الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البنيوية اللامركزية في النقد والتجديد

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2021 / 2 / 7
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


على غير الشائع أن الفقه الإسلامي جامد لا يؤمن بالاجتهاد فالتاريخ يحكي زيف هذه الرؤية بحقيقة أخرى أن فقهاء المسلمين الأوائل آمنوا بالاجتهاد فعليا، وهذا ما ادى لخروج أدوات فهم للدين مختلفة عن القرآن (كالسنة والإجماع والقياس) وكلما تطور الزمن لم يجد المسلمون جوابا واضحا لأسئلتهم وحلولا لمشاكلهم من تلك الأدوات القديمة فظهرت أدوات أخرى (كالمصالح المرسلة والاستحسان وخلافه)

إلى هنا كان الفقه الإسلامي يعمل بنشاط ومتفق مع روح عصره ويرضى عنه الناس، لكنه ظل منذ هذا التطور الأخير في القرنين الرابع والخامس الهجريين سائدا إلى اليوم لم يُحدّث ولم تظهر له أدوات جديدة وفقه جديد ومذاهب جديدة يمكن القول أنها تصلح كبديل عن القديم، وهذا سر استنكاري لمبدأ التجديد السائد في الفقه التقليدي القائم على حديث أن الله سيرسل على رأس كل 100 عام من يجدد للأمة أمر دينها، وذلك بثلاثة اعتراضات، الأول: أن التطبيق كان مختلفا بظهور مجدد لكل مذهب وجماعة هو بالأصل زعيم سياسي وديني لديهم، مما يعني أن المسلم وقتها كان متأثرا بالرمزية الدينية لشخص ما فوضعه مجددا دون أن يكون ذلك الشخص أهلا لحوار ومناقشة المذاهب الأخرى ، أو أن يجيب على أسئلة عصره بشكل حقيقي.

الثاني: أن التجديد يعني التبديل والثورة على القديم، والحاصل أن كل مجدد من هؤلاء كان مقلدا في الحقيقة ولم يخرج على إجماعات وأدوات من قبله، مما يعني أنه لو جاز لنا القول بتجديد ابن تيمية مثلا فيلزمنا السؤال فورا: ما الذي خرج به ابن تيمية على من قبله وما الأدوات الفقهية التي ابتكرها ؟ فيكون الجواب أن ابن تيمية خرج بالفعل عن بعض الإجماعات وهذا لا يجيب على السؤال الحقيقي لأن خروجات ابن تيمية كانت وفقا لأدلة فقهية ثاتبة لم تتغير منذ عصر الأئمة الأربعة من ناحية، ومن ناحية أخرى لا تصلح تلك الخروجات للاحتجاج بها من حيث الكمّ، فلو كان الرجل مجددا لمن قبله كان سيخرج بنسبة كبيرة عن الفقه القديم وليس مجرد فتوى أو اثنين كما هو حادث.

الثالث: فساد نظرية التجديد على رأس كل 100 عام فالزمان هو حالة يعيشها الفرد فكريا وفقا لأجواء معينة، مما يعني أن التجديد لو لم يخاطب تلك الأجواء ويعالجها ويتعايش معها فليس تجديدا، والحاصل أن التاريخ الإنساني يتغير بطريقة عشوائية ليست ثابتة، فقد يتغير التاريخ في 30 عام أو 20 عام أو 100 عام أو 500 عام، فليس مقياسا واقعيا أن يتغير الإنسان بمعدل ثابت كل قرن من الزمان ، وأبسط مثال تجريبي لذلك أن الإنسان تغير فكريا وتكنولوجيا ومعرفيا منذ ثورة الإنترنت قبل 20 عاماً فقط وبدأ يكتسب طباع جديدة وعالَم افتراضي جديد وسوق جديدة واقتصاد مختلف، فلو خرج المجدد قبل 90 عاما فكيف له أن يحيط بهذا التغير الهائل قبل 20 عاما فقط ليفتي من خلاله ويصبح بمقدوره حل مشاكل الفقه التقليدي والواقع الحياتي للمسلم..

