الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبقرية محمد الأحمد صانع السقف الجديد للإبداع السينمائي

حكيمة لعلا
دكتورة باحثة في علم الاجتماع جامعة الحسن الثاني الدار البضاء المغرب

(Hakima Laala)

2021 / 2 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أن موضوع مقالنا هذا هو حول الخلق الإبداعي للممثل السوري محمد الأحمد في أدائه الدرامي. قد يبدوا الأمر غريبا في أول الأمر فمن المعتاد أن نخصص حيزا فكريا للتقييم بشكل إجمالي عمل درامي بأكمله، وقد يكون هذا التقييم في معظم الأوقات ذات طابع نقدي أخلاقي أو إيديولوجي أو فني، ولكن ليس من المعتاد في عالمنا العربي أن نكتب في إطار سوسيولوجي أو أدبي عن أداء إبداعي لممثل معين. لقد جرت العادة أيضا أن نكتب عن مفكرين وعن أدباء وعلماء... في حين، قليلة هي الكتابات التي تشتغل على الإبداع الفني أو عبقرية ممثل في إطار الفن السابع في العالم العربي. ربما لان هذا الأخير ولحد ألان يعتبر مادة استهلاكية ترفيهية ليس لها أي فعل تغييري في المجتمع، إلا أن العكس هو الصحيح. فالخطاب الدرامي والتشخيص أو تقمص الشخصيات من طرف الممثل يتلون بأدائه وقدراته التعبيرية ويكتسب مشروعيته الاجتماعية من أدائه. فلا يكفي أن يكون السيناريو قويا لكي يخترق المشاهد ويتأثر به. إن قوة أداء وتشخيص الأدوار هو أساس تفاعل الجمهور، فهو يتفاعل قبل أي شيء من الأداء.
إن هذا الأداء هو الذي يهمنا عند الممثل السوري محمد الأحمد ، فعبقريته في الأداء تخلق الفارق في كل تشخيص لأي دور قام به . لقد ابتكر هذا الأخير نموذجا جديدا للعبة الدرامية ومن هنا رفع سقف الأداء الدرامي وأصبح متميزا في كل دور جديد يقوم به. انه كذلك بعيد عن الابتذال أو الاستهلاك في أداء أدوار معينة أو دور خاص. انه بعيد أيضا عن الاستهلاك لوسامته وجماله والتي كانت من الممكن أن تكون من جهة عنصرا مسهلا للحصول على ادوار متشابهة ومن جهة أخري عائقا في تنوع أدواره وقوتها. ان عبقرية محمد الأحمد تتجلى في مجموعة من المشاهد الخالدة التي يعيدها المشاهد عدة مرات فتزداد جمالا وقوة.
ومن هنا نطرح السؤال مالذي يجعل أداء الممثل محمد الأحمد سقفا جديدا في الدراما العربية؟ وماهي المقاييس التي تعطيه خصوصية الامتياز؟
إن أول مقياس مؤسس للفعل الدرامي عند محمد الأحمد هو تجاوزه لذاته، بما معناه كيانه الجسدي والنفسي فهي أداته التي يطورها ويطوعها لخلق البديل المبدع . في هذا التجاوز يتخطى صورة الذات والأخر. ففي إبداعه الفني يتجاوز كل الحدود الممكنة التي تقيد الشخص عن البوح. انه دائما في عملية بوح مفتوح، فذاته تتكلم بكل جوارحها النفسية والجسدية ونبرات صوته تتلون في تعابيرها لتلبس إحساس النفس والروح. في كل أداء يتخطى حاجز الصورة الاجتماعية ويخاطر من جديد بعمل جديد وبجهد جديد وعبقرية أداء قد تبهر المشاهد أو المتتبع للعمل الدرامي.
أما ثاني مقياس فهو شخصيته أو كيانه الفكري والمجتمعي، عندما نحاول التعرف على شخص محمد الأحمد ندرك بسرعة أن شخصيته الخاصة بعيد جدا عن البهرجة الإعلامية
