الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثابت والمتغير

مصطفى سامي
كاتب

(Mustafa Samy)

2021 / 2 / 4
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


أثناء حكم محمد علي لمصر كان مزيف النقود يعاقب بالشنق على باب زويلة وتتدلى قطعة من العملة من أنفه، وكان المحتسب يمزق أنوف بعض الجزارين ويعلق قطعا من اللحم فيها كعقاب على بيع اللحم فيها بسعر أعلى مما حددته الحكومة. أما بائعوا الكنافة الذين كانوا يغشون في الوزن أو السعر فكانوا يعاقبون بإجبارهم على الجلوس على مقلاة الكنافة وهي فوق النار.(1)
تلك العقوبات هي جزء يسير من العقوبات الجسدية التي كان يتفنن الحكام في تطبيقها على أجساد محكوميهم، ولم تكن مقتصرة على زمان محمد علي أو على المصريين، وإنما ظلت على مدى قرون تطبق على نطاق واسع.
ولازال البعض حتى يومنا هذا يتحدث عن تطبيق العقوبات الجسدية كقطع اليد والجلد والرجم باعتبارها أشياء مقدسة وجزءا من الشريعة الإسلامية، وهذا للأسف لأن معظم رجال الدين لايعرفون شيئا عن علوم الاجتماع والتاريخ والسياسة والعلوم الطبيعية ولايستطيعون التفرقة بين ماهو مقدس ثابت لايتغير بتغير الزمان والمكان وبين ماهو خاضع لظروف المجتمع والسياسة وقابل للتغيير بل يصبح أحيانا حتمي التغيير فيخلق صراعا داخليا في نفوس من يعتقده مقدسا لايتغير قد يتطور إلى صراعات خارجية بينه وبين مجتمعه وعالمه حين يقرر أن بمقدوره إعادة عجلة التاريخ للوراء وهو مايستحيل فعله.
تلك العقوبات الوحشية التي طبقها محمد علي كانت مستندة في زعمه على الشريعة الإسلامية التي أباحت مبدأ استخدام العقوبات الجسدية، لكنها بالطبع لم تشمل كل الجرائم لأنها استمدت من زمان ومكان أقدم وأبسط كثيرا من زمان ومكان حكم محمد علي لذا فقد كان عليه ابتكار عقوبة لكل جريمة بأكثر شكل يراه قاسيا ورادعا.
وحين أدرك البشر أخيرا أن هذه العقوبات غير إنسانية أولا ولا تحقق الردع والانضباط بالشكل الكافي ثانيا بل تشجع على السخط والتمرد، وأنه يمكن تحقيق النظام والانضباط بطرق أكثر سهولة وأكثر انسانية وتستهدف رفع الوعي أكثر مما تستهدف إهانة وتشويه الجسد فقد تم تغيير تلك العقوبات وتم وضع قوانين جديدة في المجتمعات الحديثة للعقوبات وإعادة التأهيل.
إذا فالأمر ليس مرتبطا بشريعة معينة وتصوير شيء كالعقوبات الجسدية وكأنه اختراع إسلامي خالص فيه ظلم للإسلام ممن يدعون الدفاع عنه، فهو أمر مرتبط بزمان معين انتشرت فيه تلك العقوبات في معظم المجتمعات حيث كانت أجساد الحكام مقدسة وأجساد الرعية مستباحة، ولم تكن الظروف والإمكانيات والوعي يسمحون بعد بابتكار وتطبيق نظام جديد للعقوبة في المجتمع الاسلامي.
ينطبق ماسبق على الكثير من الأحكام التي يراها رجال الدين مقدسات ثابتة، وهي ليست سوى عادات فرضتها الظروف الاجتماعية آنذاك ونظمتها النصوص الدينية فقط، لكنها لم تقرر أبدا أنها صالحة للأبد ولم تمنع أحدا من تغييرها أو تحديثها طبقا لظروف كل مجتمع وكل عصر.
لذا يتحتم اليوم على كل من يتكلمون في الدين أن يكونوا ملمين بالظروف الاجتماعية والسياسية والأسباب الحقيقية وراء تلك الأحكام ليستطيعوا التعامل معها طبقا للظروف بدلا من معاملتها كمقدسات ثابتة لاتتغير والزعم أنه يمكن تطبيقها في دولة حديثة تضم آلاف المؤسسات وملايين المواطنين تماما كما تم تطبيقها في مجتمع صحراوي بدائي تفصله عنا الكثير من المسافات الزمانية والمكانية.



(1) الجبرتي، عجائب الآثار، الجزء الرابع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مبارك شعبى مصر.. بطريرك الأقباط الكاثوليك يترأس قداس عيد دخو


.. 70-Ali-Imran




.. 71-Ali-Imran


.. 72-Ali-Imran




.. 73-Ali-Imran