مع بداية القرن العشرين لم تعد أحكام الشريعة تلك وأدواتها ومذاهبها تناسب العصر، وحدث فراغا معرفيا أدى لما يعرف ب "صدمة الحداثة" ومن أشهر مظاهرها القتال الفكري والمعارك الضارية بين مفكري الحداثة كمحمد عبده والأفغاني وأحمد خان والطهطاوي وابراهيم النبراوي ومحمد قدري باشا وقاسم أمين وطه حسين وعلي عبدالرازق ضد خصومهم، وهؤلاء في معظمهم كانوا شيوخا وفقهاء ثائرين على التراث ومعارضين للوضع السائد والممتد منذ آخر تجديد للفقه الديني على يد الجويني والشاطبي وابن الصلاح، فكان مما رفعوه من مطالب هو ضرورة توسيع نطاق الفهم الديني ليشمل علوماً أخرى حداثية ومعايشة جديدة مع الواقع وحقائق العلم لما رأوه من عدم توافق واضح بين أحكام الشريعة ومصالح الناس، أو ما بين الدين والعلم.

ولم يُحصر ذلك الاعتراض في مجال الفقه فقط بل دخل علوما أخرى كالعقيدة وعلم الكلام والبحث في جذور الدين وتراثه الفكري والتاريخي، وما كان ذلك ليحدث سوى بتمهيد من عقل استشراقي أوروبي فتح الباب لمفكري المسلمين للنظر إلى تاريخهم بعين الناقد المبصر لا بعين السالك المقلد، مما أنتج ولأول مرة تفاسير قرآنية عصرية مختلفة عن السائد منذ عدة قرون، ولأول مرة تظهر فتاوى فصل الدين عن الدولة وجواز البنوك وكشف شعر المرأة وتساوي المسلم مع الكافر في الحقوق الشخصية كالمُلك والشهادة والدم والثروة..وغيرها، وما كانت تلك الفتاوى لتظهر لولا الثورة الحقوقية التي أعقبت حروبا عالمية مدمرة كانت مشتعلة في الوقت الذي اشتعلت فيه معارك الفكر بين الحداثيين المسلمين وخصومهم من أهل التقليد..

لم تكن المشكلة خاصة فقط بالمسلمين إنها طالت اليهود والمسيحيين من قبل، إلا أن العلمانية التي طالت ذوي تلك الأديان صارت تعزل فكرها الماضوي عن حاضرها باعتراف من الدولة بحقائق العلم ومصالح الناس بعيدا عن خلافات المعتقد، ومن المسيحيين واليهود من يرى الحالة الإسلامية مطابقة لواقع أسلافه بالقرون الوسطى حين كانوا يحرقون النساء والعلماء أحياء لمجرد فتوى من البابا ، وتُنزع الأملاك ويشيع الظلم والفُحش الأخلاقي لمجرد رأي الكنيسة، فما أنجزته العلمانية في الواقع بهذا الفصل بين الماضي والحاضر هو زوال رهبة الكُهان وقداستهم من قلوب العامة، سجنت مذاهبهم الفكرية وصراعاتهم الخاصة بين جدران المعبد، ولعُمري أنه لو تحقق ذلك للمسلمين ستنتهي حروبهم الطائفية والدينية فورا ويُصبح فيه كل داعٍ للعنصرية والكراهية والعدوان على أساس الانتماء هو مشروع مجرم يجب منعه بالقانون.

عندما تصل الحكومات العربية لفكرة عقاب الإرهابيين (وأنصارهم ومحرضيهم) فقد وصلوا إلى أولى طرق التنوير وفهم طبيعة الإرهاب، فالقاتل على أساس ديني ليس مجرد شخص بل (فرد ضمن منظومة)..وما لا تدركه حكوماتنا الموقرة أن الإرهاب منظومة عمل تبدأ من الشيخ مرورا بالممول والأنصار نهاية بالمنفذ، وفي مصر حدث أن قتل الإرهابيون الشيخ الشيعي "حسن شحاتة" فلم يكن الجُناه أعضاءا في تنظيم إرهابي، بل عوام يشكلون أنصار الوهابيين على قنوات طائفية ومساجد معروفة، فبدلا من قطع الجذر عاقبنا الجناه فقط ولم نعاقب محرضيهم في الإعلام والمنابر..فذهب الجناه لكن بقيت الطائفية شبحا يهدد الدولة، والسبب ماذا؟ هو أننا لا نعاقب الفكر والإرادة التي ابتكرت الإرهاب والعنف لكن نعاقب اليد فقط..

