل نتاج علاقة محدودة وخاصة جداً بين المجتمع المدني والدولة... "،( التوكيد منا – الناصري).
لقد احتاجت أوربا أكثر من قرنين حتى تنتقل إلى ما هي عليه من حيث استتباب التبلور الطبقي في بُعده الرأسمالي، واحتاجت سنوات أضعاف ما ذكر، حتى انتقلت من العبودية إلى الاقطاعية ومن هذا الأخير إلى المجتمع الرأسمالي. كما كانت منظومة العلاقات الاجتماعية والثقافية والروحية والنظم السياسية، في تغيير مستمر وصراع حاد طال كل المكونات الاجتماعية وبعمق أكثر مما نحن عليه في العراق الجمهوري من حيث المدة الزمنية والكلفة الاجتماعية، إذ كان من تكاليف التطور الأوربي، الصراع الطبقي الحاد بالمفهوم العام، كلفها حروباً داخلية وخارجية وانتهاكات فضة للفرد وحقوقه الطبيعة والمكتسبة، وتسلطت دكتاتوريات قمعية استبدادية المظهر والجوهر. وقد كان هذا التطور نتاج نضال الطبقات والفئات المستَغَلة لأجيال عديدة. وعليه فإذا كانت الأفكار الدينية ملائمة للتحول إلى المجتمع الاقطاعي. فقد كانت الأفكار العلمانية (بمعناه العام ليست نقيضة للفكر الديني بالضرورة) تمثل الالهام الروحي لمرحلة الانتقال من الاقطاعية إلى الرأسمالية.
وسيلاحظ المرء عند تحليل التاريخ السياسي لأوربا الرأسمالية في اتجاهه العام، تلك الأزمة البنيوية التي رافقته، والمتمثلة في: طبيعة تركيب السلطة السياسية وعلاقاتها بالطبقات الاجتماعية المتناقضة في المصالح والرؤى ؛ وفي كيفية حل هذه التناقضات ذات الطابع التناحري. ومن تعبيرتها هي الأزمات الإقتصادية التي تمر بها منذ أول أزمة في اربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن التاسع عشر حتى أخذت تتقلص الفترات الزمنية، بين أزمة وأخرى حتى أصبحت دائمة وملازمة للرأسمالية.
ومن جانب آخر توضح صيرورة التطور التاريخي البشري أن مجتمع العبيد كان ذو وعي ميثولوجي أسطوري، في حين كان المجتمع الاقطاعي في علاقته بالعالم دينياً، أما الوعي السائد في المجتمع الرأسمالي فهو ذو طبيعة صنمية. وتؤكد تجليات الوعي الاجتماعي هذه على أن العام أكثر من الخاص، وجميعها تصنع وعياً مزيفاً لا يختلف في بنيته إلا بالمظهر الخارجي حسب. وسيكون هذا الوعي أكثر تشوهاً في المجتمعات المتخلفة ذات الانماط الاقتصادية المتعددة والإنتقالية، حيث يقترن الوعي الميثولوجي بالديني وكلاهما بالصنمي، مما يولد حالة من الانغلاق الفكري الذي يكرر أفكار ثابتة وينتج لغة تديم الانفصال بين الدال والمدلول أو اقامة صلات وهمية بينهما، "... إن هذا التمازج بين هاتين الظاهرتين، أي وجود جماعة مغلقة وامكانية انفصال منتجات الفكرعن العالم. وإن هذا التمازج هو أحد منابع السكون والثبات ما نجده جلياً في البنى السياسية وفي طرق صياغتنا للبنى الفكرية. وإذ تتغذى الواحدة من الأخرى، فإننا نجد أنفسنا في حومة الدوران حول النفس، في خشية دائمة مما نصنع... وننسب إلى السكون والثبات قدسية خالصة، نضع التغيير في مرتبة البدع المدنسة... ".
مما يؤدي إلى كبح دور الوعي الاجتماعي باعتباره قوة دافعة للتطور نتيجة هذا التداخل المتعدد الأبعاد، الذي سينعكس في الرؤى غير الواقعية وتلك الميتافيزيقية التي ستكبحان التطور، طالما أن الاقتصاد وأوالية (ميكانزم) صيرورته لم تصل بعد إلى [ الكائن بذاته] في مثل هذه المجتمعات النامية أو (المتخلفة)، اختر ما شئت.
