الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النزعة القبلية في علم الاجتماع

محمد الهادي حاجي
باحث متحصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع

(Hajy Mohamed Hedi)

2021 / 2 / 5
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


مفهوم النزعة القبلية في علم الاجتماع:
إن الإنسان كائن اجتماعي، وهو في سائر حياته في أشد الحاجة إلى أن ينتمي إلى جماعة أو أكثر، ليندمج فيها ويتكيف معها في تجانس وانسجام وتوحّد، ويلتمس فيها التقدير والاعتبار وهذه الحاجة تبدأ بالعائلة أو الأسرة لتتوسع إلى العشيرة والقبيلة.
ويعرف الانتماء بأنه"النزعة التي تدفع الفرد للدخول في إطار اجتماعي فكري وثقافي معين، بما يقتضيه هذا من التزام بمعايير وقواعد هذا الإطار، وبنصرته والدفاع عنه في مقابل غيره من الأطر الاجتماعية والفكرية" .( )
ومن هذا المنطلق فإن الهوية القبلية نزعة يعبّر عنها الفرد في سلوكه الذي يرتبط بتغليب الولاء للمجموعات القبلية، وهي نزعة تتفاوت في حضورها بين الأفراد بحسب انتماءاتهم الجغرافية والاجتماعية، خاصة أولئك الذين يفشلون في تحقيق التكيّف حيث "يبحثون عن وسائل جديدة لتحقيق الأهداف الثقافية، وقد لا يتقيد بعضهم بالمعايير المشروعة التي تقنّن سبل الوصول إلى تلك الأهداف". ( ) في هذا الإطار سَمَّى "ميرتون"هذا التكيف بـ"التكيف الطقوسي" ( )بالنسبة للملتزمين بالوسائل والأهداف المشروعة، وهناك من يفضل الانسحاب حيث يعمل الفرد في هذه الحالة على هجر أو عدم الاعتراف بكل الوسائل والأهداف المتاحة، وهو ما يجعله يلتجِئُ إلى الثقافة التقليدية والموروث الاجتماعي الذي يحقّق له الإشباع.
ويمكن القول في هذا الإطار أنّ المؤسسات والبنى التقليدية مازالت مترسّبة لدى الفرد، مما يعكس الدور الذي تؤدّيه في تحديد أو توجيه سلوك الفرد والمجموعة( )، ويجد التواصل تفسيره في مظاهر الدفاع الذاتي وتحصين الذات من أشكال الاستلاب والاغتراب والتدخّل العنيف، فاكتساحُ النمط الحضري بثقافته وتقاليده ، وتَوَسُّع برامج التنمية ونشاطات الإدارة اعْتُبِرَ بشكل لاشعوري في الغالب استمرارا لممارسات الجباية التي لم تتفاعل مع التحولات التي استهدفتها. وليس من الصّعب على الباحث تلمّس أشكال المقاومة الريفية من خلال استمرار بعض أشكال التضامن التقليدي المستند إلى بقايا الانتماء القبلي ومظاهر التجنيد القرابي"( )
كثيرا ما تتعرض النزعات القبلية للنقد من النُّخَب السياسية خاصة المطالِبة بتوحيد الولاء للدولة الوطنية، والمنادين بتآلف أبناء الأمة الواحدة من خلال الروابط القومية القطرية على أساس عدم التميز والتفرقة، وذلك بتحويل الولاء من المجتمعات الصغيرة إلى المجتمع الشامل الكبير، ومن هذا المنطلق فإن إيديولوجيا القبيلة هي في تعارض مع الإيديولوجيا الوطنية الموحّدة. وتقف الولاءات العصبوية عائقا أمام الدولة الوطنية، وهو ما يجعلها تسعى لتحقيق الاندماج الاجتماعي وبناء علاقات سياسية واجتماعية أعلى من البناء العصبوي( ).
و في هذا الإطار فإن مفهوم القبيلة قد ظهر ضمن سياق الاهتمام بسوسيولوجيا البناء الوطني والبحث في طبيعة الولاء وأشكال الظواهر القرابية ذات العلاقة بالظاهرة السياسية، خاصة وأن الظاهرة السياسية من الظواهر التي تعكس استمرارية النزعة القبلية، وتعطي دليلا على قدرة هذه البنية على التأقلم، وأخذ المبادرة والانصهار في التيار، مما يجعلها تحافظ على مقوماتها أو جزء منها، خاصة المتعلقة بالأصل القرابي والأصل الجغرافي وهي سمة للقبيلة العربية في الدول العربية المشرقية والمغربية رغم اختلافها في طبيعة حضور هذه البنية. ويتجلى هذا الحضور في الحقل السياسي كدليل على حضورها على مستوى الادعاء الذاتي كهوية أو كنزعة( ).