حتى الأقباط يشعرون بنفس الخطر الذي واجهه الشيعي قديما، وبعد كل فترة تظهر حوادث طائفية ضدهم، فبدلا من عقاب المحرضين على كراهية المسيحي وتكفيره وقمع كل أنصار المتشددين في الإعلام نعاقب الجاني فقط....ولا ندرك أن هذا المجرم مجرد حلقة في ترس سيذهب ويأتي غيره ما دام الصانع موجودا، واعلم أن الإرهاب يختفي إذا كان خصمه قويا، وينشط ويعلو سهمه كلما كان خصمهم ضعيفا أو يديه مرتعشة، أما لو عولج بطريقة خاطئة سيستكين لفترة مؤقتة مع امتلاكه كل عناصر القوة الذاتية حتى يأتي زمنا آخر ينتقم فيه ممن قيّد حريته في الماضي..

حتى التنويريين عندما يريدوا علاج هذا الوضع المتردي يعالجوه عن جهل، فيظهر منهم من يقول أن الأغلبية يجب أن تكون مستنيرة عقلانية كي ينجح التنوير وتتقدم الأمم، وتلك خرافة منشأها عدم فهم التنوير نفسه ولا المجتمع ولا السياسة، بل مصدرها قلة الوعي والجهل بأصول الفلسفة وتطورها التاريخي، فالأغلبية من أي شعب هي (جاهلة خرافية عدوانية)..وستظل كذلك حتى في الدول المتطورة تظل الخرافة هناك منتشرة، والجهل متفشي..ويمكن قراءة علامات ذلك في كتاب "أساطير من الغرب لسليمان مظهر، وخرافات وأكاذيب وغباء محض لجون ستوسل، ومعجم الخرافات الشعبية في أوروبا لبيار كانافاجيو" فالخلط بين الدين والأسطورة ظاهرة بشرية لا تتعلق فقط بالدين بل تظهر على وجوه اجتماعية وسياسية واقتصادية يجري نسبها للدين في وقت لاحق..وبالأمر تفصيل كبير

وتصحيح هذه الرؤية أن التنوير هدفه أن يُصبغ رأي الأقلية العاقلة نفسه على الأغلبية الأمية عن طريق إما التأثير في مشرعي القوانين وإقناع السلطة بحجية العقل ومشروعيته، أو دولة قانون تفرض نفسها على المجتمع الأمي وتحاسب أي مذنب وفقا للقانون العقلاني، فالجاهل لا ضرر منه لكنه يصبح مضرا إذا حاول أن يفرض جهله على المجتمع..أو بكليهما معا فالقانون العلماني يكفل ذلك، وما يمكن قوله أن الأغلبية بأي مجتمع لا زالت تقدس رجل الدين وتراه شخصا على الأقل محبوب ومنزلته الاجتماعية أفضل، أما بالقانون العلماني فيجري تحجيم رجل الدين وعدم استغلال منزلته الاجتماعية في شئون الحُكم والسياسة..وهذا المطلب هو ما أجمعت عليه قوى الغرب المستنيرة في عصر النهضة وقعّدت له الأصول والقواعد مما أدى لنهوض البشرية الحالي.

مما يعني أن العلمانية لا تهتم بخرافية رجل الدين وجهله أكثر من من اهتمامها بنتائج ذلك على الشعوب، وبالتجربة تبين أن البشر ينحطون ويتخلفون إذا قويت شوكة رجل الدين، ويتقدمون إذا ضعفت شوكتهم وتخلي السلطة عنهم، مما دفع البعض لتفسير العلمانية ب (دولة القانون) أي التي ظهرت بنشاط النخبة المثقفة وضغط التيار المستنير حتى لو كان أقلية...أما الفقه الذي يُراد تجديده فلن يصمد تحت ضغط الواقع ويصير أي مطلب لعودة الماضي قبيحا في نفس العامة حتى لو خرج من رجل الدين الذي يُجلّوه ويحترموه، فمبعث احترام رجل الدين في مخيلة الشعوب أنه داعية للفضائل والمعاملات..وما أن تتغير الصورة ليصبح منافسا لهم في مصالحهم أو يشكل عليهم أي نوع من التهديد فورا تتغير الرؤية ليصبح شيطانا مريدا، وهذه كانت غلطة الكهنة الأوروبيين في الديانة المسيحية بالقرون الوسطى بعد أن ظهروا كمنافسين لمصالح الناس بدلا من كونهم (رعاة) لتلك المصالح.

ولولا الوعي المكتسب من مفكري العلمانية وقتها ما فطن الجمهور لخطر الكهنة، مما يعني أن منزلة رجل الدين تختفي وتزول مع أي نشاط عقلي نقدي حتى لو حدث ذلك النشاط بشكل سياسي..