أي أن التطور الاقتصادي المشوه وتبعيته إلى المراكز الرأسمالية أفرز قوى طبقية متشابكة المصالح مع هذه المراكز وتتناغم مع مصالحها "... الأمر الذي أضفى على سلوكها السياسي طابعاً عدمياً إزاء مصالح البلاد الوطنية... " بصورة عامة.
ويمكن "... وصف السياسة خلال الحكم الملكي العراقي، بأنها صراع مستمر بين أعضاء النخبة من أجل القوة والنفوذ الشخصي على حساب بناء قيم وممارسات عملية جيدة (كالكفاءة والخلق والمبادرة)، حيث كان الأفراد يقيمون وفق معايير شخصية لا موضوعية (الحسب والنسب والصداقات) ومن ثم تطبيق الأحكام والقوانين وفقاً للإعتبارات الشخصية... ".
أدت الظروف الموضوعية للعراق الملكي وتشكله، بفعل عوامل خارجية ، أضافة لعوامل الاجتماعية /تاريخية /اقتصادية وتبعية اقتصاده لدول المتروبول، أدى كل هذا إلى تخلف القوى المنتجة وبالتالي، كأحدى نتائج هذا التخلف، عدم تبلور الطبقات الحديثة وتخلف المؤسسات الاجتماعية وهشاشة مكوناتها وقدرتها على إعادة انتاج ذاتها وتطويرها على وفق قانونيات التطور وسننه. وعليه توضح تاريخية النظام السياسي، من الناحية السيسولوجية، للعراق الحديث لغاية الجمهورية الثانية (9 شباط 1963- 9 مايس 2003)، أنه لم يكن محكوماً من قوى دينية صرفة ولا علمانية صرفة، بل خليط مشترك من هذه القوى بل وحتى من تلك ذات الطبيعة القديمة جداً المتميزة بالسكونية القسرية المريبة، لذا لم يُخلق وعياً اجتماعياً نقياً يتوائم مع طبيعة السلطة وفلسفتها، ولا العصر ومتطلباته. لقد تجلى ذلك في بعض أوجهه على سبيل المثال في مسألة الهوية الوطنية كتعبير عن الوعي السياسي "... حيث كان الاجتهاد السياسي ينحو باتجاه مراعاة الهوية الصغرى (أحيانا يطلق عليها الهويات الفرعية -الناصري) لدى المجتمع العراقي لأنها ما تزال تكون شخصية الفرد وتفرض ملامحها عليه وأي انتقال مفاجيء من الدائرة الصغرى إلى الكبرى (الهوية الوطنية -الناصري) قد يسبب نوعاً من الاضطراب المجتمعي... ".
في الوقت نفسه كان واقع العراق بعد 14 تموز"...شديد التعقيد والتشابك من جهة، ومن جهة ثانية هنالك عناصر قوة وضعف كامنة في تركيبته الاجتماعية وكأنها وحدة النقيضين، ومن جهة ثالثة أن الظاهرة العراقية الحديثة يكتنفها، كما أكدنا سابقاً، تعزيز لدور العامل الخارجي على العامل الداخلي، وفي أسوء الأحوال يلعب هذا العاملان دورين متساويين من حيث التأثير على جوهر وماهية الظاهرة العراقية.. ".
لقد عاضدت ثورة 14 تموز، التي هي بمثابة انقطاع تاريخي ناجم عن عوامل داخلية بحته وقليلا من عوامل خارجية يقف على رأسها تحكم بريطانيا بالسياسة الخارجية وربط الاقتصاد العراقي بها من خلال الارتباط بالعملة البريطانية، تطلعت مركزية الدولة بعد الثورة الثرية إلى وحدة السوق وتبني الانتاج المادي وخاصةً الصناعي منه، اللذان يمثلان قوة العضد المادي لها، وقد اقترن ذلك بتأسيس المنطلقات العلمانية. تمثل هذه الصيرورة السياق العام لدول الشرق الأوسط، حيث كان ينزع منذ التاريخ السحيق نحو الدولة المركزية القوية والمدعومة من مؤسساتها العنفية المادية، والدينية على وجه الخصوص.