ولا يتحدث عنها إلا باقتضاب شديد، في حين ورغم قلة مقابلاته الصحافية، فهو متجدر بفكره في الحياة الاجتماعية اليومية والإشكاليات الإنسانية الكبرى. ففي كل حديث عن أحد أدواره يتجاوز الفعل الدرامي ليطرح النص الدرامي كواقع اجتماعي وثقافي يحاول الفعل فيه من خلال فنه. فهو ليس فقط ممثل مؤدي لدور معين بل له كذلك تواجد فكري في بناء الدور واستيعابه على نطاق مجتمعي وثقافي وانساني.
يأتي ثالث مقياس وهو قدرته على صناعة الدور وخلق شخصية ما من العدم لتصبح جزءا من الواقع، انه يقرر في المنحى آو الاتجاه الذي سيذهب إليه في أدائه للدور. في أخر أعماله التي تعرض حاليا مسلسل "عروس بيروت" في دور أدم، يبهر محمد الأحمد الجمهور ويفاجئهم بدور مركب ومعقد ليسافر بهم من الكره للحب ومن الرفض للتعاطف ومن فعل الشر إلى مفهوم المعاناة الإنسانية التي تغير مجرى حياة الإنسان. انه يجعل المشاهد يسافر بسرعة في مجموعة أحاسيس مختلفة متناقضة ومتداخلة، يقول في حديثه عن هذا الدور "كل واحد فينا فيه جزء من ادم" بل يقوم بتحليل الشخصية وأبعادها الإنسانية وفعل صيرورة الإنسان وتداخلها مع المجتمعي لتعطي الفرد في توازنه أو في اضطراباته. من أقوى الأدوار الجديدة التي قام بتجسيدها هي شخصية الأمير أبو طلحة بطل مسلسل "غرابيب سود" والتي صنعت الوجه الجديد للمتطرف الديني القاتل والتي تشكل من الآن فصاعدا النموذج أو سقف قياس الإبداع الدرامي لهاته الشخصية. يقول في احد لقاءاته حول شخصية أبو طلحة انه قرر أن تتواجد الشخصية في ثنائية الفعل الإنساني الذي يحمل في طياته الخير والشر، ومن هنا ابتعد عن المشهد الكلاسيكي المستهلك في أداء دور المجرم الشرير البعيد كل البعد عن الإنسانية، ليدمج شخصية أبو طلحة القاتلة التي تعاني من اضطراب عصبي في إطار الفعل الإنساني الغير السوي، ولكي يسافر بنفس الشخصية إلى عالم إنساني شبه سوي في علاقته مع حبيبته مليكة. إن القيام بهذا الدور الذي تطلب منه مجهودا وأتعبه حسب تصريحاته، هو بناء فكري للممثل محمد الأحمد قبل أن يكون أداء لدور درامي. هناك ادوار أخرى تؤكد القدرة الفكرية والإنسانية ناهيك عن قوة مخيلته في صنع شخصياته التي هي في الأصل شخصيات ورقية ضاربة في العدم. نفس قوة الخلق الفني نجدها في مسلسل "أخر الليل" في دور صلاح الذي يحمل صفة "مكتوم القيد" أو في مسلسل "فرصة أخيرة" في دور حازم، الذي يجسد الشخصية الضائعة بين التزاماته اتجاه الأخر واتجاه نفسه، في معاناته الشديدة في محاورة الموت والحياة، في بعده الإنساني والقيمي الذي يدفع به في كثير من الأحيان لمواجهة اقرب الناس إليه. من أروع الأدوار التي قام بها دوره في فيلم "رجل وثلاثة أيام" من إخراج جود سعيد. دوره في هذا الفيلم يحتوي على جزء كبير من المنولوج، يطرح الفيلم بشكل درامي عنيف إشكالية الإنسان في علاقته بنفسه بواقعه، بالأرض والوطن والحرب، يطرح كذلك إشكالية القيم مثل التضحية والشر والخير والانتماء. توج على هذا الدور بجائزة أحسن ممثل في مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر الأبيض المتوسط لسنة 2017. أما "فيلم مطر حمص" فهو الوجه القاتم لازمة سوريا، جسد فيه محمد الأحمد كل قوة الانتماء للأرض، والصراع من اجل الحياة والأمل.