أعود إلى الحداثة فقد أنتجت في الواقع ثلاثة تيارات رئيسة:

الأول: من يدعو إلى ترك الدين بالكلية..فالإصلاح يعني الإلحاد واللادينية، لأن المعتقد لديهم عقبة ضد الحداثة والعلم، ولن تفلح أي محاولات لإصلاح الدين، فلا حياه أخروية ولا آلهة ولا جنة أو نار أو خلاص أبدي إنما كل هذه أوهام وتخاريف بشرية لم تنقطع منذ أديان سومر ومصر القديمة..

الثاني: من يدعو إلى العودة للماضي وإحياءه بحذافيره، فكل مظهر حداثي هو عدو للدين، سواء كانت الدولة أو الانتخابات والديمقراطية والأحزاب والدستور والبنوك والتعليم..إلخ كلها مظاهر كفرية جاهلية مرتدة عن صحيح الدين..

التيار الثالث: هو من يوفق بين الدين والحداثة ويرى أن الإنسان لا يمكنه العيش بدون عقيدة ولا نصوص مقدسة، وفي نفس الوقت لا يمكنه العيش بإنكار حقائق العلم والتاريخ، وبالتالي فالحل هو الإصلاح الفكري في المعتقد ومس ثوابت الدين القديم الذي لم يُجدد منذ القرنين 4، 5 هـ، وهذا التيار لموسوعيته وارتباطه بشتى جوانب الدين والحياه في مظهر توفيقي انشق لعدة تيارات هو الآخر منها ما كان ينحو ناحية التيار الثاني ومنها من يميل للتيار الأول على استحياء، لكن يبقى أصول ذلك التيار هي الغالبة والمهيمنة على الحركة الفكرية الإسلامية منذ نهايات القرن 19م، ودائما يوصفون أصحابها بكل التهم البشعة والمقززة من كلا الفريقين الأول والثاني.

ولأن التيار الثالث هو الأكثر زخما وحركة وظهورا ووضوحا في مطالبة بالتجديد تنوعت أساليبه واختلفت بين إصلاح على الطريقة القديمة وأدواتها، أي بإعادة فهم النص الديني وفقا للفقه التقليدي وأدواته وعدم الاجتهاد بإبداعٍ جديد، وبين فريق يرى عدم كفاية هذا الفقه القديم وأدواته وأنه يجب الخروج فورا بفقه جديد واضح لحسم الطريق، وبظني أن الفريق الثاني أكثر اتساقا مع نفسه، فالأول لا زال يحوم حول القديم ولا يخرج من مساره، ولا زالت قدماه مغروستين في الطين التراثي فتطيش رؤيته ويضطر لاستخدام أدوات التراثيين في الفهم دون اعتبار بأي مستجدات علمية وحداثية تنكر تلك الأدوات وتُشنّع استخدامها، وأذكر أن هذا الفريق يعادي المستنيرين والعلمانيين أكثر من معاداته للوهابيين ورجال الدين.

فهو ينظر للمستنير المجتهد صاحب الرأي والمطالب بالعدالة والعلم والمنادي بالعقل على أنه ملحد كافر زنديق خارج من الملة، وقد عرضت سابقا نموذج من هؤلاء وهو "محمد سعيد مشتهري" الذي يكفر كل من يجتهد وفقا للحداثة ويستخدم أدوات التراثيين أنفسهم في الفهم..وهي نفس أدوات الجويني والشاطبي قديما لم تُحدّث منذ قرون مع حفظ الفارق بين هؤلاء الأعلام ومشتهري ضيق الأفق سريع الغضب وواسع الحقد ضد كل مفكر، فلم تفلح جهود علماء العقيدة واللاهوت الإسلامي في إنتاج ناقد يؤمن بحقائق العلم من هذا الفريق، وهي مشكلة فلسفية وعقلية كبيرة ناقشها "محمد عابد الجابري" في موسوعة نقد العقل العربي، وأظنه كان مصيبا في ذم من يحاول الإصلاح داخل البنية العقلية اللغوية العربية فقط دون الإلمام بجوانب أخرى في التاريخ والفلسفة والنقد، وهي أدوات علم لا زالت غائبة عن هذا الفريق الذي وقع في براثن التكفير وانزوى بعيدا عن مطالب الإصلاح وصارت رموزه مهتمة أكثر بتبرير آفات التراث ومفاهيمه تحت رداء عصري وهو "التجديد"..!