ولم يكن الخوض في مسألة النزعة القبلية عربيا فحسب، بل امتد ليشمل المجتمعات التي تنعت "بالمتطورة" و"المتقدمة"، وقد كان "ميشال مافيزولي"المفكر الفرنسي ما بعد الحداثي يطلق مفهوم القبلية ما بعد الحداثية كتعبير عن عناصر عتيقة خالها المجتمع قد ذهبت مع الماضي دون رجعة بفعل العقلنة والتقنية والتكنولوجيا، وهي تمظهرات "لا تدين بأي شيء الآن للبرمجية العقلانية (الفردانية)، بل هي تقوم على الرغبة في العيش مع الشبيه، حتى لو أدى ذلك إلى طرد المختلف، إنها المجتمعية المثلية التي تهيمن على كل الميادين" ( ). هذا النظام التواصلي القديم الجديد، يستعيد حضوره مرة أخرى، بعد انسحاب قسري فرضته الحداثة الغربية بقيمها العقلانية والفردانية.
وفي "زمن القبائل"تنسحب أو تتراجع التنظيرات الليبرالية والحداثية، فيما يتعلق بالفرد والحريات الفردية والعقلانية والاستقلالية، وذلك لصالح تجمعات تقوم على الرغبة في العيش مع الشبيه والمثيل، في فضاء جمعاني لا قيمة للفرد فيه إلا مع الجماعة التي ينتمي إليها. وتنشرخ هويته الخاصة وينبثق نظام اجتماعي جديد. كما يمكن الإشارة أيضا إلى "مارسيل غوشيه"المفكر الفرنسي الآخر الذي كان يفسّر هذه المجتمعية على أنها نتيجة لتحوّلات مست المعتقدات والانتماءات الجماعية في الوقت الراهن. وينطوي هذا التحول من منظور غوشيه على تغيير ثلاثي الأبعاد، فهو تغيير في الأشخاص أنفسهم، وتغيير في العلاقة مع الآخر، وتغيير مدني ينعكس في أنشطة المجال العام داخل الدولة والمجتمع.
وفيما يتعلق بالبعد الأول فإن التحوّل الذي جرى في المعتقدات والانتماءات الجماعية التقليدية، قد قلب فكرة "الذاتية"، بحيث لم تعد هذه الفكرة الليبرالية التي ترجع جذورها إلى مشروع التنوير في القرن الثامن، متحكِّمة في تصور المرء لنفسه أو علاقته بذاته. وبمقتضى فكرة الذاتية تَكُون "الأنا الحقيقية هي تلك التي تكتشفها في داخل ذاتك في مواجهة الانتماءات التي تميّز خصوصيتك، وفي مواجهة المعطيات الطارئة التي تحدك في مكان معين وفي وسط محدّد" ( )، وإذا كان عصرنا هو عصر الهُوِيّات كما يرى غوشيه، فإنّ نوع الديمقراطية التي تتلاءم معه هي "ديمقراطية الهويات"التي تقوم على الاعتراف بصفة كل جماعة أو طائفة بصفتها مكونا من مكونات المجتمع ( ).
فالصراع يتجسد حتى في مجتمع الجامعة الفرنسية وقد لاقى مافيزولي هجوما عنيفا إزاء هذا الوصف الذي أطلقه على الباحثين والأساتذة في فرنسا. ومن هذا المنطلق فإن القول بأن المجتَمعات المتطورة قد أنهت مراحلها التقليدية وعلاماتها وأصبحت من الماضي، فإن ذلك حسب مافيزولي يُعَدُّ من الوهم، أمام ظواهر اجتماعية عديدة تعيد إنتاج النزعة الجماعية التقليدية.

محمد الهادي حاجي- باحث في علم الاجتماع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تشاد: انتخابات رئاسية في البلاد بعد ثلاث سنوات من استيلاء ال


.. تسجيل صوتي مسرّب قد يورط ترامب في قضية -شراء الصمت- | #سوشال




.. غارة إسرائيلية على رفح جنوبي غزة


.. 4 شهداء بينهم طفلان في قصف إسرائيلي لمنز عائلة أبو لبدة في ح




.. عاجل| الجيش الإسرائيلي يدعو سكان رفح إلى الإخلاء الفوري إلى