رابع مقياس لتميز الممثل محمد الأحمد هو إدماجه للشخصيات وتملكها ، إن لمحمد الأحمد قدرة عالية لإدماج الشخصيات وتملكها وكأنه يقوم بعملية تماهي مع الشخصية التي يجسدها. هذا التماهي يطفوا على شكله وملامحه وصوته ونفسيته بشكل مهوس، فيتحول إلى الشخصية التي يقوم بأدائها كليا، إن كان هذا الدور هادئا أو عنيفا. هذا الفعل في كليته يتطلب قدرة عقلية وذهنية فائقة للضبط النفسي والجسدي والحركي وفي نفس الوقت حماية الممثل لكيانه الشخصي والنفسي من الانهيار. من جهة أخري يتطلب هذا الفعل تكوين وتداريب وممارسة أكاديمية على المستوى المنهجي والتقني. وبشأن هذا التميز صرح هذا الأخير في إحدى مقابلاته حول مسلسل "أخر الليل" بحيث قال إن الإبداع هو نتيجة عمل ومثابرة. وربما تصريحه بأنه لايقلد أحدا هو تعبير عن نوع من الانزعاج من بعض الأقوال التي تقول بأنه يحاكي بعض الممثلين الآخرين أو تشبيهه ببعض الممثلين العرب أو العالمين. إن هذا النوع من المقارنة يجعلنا نقع في اغلب الأحيان في تنميط الفعل الإبداعي ولا نترك مجالا للتنوع ومن هنا نصنع دائما حدا سقفا سميكا للحد من الإبداعات الجديدة. إن عبقرية محمد الأحمد لم تعد في حاجة للتأكيد أو البرهان بل هو السقف الجديد للإبداع الدرامي.
أما المقياس الخامس وهو اعتماده على تقنية السرعة والمفاجئة في ردود أفعاله، إن عنصر المفاجئة والسرعة تظهران في انسياب أدائه للدور بدقة عالية، مع العلم انه يعيش في نفس المشهد حالات متداخلة مكثفة في الإحساس، في نفس المشهد. إن السرعة في الحركة هي أيضا جد حاضرة في أدائه، فالمفاجئة لاتأتي دائما عن طريق الخطاب بل كثيرا عن طريق الفعل أو الحركة. فمن الحركات التي تلفت النظر في أدائه هي حركة وقوفه في حالة استعجال أو تشنج فهو يقوم بشبه حركة قفز. هاته الحركة في ذاتها تخلق المفاجئة مع إحداث صوت بكعبي الرجلين. يعتمد كذلك على المباغتة والتنفيذ السريع للفعل بسرعة كبيرة وهناك مشاهد كثيرة في مسلسل غرابيب سود. إن فعل المفاجئة والمباغثة بسرعة كبيرة تأتي من الانضباط بقوة عقلية للحركة ، هاته الدقة في الحركة لها تأثير كبير في شد انتباه المشاهد .
انطلاقا من المقاييس التي ذكرناها سابقا فان عبقرية محمد الأحمد خلقت نموذجا درامي جد مركب ومتداخل في الأداء. لقد بلورت سقفا جديدا ومنيعا حاليا في الدراما العربية، انه يخلق تجربة بعد تجربة نموذجا خاصا به. ولهذا فان الفعل الأدائي السينمائي عند الممثل السوري محمد الأحمد لايأتي فقط كمحاكاة أو كتقنية مكتسبة وإنما من قوته الفكرية والإبداعية في الخلق من الشخصيات الورقية التي يقوم بتجسيدها واقعا حيا. إن قوة الأداء عنده تخلق عند الجمهور تفاعلا قويا، فقدرة هذا الأخير تجعل المشاهد يتفاعل معه بل قد يحاكيه في الفعل كنموذج للتغيير وتغيير المواقف والرؤيا للأشياء والأفعال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من ساحة الحرب إلى حلبة السباقات..مواجهة روسية أوكرانية مرتقب


.. محمود ماهر يطالب جلال عمارة بالقيام بمقلب بوالدته ????




.. ملاحقات قضائية وضغوط وتهديدات.. هل الصحافيون أحرار في عملهم؟


.. الانتخابات الأوروبية: نقص المعلومات بشأنها يفاقم من قلة وعي




.. كيف ولدت المدرسة الإنطباعية وكيف غيرت مسار تاريخ الفن ؟ • فر