وعلى الرغم من اتفاق هؤلاء المجددين جميعا على ضرورة هيكلة الفكر الديني الإسلامي لكنهم افترقوا في كيفية تطبيق ذلك وما شكل الهيكل الجديد؟ فاتخذ كل منهم نَهَجا مختلفا وسار في طريقٍ مختلف، وهو تطور طبيعي يصيب حتى السياسة، فكل حزب لديه رؤية لإدارة الدولة فإذا نجح بالانتخابات وصار مهددا بفشل التجربة انشق فورا لعدة رؤى تطبيقية، مما يعني أن الاتفاق بين المجددين على مذهب واحد ودين واحد وعقيدة واحدة مستحيل عمليا، وما نجحوا فيه فقط هو زوال القدسية عن الماضي وفتح آفاق العقل للاجتهاد، لذا ففي تقديري الذي أكرره دوما أن "لامركزية النقد" هي أفضل حل لتغيير الواقع السائد والثورة على الماضي مما يؤهلنا لإنتاج فقه ديني مختلف.

بمعنى أن التجديد الحقيقي لن يتم من داخل البنية اللغوية فقط ولا الدينية فقط ولا السياسية فقط بل كلها عوامل مجتمعة تشكل رؤية شمولية لتصور الماضي بشكل أقرب للواقع التاريخي، وهو تصور بشيوعه يحفز العامة والجماهير على رفض منتجات ذلك الماضي أو على الأقل فقدان الحماسة لها، مما يعني أن المسلم له دور في التجديد وكذلك المسيحي واليهودي والملحد، وكذلك السني والشيعي والصوفي ..وكذلك السلفي والإخواني الناقد لتراثه أو الرافض لبعض الشيوخ..فكل جهد من هؤلاء حتى لو لم يخرج بصورة تنويرية وهدف تنويري ثائر على الماضي لكنه يخدم حركة النقد والفكر لرفض السائد ، وقد اصطلحت على هذا الواقع بمفهوم جديد وهو "البنيوية اللامركزية في التجديد" وقد آثرت عدم ذكر العنوان سوى في مؤخرة المقال بهدف تقديمه وشرحه أكثر وتقريبه للأذهان.

فالاجتهاد البنيوي اللامركزي هو الحل لنشر ومناقشة معضلات التنوير والحداثة والتعامل مع الواقع بشكل سليم يخلو من الخرافة والدوجما، وهو اجتهاد بشيوعه يقلل من سيطرة نوازع العنف والهمجية عند الباحثين أنفسهم ويزرع فيهم قبول الآخر المجتهد وينسف من أذهانهم فكرة الإصلاح الحزبي أو الاجتهاد البنيوي المركزي القائم على أحقية وأهلية جماعة واحدة فقط بالتنوير..

ويقوم الاجتهاد البنيوي اللامركزي ليس فقط على مراجعة المذاهب القديمة بل مراجعة طريقة التفكير الإنسانية نفسها ، فلا نستبعد تجديد عوامل اللغة والمجتمع والسياسة والاقتصاد ، هذا ما يجب أن يحدث قبل التفكير في نقد الشريعة ومحاولة تجميل أخرى لتصبح هي الشريعة الصحيحة، وفي الحقيقة أن مفهوم الشريعة نفسه بحاجة لمراجعة ومقاربته للواقع..وهو ما استفدته من احتكاكي مع جماعة القرآنيين التي وبرغم كل محاسنها في الثورة على الحديث والتاريخ الإسلامي إلا أنها لا زالت مؤمنة بشريعة تراثية فهموها من نصوص القرآن على أنها حق وواجب، ولولا خضوع عقلية تلك الجماعة لثقافة وفهم ولغة مفسري القرآن والجماعات التكفيرية الحديثة ما قالوا بوجوب تلك الشريعة ، وكأن هناك تأثيرا لامرئيا راسخا في وعيهم الباطن ليس من إنتاج الحركة القرآنية المنتمين إليها بل تخص حركات أخرى معادية لهم..

إن الاجتهاد البنيوي اللامركزي مصدره الإنسان ذاته ويقوم في جوهره على (البنية الذهنية البشرية) بكل أدواتها من الخيال والعقل والأدب والشعور والثورة والغضب والحب ..إلخ، وهو اجتهاد يحاكي واقع التطور التكنولوجي والإنترنت الذي صار فيه نقد الأديان لا يتوقف على أصحابها بل صار شراكة للجميع وحقا للجميع دون قدرة على التدخل فيه أو وقفه، وهو اجتهاد يحاكي "فلسفة الصورة" التي طرحت مقدماتها منذ فترة بإحكام عقلي صرف يعالج ثغرات القصور العلمي والعقلي الطبيعي في البشر..