أن ثورة تموز بهدمها للبنى والمؤسسات شبه الاقطاعية القائمة على الاقتصاد الزراعي /الحرفي ؛ والكمبرادوري في التجارة ؛ والريعي في قطاع النفط، فإنها نحت عملياً نحو تعددية الانماط الاقتصادية ذات (التوجه الرأسمالي الموجه) بصورة عامة، وفي اعتقادي أنه الأكثر ملائمة مع الظروف الموضوعية والذاتية للمجتمع العراقي ومستوى تطور قوى الإنتاج المادي، وتحديثها على وفق ماهية الاقتصاد العراقي، وبناء القاعدة المادية لاقتصاد السوق الموحد من خلال الربط الاقتصادي بين الريف والمدينة، وتحديث البناء التحتي من طرق وتعليم ومستشفيات ...الخ، مما فسح المجال موضوعياً لإزالة قوى التلاحم القديمة، أو على الأقل التغير من ظائفها، وتستدعي إلى الوجود قوى اجتماعية جديدة.. وهذا ما تحقق في الواقع بعد ثورة 14 تموز، إذ أفسح المجال اكثر فاكثر للمنتجين البرجوازيين (منطلق التحديث الجديد) وتوسعت قاعدتهم العددية سواء في المدينة من خلال التسهيلات والمحفزات الاقتصادية، أو في الريف حيث ضمن قانون الاصلاح الزراعي توسيع قاعدة المنتجين الصغار. لم تكن هذه الصيرورة التحديثية بدرجة كبيرة (مقارنةً بما كان مطلوباً ومرغوباً) نظرا للظروف التي تسود عالم الأطراف وتبعيتها للدول الرأسمالية المتطورة والضعف البنيوى سواء لقوى التحديث فيه أو قوى الانتاج وتطورها، الذي أنعكس في أحد أوجهه في طبيعة السلطة السياسية وصراع القوى الاجتماعية الفاعلة. هذه الظروف وغيرها، أناطت بالدولة الدور الأراس في عملية التحديث، وهذا في بعض نواحيه مرتبط بكون أن " ... الأشكال التكنولوجية الحديثة للانتاج، تطلبت أن تقوم الدولة مقام مالك ومنتج جماعي يضفي عليها سلطاناً أشد من سلطان الدولة المركزية الغابرة في العصور الخوالي أو سلطان الدولة المركزية الخراجية في القرن التاسع عشر... ".
الهوامش:
- الموسوعة الفلسفية، بإشراف روزنتال ويودين، ص. 299، مصدر سابق.
2 - بطاطو، ج. الأول، ص. 21، مصدر سابق.
3 - د. فالح عبد الجبار، معالم العقلانية والخرافة، صص. 33-34، مصدر سابق.
4 - المصدر السابق، ص. 35.
5- فالح عبد الجبار، في الديناميكية والسكون، جريدة المدى، ط. الالكترونية في 8/10/2007.
6- لطفي حاتم، العولمة الرأسمالية وهوية اليسار الفكرية، الحوار المتمدن 25/2/ 2007
7-د. نزار توفيق الحسو، الصراع على السلطة في العراق الملكي، دراسة تحليلة في الإدارة والسياسة، ص. 24 ، طبع بمطابع دار آفاق عربية ، بغداد 1984
8- "... دأب الاستعمار البريطاني منذ السنوات الأولى لإحتلاله العراق على خلق قاعدة اجتماعية ترتبط مصالحها بوجوده وتدافع عن مصالح التحالف الاستعماري الاقطاعي فقد عمل بكل السبل على تجريد الفلاحين من الأراضي التي كانت ملكاً للعشيرة وتسجيلها بأسماء رؤساء العشائر الموالين له، وفي فترة الانتداب (1920-1932) منحت السلطة الموالية للإستعمار أراضي الدولة للموظفين الكبار والتجار بإصدارها قانوني اللزمة والتسوية كما منحت الشيوخ سلطة قضائية في قانون دعاوى العشائر الجزائي والدني وبذلك رسخت ووطدت الاقطاع والعلاقات شبه الاقطاعية... ". د. سعاد خيري، ثورة 14 تموز، ص. 17، مصدر سابق.
9 - د.عماد مؤيد، سيسيولوجيا أزمة الهويات في العراق، جريدة الصباح، ط. الالكترونية في 20/9/2007
10- للمؤلف، الكتلة التاريخية، جريدة القاسم المشترك، العدد40 في 22/2/2004، بغداد.
1 - د. فالح عبد الجبار، معالم العقلانية والخرافة. ص. 48. مصدر سابق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التوتر يشتد في الجامعات الأمريكية مع توسع حركة الطلاب المؤيد


.. ما هي شروط حماس للتخلي عن السلاح؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. استمرار تظاهرات الطلاب المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمي


.. وفد مصري إلى إسرائيل.. ومقترحات تمهد لـ-هدنة غزة-




.. بايدن: أوقع قانون حزمة الأمن القومي التي تحمي أمريكا