فالثابت أن المجتهدين والباحثين والمجددين ذوي رؤية قاصرة إن لم تكن بالعلم والعقل فهي بالمعلومة، وإن لم تكن قاصرة في الخيال فهي قاصرة بالعواطف والمشاعر، وإن كانت مُحكمَة في كل ما سبق وتتسم بالإطلاقية – وهذا محال – فأجواء الزمكان تفرض عليهم جهلاً من نوعٍ خاص..كمن يرى أحدهم خبراً جيدا في أجواء غير جيدة فينطبع شكل الخبر الجيد بصورة غير جيدة في النفس حتى يفقد الحماس لتلك الجودة مستقبلا ويعتاد على القُبح، وهو حادث نفسي نتعرض له جميعا ولا ندري، كأحد الذي يتصفحون مواقع التواصل الاجتماعي فيقرأ خبرا جيدا وسط كومة من ركام الأخبار غير الجيدة أو نفسيته السيئة أو ظروف غير مواتية، فتنطبع (صورة الكاميرا) الذي التقط بها الخبر في نفسه بأثرٍ سئ فلا يحمله على واقعه وحقيقته بل يُعطيه بُعدا آخر سلبيا لا يقل فجاجة عن هذا الركام السئ..

وتلك هي مشكلة الفقه التقليدي أن جزءا كبيرا منه كُتِب في هذه الركام السئ، فالتاريخ الإسلامي على مدار أول 300 عام كان حروبا أهلية ومجازر بشعة فكيف نطلب من الفقيه أن يكتب عن التسامح في ظل هذه الأجواء؟..وبالتالي فالطبيعة الحربية للتراث الديني هي طبيعية وفقا لفلسفة الصورة، هنا لم يكن الفقيه مجتهدا على أساس نظري ميتافيزيقي فحسب بل يجتهد على أساس عملي يراعي فيه المصلحتين العامة والخاصة، وهو ما أعطي لهذا الفقه التقليدي قوة اجتماعية وسياسية كبيرة في زمنه، بينما لو تخيلنا أن عقول هؤلاء الفقهاء صاغت دينها كما في أول 300 عام من التاريخ المسيحي مثلا والذي كان فيه المسيحي فقط مضطهداً ولا دور سياسي له على الإطلاق فهل سيخطر على بال الفقهاء تقعيد أفكارهم على أساس حربي سياسي؟

ولأن طبيعة الفكر تُعرف بضده أحيانا عرفنا أن الثائرين على ذلك الفقه وفي هذه الأجواء وقتها – أي في زمن القرون المفضلة الأولى – كانوا ثائرين على الظلم والمنتج الحربي للدين بالأساس، فكل مذموم في هذه الحقبة صار نبراسا لقوى التنوير الحالية لتبحث عن أخباره وتٌفتّش عن حقيقته بين جبال الحقد والكراهية والقمع الراسخة في تلك العصور، فالبشرية بزمن الحرب تفكر كالقطيع الهائم على وجهه طلبا للنجاه فكيف نطلب من الفقهاء وقتها أن يفكروا بعقلية الجابري ونصر أبو زيد وسيد القمني وطه حسين وغيرهم، ولولا أن تلك الأسماء وجدت رعاية من الدولة أحيانا وحماية بشكل جزئي ما خرجت بأفكارها ضد هذا التراث الهائم على وجهه، وما امتلكت الشجاعة على نقد الصورة المتخيلة عن الدين القديم أنه كان ناصع البياض ورموزه وأئمته ملائكة تمشي على الأرض..

إن الاجتهاد البنيوي اللامركزي سيسمح بمناقشة أمور يعف عنها المجددين كفلسفة اللغة والتحليل العقلي، وهذه من منجزات ثورة الحداثة التي أنتجت طرق التحليل والتفكيك والبنيوية والوضعية المنطقية وغيرها، وأكثر هذه الطرق لغوية بالأساس فهي تناقش الكلمات ضمن متطلبات العقل، وتحاكم أي نص مقدس وفقا لثنائية (الحقيقة والمصلحة) وهي ثنائية غائبة كليا عن الفقه التقليدي وبشكل جزئي كبير عن حركة التجديد أيضا، فالحجج التي يقدمها المستنيرون غالبا لا تمس أصول هذا الفهم التقليدي ولا زالت غارقة بين بحار السنة والشريعة والقياس والإجماع واللغة العربية، وهو غرق طبيعي كونه لم يضع هذه الأدوات الفقهية موضع التقييم باعتبارها مقدسات، مما يعني أن العقل الفقهي الإسلامي ليس له مقدسا واحدا بل عدة مقدسات في الحقيقة بعدد ثوابته الممنوع من الخوض فيها..

فالتوازن بين هذا الفقه التقليدي وبين الواقع مفقود بشكل جلي..حتى أدوات المجتهدين الحديثة التي خرجوا بها ومنها (معيار القرآن فقط) لم تعالج عدم الاتساق النصي والتعارضات اللفظية والمعنوية بين الآيات، وهي المشكلة التي أنتجت معضلة خلق القرآن قديما ثم بعدها الناسخ والمنسوخ، والآن صارت بمعنى آخر وهي "تاريخانية القرآن" كما وضحها المفكر "نصر أبو زيد" فحتى مع القول بالتاريخانية تبقى لدينا خيارات التفضيل مشكلة أزلية بحاجة لإعادة برمجة العقل ، فالإنسان ينزع نحو التفضيل والاختيار بين عدة بدائل وما قاله أبو زيد لم ينتج فقها جديدا في الحقيقة بل صار على درب من سبقوه في (التأويل) فصار منهج أبو زيد الشهير (التاريخانية والتأويل) وهو منهج لم يقدم جديدا على مستوى البديل الفقهي والاجتهاد سوى الثورة على التاريخ الإسلامي فحسب..

الشئ الأهم في الاجتهاد البنيوي اللامركزي أنه يدعو إلى مراجعية عميقة لنفس الباحث، فمتاح وقتها لعلماء النفس بالحركة وتفسير كل نشاط ذهني وفقا لعلم النفس وتأثيره على الفص الصدغي المفكر، ويمكن وقتها للمرء أن يستلهم فلسفة اللغة – كمثال – لمحاكاة أفكاره بالواقع، لأن الفلسفات الحديثة للغة – التحليل والتفكيك والبنيوية – قالت بأن فكر الإنسان محكوم بواقع لغوي في الحقيقة وليس واقعا افتراضيا، وهذا الواقع اللغوي مثالي في معظمه ويتأثير بمعاني اللغة ودلالاتها في التصوّر، وهو جانب مهم من فلسفة الصورة يقول أن الكلمات والألفاظ لها صور ذهنية عند الشخص لكنها تنتقل بصورة أخرى لدى شخص آخر، وتختلف هذه الصورة كلما كانت طريقة تقديمها ونقله مثالية كالخطباء الحنجوريين والشعاراتيين الذين يؤثرون في أتباعهم، فما قالوه من كلمات وألفاظ لا تبقى كهيئتها كلمات وألفاظ بل تتطور لدى الآخرين بأشكال مختلفة وفقا لنظرية القابل والفاعل المتعلقة أيضا بفلسفة الصورة.

فمن كان ضعيف النفس ردئ العقل لن يقبل صورة الكلمة كما هي حين تنتقل للأقوياء والأذكياء، ومن يعاني من الاكتئاب والكبت لن تتكوّن لديه صورة عن كلمات الخطيب كما هي عند السعيد المنبسط..وهكذا، وقد سبق أن شرحت هذه الجزئية في محاضرتي بمدينة المنصورة عن الإخوان المسلمين منذ 4 سنوات ، أن تبرؤ حسن البنا من قتلة النقراشي كان حقا وباطلاً معا، فالقاتل بالفعل نفذ ما فهمه من كلام البنا والتنظيم الخاص وبالتالي حسن البنا مسئول، لكنه لم يأخذ أمرا مباشرا من البنا بقتل هذا المسئول وبالتالي فالبنا برئ، وهذا تحليلي الشخصي لكلمة حسن البنا "ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين" ولا يعني ذلك تبرئة من التحريض المباشر والتكليف بالعملية لكنه من باب "من فمك أدينك" فلو لم يزرع البنا في قلوب أتباعه كراهية النقراشي وضرورة الانتقام لنصرة الإسلام قام بتضخيم الخطر الداهم عليهم كمؤمنين من قوى الكفر الشريرة ما تحمّس الشاب لقتل النقراشي..هذا على فرضية براءة البنا من تكليف المجرم بالقتل..

وهو نفس الذي يحدث مع خطباء اليوم الذين يصنعون الإرهابي فكريا لكن يبترأون من أفعاله لاحقا بعد ارتكاب الجريمة، ولولا غياب التفكير النقدي والشك في عقلية الجمهور والقطيع ، ولولا قدسية البشر والدفاع عنهم ما قُتِلَ النقراشي ولا ظهرت داعش بتلك الصورة، مما يعني أن الحاجة هنا ليست فقط محصورة بإنتاج فقه جديد ولكننا نحتاج عقل كلي جديد بطريقة "إنسف حمّامك القديم" مع التأكيد على قصدية المثال، فالحمّام عندي هو الرجعية الماضوية والجهل الذي يعاني منه الشيوخ والأئمة، والنسف لأفكارهم ومذاهبهم في الفقه لا للدين نفسه التي تظل الحاجة إليه وشرحه وتفسيره وفقا للإنسانية ضرورة حياه..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - كلامك رائع لو وكانوا العرب اكثرهم مثلك
مروان سعيد ( 2021 / 2 / 7 - 11:44 )
تحية للاستاذ شامح عسكر وتحيتي للجميع
كلام رائع ولو نفذ لخرجت مصر من محنتها واصبحت ام الدنيا بجد
ولكن الاعلام الديني والمستفيدين منه هو حجر عثرة في وجه التقدم العلمي والثقافي وخاصة الازهر انه اكبر عثرة ورجاله اكبر مناهضي الحداثة ومروجي فكرة الخلافة مع انهم يعلمون انها ابشع اوقات الاسلام واكثرها دموية ومن ييقراء سيرتها يشتم رائحة الدماء والقتل والفساد
تصور سيدي كان يقتل الصحابي لحسن جمال زوجته مثل مالك ابن النويرة
وحجته الغير حقيقية هي عدم دفع الزكات
https://www.youtube.com/watch?v=-RmlQr_AyN8
ونكح زوجته طبعا بعد ان قضت عدتها
هل يعقل لعاقل ان يعيدنا لهذه الفترة
واشكرك كل الشكر على رجاحة فكرك وتنويرك
ومودتي للجميع


2 - انظروا ما يدرسوا الطلاب في الازهر
مروان سعيد ( 2021 / 2 / 7 - 11:55 )
انه الارهاب بعينه وفي كتاب متن الاقناع في حل الفاظ ابي شجاع
انه يحلل الاستنجاء في الكتاب المقدس ومضاجعة الميته في الاختيار في علم المختار وقتل الاسير وفقع اعين الاسير لكي لايهرب واكل الميتة في حال المجاعة
https://www.youtube.com/watch?v=CXz-kWVCKtg&feature=youtu.be
كيف سنصلح نفسنا وعندنا هكذا صقافة منحطة
ومودتي للجميع


3 - الكذب عند مروان سعيد عبادة تطبيقية
احمد علي الجندي ( 2021 / 2 / 26 - 15:50 )
رغم انني رددت على نقطة مالك بن نويرة عدة مرات ودائما ما يهرب من ردي او يصمت
الا انه يعيد كلامه في مكان اخر مما يؤكد انه ليس جاهل ولا مخطئ وانما ببساطة مدلس كبير
قصة قتل خالد بن الوليد لمالك بن نويرة وطهو رأسه ضعيفة لا تصح
نعم صح انه قتله لامتناعه لاحقا عن دفع الزكاة
ولكن لم يصح انه طبخ رأسه واكله ومارس الجنس مع زوجته
ومين انت عشان تقول لحسن جمال زوجته
واين ورد انه قتله من اجل حسن جمال زوجته
-
مروان سعيد
انه الارهاب بعينه وفي كتاب متن الاقناع في حل الفاظ ابي شجاع
انه يحلل الاستنجاء في الكتاب المقدس ومضاجعة الميته في الاختيار في علم المختار وقتل الاسير وفقع اعين الاسير لكي لايهرب واكل الميتة في حال المجاعة
-
يا مروان سعيد راجعت الكتاب
ورعم وجود اشياء بشعة فيه
اين ورد فيه مضاجعة الميتة في الاختيار
والاستنجاء في الكتاب المقدس
؟؟؟
نعم ورد قتل الاسير في حالة الاضرار
واكل الميتة في حالة المجامعة وهو سلوك طبيعي
فاذا مات الميت
وكان الناس على وشك ان يموتوا من الجوع
يجوز اكلهم مطنقيا وعلميا
وهو ما فعله الناجون في معجزة جبال الانديز
لأن حياة الحي اهم من جثة ميتة

اخر الافلام

.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت


.. #shorts - Baqarah-53




.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن


.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص




.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح