الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(ما لا تقوله كتب الاقتصاد) تحرير: د.غادة موسى، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة

محمد عادل زكى

2021 / 2 / 12
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


حلقة نافذة المؤشر: "ما لا تقوله كتب الاقتصاد".
تحرير: د. غادة موسى، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
-----------------------------
لقاء مع الدكتور محمد عادل زكي – مفكر مصري – من أبرز مجددي علم الاقتصاد السياسي في العالم العربي. هو الأب الروحي لتيار مدرسة الإسكندرية للاقتصاد السياسي وهو تيار هدفه إحياء الاقتصاد السياسي كعلم اجتماعي ٬ وتصحيح مقياس القيمة بعد أكثر من مائتي عام من علم الاقتصاد السياسي. وتعد نظريته في تسرب القيمة على الصعيد العالمي من النظريات المهمة في تفسير تخلف بلدان العالم الثالث.
وُلد الدكتور محمد عادل زكي في حي الابراهيمية في محافظة الإسكندرية في 11 سبتمبر 1972
ومن أهم مؤلفاته:
نقد الاقتصاد السياسي.
الاقتصاد السياسي للتخلف.
التبعية مقياس للتخلف.
اقتصادات تنزف عرقاً
بالإضافة للعديد من الأبحاث المنشورة في دوريات علمية محكمة باللغة العربية والفرنسية والانجليزية.
ما هي نظرية مقياس القيمة؟ وما هي الانتقادات الموجهة لها؟
ما هي نظرية نمط الإنتاج؟ وما هي الانتقادات الموجهة لها؟
ما هي أدوات الرأسمالية الحديثة؟
كيف يمكن للذهنية العربية أن تفهم أزمتها الاقتصادية بصورة صحيحة؟
س: دكتور... في البداية نريد أن نتكلم في صميم التخصص الذي هو الاقتصاد السياسي. يعني لو نعرف ما هو الاقتصاد السياسي؟ ومن الذي أنتج الاقتصاد السياسي؟ وما هو الوضع الراهن للاقتصاد السياسي في المرحلة الحالية.
ج: سنحاول أن تكون الإجابات مختصرة إلى حد كبير. ولكن الاقتصاد السياسي حتى نعرف ما هو العلم – علم الاقتصاد السياسي بوجه خاص – يصعب جدا ً أن أقول إن الاقتصاد السياسي هو ذلك العلم الذي ... بشكل تحكمي أو بشكل ذاتي. أولا ً حتى أعرف العلم الذي أنا منشغل به لابد أن أعرف كيف تشكل على أرض الواقع. أي لابد من اتعرف تاريخيا ً كيف نشأ٬ عكس ما يوجد في المؤلفات التي تدرس عادة في الجامعات بأنه ذلك العلم الذي.. ويتم طرحه بشكل مباشر وبشكل تحكمي.
وحتى أعرف كيف نشأ العلم لابد وأن أنظر إلى الآباء المؤسسين. الآباء المؤسسين الذين أسسوا لهذا العلم كيف انشغلوا به٬ وبالتالي أبدأ في التعرف على هذا العلم وأتعرف على أدواته الفكرية.
على أرض الواقع ظهرت في أوروبا في القرن السابع عشر تقريبا ً مجموعة من الظواهر الجديدة على المجتمع الأوروبي في غرب أوروبا تحديداً٬ هذه الظواهر أرقت المفكرين وأرقت أذهانهم وسعوا إلى تفسيرها. من هذه الظواهر المصنع ٬ العامل المأجور٬ الربح ٬ الأجر٬ الريع ٬ الرأسمالي ٬ الآلة٬ مواد العمل٬ أدوات العمل٬ قوة العمل. كل هذه الظواهر كانت جديدة على غرب أوروبا في القرن السابع عشر تقريباً. فسعى مفكرو علم الاقتصاد السياسي آنذاك إلى التعرف على القوانين الموضوعية التي تحكم الظواهر الموجودة آنذاك: كيف يتشكل الربح؟ على أي أساس يتحدد الأجر؟ كيف يحدد المالك العقاري الريع الخاص به؟ على أي أساس تتحدد أسعار الفائدة؟ كل هذه الأمور جعلتهم ينشغلون بالأمور كما تطرح في السوق. فنزلوا السوق كي يدرسوا هذه الأمور فوجدوا أن السوق لن يعطيهم إجابة عن كيف يتحدد الأجر أو كيف يتحدد الربح أو كيف تتحدد أسعار الفائدة. إنما هذه الأمور لا توجد عليها إجابة في حق السوق ٫ وإنما في حقل الإنتاج٬ فاضطروا إلى الذهاب لحقل الإنتاج لدراسة ما سبق. عندما ذهبوا لحقل الإنتاج وجدوا أنفسهم مباشرة أمام ظاهرة تسمى ظاهرة القيمة. فالأثمان مثلا ترتفع وتنخفض في السوق. والمفكر لا ينشغل بتأرجحات الأثمان٬ وإنما هو ينشغل بالقانون الموضوعي الذي يحكم الظاهرة. فوجدوا أنفسهم مباشرة أمام قانون القيمة. فسعوا إلى تفسير وتحليل جميع ظواهر الإنتاج والتوزيع في المجتمع ابتداء من قانون القيمة. ومن هنا تشكل علم الاقتصاد السياسي كعلم ينشغل بتحليل ظواهر الإنتاج والتوزيع في المجتمع ابتداء من قانون القيمة٬ بل هو علم قانون القيمة. هذا هو علم الاقتصاد السياسي كما أفهمه. لذلك نقول أن علم الاقتصاد السياسي أو أي علم ليس بما أخلعه أنا عليه٬ إنما يتعين أن أتعرف على العلم من واقع المجتمع٬ من واقع الظرف التاريخي الذي نشأ كي يتعامل هذا العلم مع هذه الظواهر. فنشأ علم الاقتصاد السياسي كعلم يفسر ظواهر الإنتاج - انتاج الخيرات المادية وتوزيعها ما بين طبقات المجتمع المشاركة٬ وربما غير المشاركة في عملية الإنتاج ابتداء من قانون القيمة.
هذا العلم تشكل على يد رواد في أوروبا الغربية ثم نضُج على يد الكلاسيك٬ وبلغ قمة نضجه على يد كارل ماركس. ومع آخر صفحة من كتاب كارل ماركس " رأس المال " يتم الكف عن الاقتصاد السياسي تماماً. فالوضع الراهن للاقتصاد السياسي أنه علم مهجور منذ ما يقارب مائتي عام٬ وكل المؤلفات - وأقول كل المؤلفات- التي تدعي أنها تتحدث في الاقتصاد السياسي إنما تستخدم اسمه كديكور. فنجد أن هناك من المؤلفات كُتب على أغلفتها " محاضرات في الاقتصاد السياسي" وهو داخل المؤلف لا يتحدث عن الاقتصاد السياسي نهائياً ولا يعرف منه سوى اسمه. وهذا الأمر يُعد من العبث الأكاديمي السائد في عالمنا العربي.
فبوجه عام٬ الاقتصاد السياسي هو علم كف عن الوجود منذ مائتي عام باستثناء بعض الكتابات الملهمة والمهمة٬ ولكنها أيضاً ليست على نفس القدر من الأهمية التي تحتكرها المؤسسة التعليمية التي تٌدرِس قواعد العرض والطلب وبوجه عام تدرس نظرية ثبت تاريخياً فشلها منذ خمسين أو ستين سنة٬ وهي النظرية النيو- كلاسيكية.
فعلم الاقتصاد السياسي إجمالاً هو علم نشأ في أوروبا الغربية٬ نشأ كي يدرس ظواهر الإنتاج والتوزيع في المجتمع ابتداء من قانون القيمة. ثم تطور هذا العلم وبلغ قمة نضجه على يد " كارل ماركس" ومع آخر صفحة من كتاب " رأس المال" لماركس كما أكرر دائما – ذلك المؤلف العظيم- علمياً وليس صنمياً أو إيديولوجيا٬ لأن الاقتصاد السياسي أيضاِ مٌسخ في غرب أوروبا ولكن أيضاً مُسخ في شرق أوروبا عندما اتخذ منه أداة أسطورية لإخضاع الجماهير في شرق أوروبا. وبالتالي تم مسخ العلم شرقاً وغرباً٬ ونحن أبناء العالم العربي كنا دائماً ضحية في الحالتين: تلقينا من شرق أوروبا العلم كمسخ٬ وتلقينا من غرب أوروبا ما هو أكثر مسخاً لعلم الاقتصاد السياسي وهو ما يسمونه في الجامعات علم الاقتصاد.
س: ممتاز – ممتاز لفتني دكتور عندما قلت في البداية أن تعريف علم الاقتصاد السياسي يبدأ من تعريف المحيط الذي نشأ فيه.
لماذا تعتقد أنه بعد كارل ماركس بدأ يقل الاهتمام بعلم الاقتصاد السياسي أو يتشكل بأشكال أخرى بخلاف النشأة الأولى التي نشأ عليها؟ يعني هل شهدنا حدثا تاريخيا معينا غير ذلك؟ أم ظروف تطور العالم في ذلك الوقت أدت إلى اهتمام العلماء بمواضيع أخرى؟
ج: أريد أو أوضح أمرين: في حقيقة الأمر حتى نكون منصفين تماماً في لقائنا. في عام ١٨٤٨ تحديداً حينما كانت شوارع أوروبا تغلي بالثورات العمالية٬ وكان السائد والمهيمن هو الفكر اليساري وهو فكر ماركس يعني الفكر الشيوعي والاشتراكي واليساري والعمال وحركاتهم الثورية كانت شوارع أوروبا تغلي في هذا الوقت كانت المؤسسة التعليمية أو الأكاديمية تعلن خطة مضادة. والخطة المضادة التي أعلنتها هي أن ما الذي يريده هؤلاء العمال في الشوارع أو ما الذي يريده هؤلاء؟ يريدون حقهم في القيمة التي أنتوجها وذهبت إلى جيوب الرأسماليين والمرابين وكبار الملاك والريعيين. القيمة إذن تمثل مشكلة٬ لأن العمال خلقوا قيمة٬ هذه القيمة ذهبت إلى الرأسماليين الذين ينهبون هؤلاء العمال٬ والعمال يقومون بثورات ...إلخ. إذن٬ فلتقم الأكاديمية بدور مختلف. فلتقل أن قيمة السلعة لا تتحدد بكمية العمل المبذول. إذن تتحدد بماذا؟ تتحدد بالمنفعة! هنا في هذه اللحظة تتم قطيعة معرفية. بمعنى٬ حينما أتحدث وأقول أن قيمة السلعة تتحدد بالعمل المبذول ولم أقل ثمنها٬ يتم خلط القيمة بالثمن بالقيمة التبادلية. ويتم مسخ المصطلحات بشكل أهوج. فطالما أن العمال يثورون في الشوارع ويتحدثون في القيمة فلماذا لا نقول أن القيمة لا تحدد بالمنفعة. فمنفعة الشيء بالنسبة لي تختلف عن منفعة الشيء بالنسبة لك. فالمسألة هنا لم تصبح ذات قانون موضوعي. ومن هنا تعلن المؤسسة الأكاديمية حرباً مضادة وتمسخ قانون القيمة وتقول أن القيمة تتحدد بالمنفعة. وحينما أقول أن القيمة تتحدد بالمنفعة٬ صرنا أمام أمور أقرب ما تكون إلى الجزر المنعزلة. فلا صراع أبداً ولا دخل للعمال٬ بل أن المؤسسة الرسمية ستقول ما هو أهم. فستقول أنه كي تكون هناك عملية إنتاج لابد وأن تكون هناك عناصر للإنتاج. جميعنا نسمع هذه الجملة: عناصر للإنتاج. قبل ذلك كنا نقول قوى الإنتاج. وقوى الإنتاج تعطي معنى التناقض والتناحر والترابط في نفس الوقت. أما عناصر الإنتاج تفيد بالانعزال والتفكك وكل عنصر ليس له علاقة بالآخر. فحينما أقول أن عناصر الإنتاج هي: رأس المال ٬ العمل ٬ الأدوات٬ كل هذه الأمور منفصلة عن بعضها البعض. وبالتالي الدخول لم يكن بينها صراع. فمثلاً عملية الإنتاج سوف تفضي إلى دخول: الأجر للعامل٬ الربح للرأسمالي٬ الريع يحصل عليه المالك العقاري٬ الفائدة يحصل عليها رأس المال المالي. هذه العناصر – عندما أتحدث عن عناصر – لن يوجد صراع بين الدخول الأربعة: الأجر والربح والريع والفائدة. على حين أن الواقع أن هناك دائما صراع اجتماعي حول اقتسام الفائض ما بين أجور وأرباح وريوع وفوائد. أما النظرية الرسمية عادة ما يقولون لطلاب الجامعات: عناصر الإنتاج. فالطالب يتكون فكرياً وثقافياً بأنه لا يوجد هناك أي صراع أو تناحر بين الطبقات الاجتماعية حول اقتسام الفائض على الرغم أن هذه قوانين موضوعية تُسير حياتنا. ليست المسألة أيديولوجية على الإطلاق٬ ولكن كل هذه الأمور تزعج المؤسسة التعليمية كما تزعج المؤسسة السياسية بطبيعة الحال. فالذي حدث في الجزء الأول أن المؤسسة الأكاديمية أعلنت حرباً مضادة: أنتم تتحدثون في القيمة بأنها تتحدد بكمية العمل والعرق الذي يبذله العامل أو العمال٬ أما نحن فنقول إنها تتحدد بالمنفعة. هذا أمر٬ الأمر الآخر الذي لا ينبغي أن نسقطه من حساباتنا٫ في فترة ما بعد ماركس أو في فترة ماركس تحديداً٬ بدأت تنشط في أوروبا وبشدة الاهتمام بالرياضيات والفيزياء والعلوم المعملية بوجه عام. فإن الاقتصاد السياسي – حيث سيسمى الاقتصاد – سيكون كالفيزياء. فيتم تصفية النشاط الاقتصادي من محتواه الاجتماعي٬ وتصبح العلاقات علاقات ما بين أشياء وليست بين قوى اجتماعية. ففي أي كتاب أو مؤلف لن تجد فيه قوى اجتماعية على الإطلاق ما لم يكن الأستاذ لديه بعض الحس فيكتب عن مشكلات العالم الثالث٬ ويكتب عنا ابتداء من تصور العالم الأول عن العالم الثالث. إنما لما نشطت الرياضيات والعلوم المعملية٬ أراد الاقتصاديون أن يجعلوا من هذا العلم علماً معملياً أيضاً. واستفادوا من الطفرة العلمية الموجودة وابتعدوا تماماً عن القيمة والصراع الاجتماعي٬ وقاموا بتصفية النشاط الاقتصادي من محتواه الاجتماعي٬ وبالتالي أصبح الاقتصاد علماً ليس له علاقة بالمجتمع٬ بل هو عبارة عن دوال ٍ ورياضيات كما يستخدم في البنك الدولي وصندوق النقد الذين يتفاوضون في هذه المعادلات والتي لا يفهما كثيراً المفاوض العربي للأسف الشديد.
س: نعم.. نعم ... إذن هو عزل الاقتصاد عن كونه علما اجتماعيا وتحويله إلى علم معملي٬ ذلك أدى إلى التدهور الحقيقي للاقتصاد والتعامل مع الاقتصاد بشكل جيد.
ما هي طريقة قياس القيمة٬ حيث ظهر خلاف ما بين قياس القيمة بين الجهد والعرق المبذول في إنتاج الشيء أو المنفعة التي يُنتفع بها. هل هو هذا هو مقياس القيمة؟ لأنه أيضاً في كتاباتك تنتقد مقياس القيمة. فهل هذا هو تعريف مقياس القيمة؟
وما النقد الذي توجهه له؟
ج: في الواقع عندما ذكرنا أن الاقتصاد السياسي هو علم قانون القيمة٬ وذلك بما شكله الواقع وليس بما خلعته عليه. وإنما ذهبت إلى أرض الواقع فوجدت أن الآباء المؤسسين درسوا الظواهر الطارئة على المجتمع فوجدوا أن جميع الظواهر الطارئة تدرس ابتداء من السوق٬ ولكن السوق لم يعطهم الإجابة٬ حيث توجد التأرجحات في الأثمان. وحيث أن الأثمان كانت محل انشغالهم٬ وجدوا أن الرجوع إلى حقل الإنتاج حيث تتشكل الأثمان الطبيعية ٬ فذهبوا إلى حقل الإنتاج فوجدوا أنفسهم مباشرة أمام ظاهرة القيمة فدرسوها. وواجهتم مشكلة أو مجموعة من المشاكل عند دراسة القيمة وبصفة خاصة الآباء المؤسسين سميث وريكاردو وماركس. ولكن استقروا على أن القيمة تقاس بساعة العمل. بمعنى عندما أتحدث عن سلعة ما – أي سلعة – بُذل في سبيل إنتاجها أربع ساعات عمل وتُبادل بسلعة أخرى بٌذل في سبيل إنتاجها أربع ساعات عمل. واستقر الأمر على هذا النحو حتى الآن. فحتى الان ذلك مستقر في علم الاقتصاد السياسي الذي هو علم مهجور ومندثر. وبعض التيارات المهيمنة في حقل اليسار تستخدم مصطلحات الاقتصاد السياسي. ويقول الاقتصاد السياسي أن القيمة تُقاس بأربع ساعات عمل مثلاً وتٌبادل بسلعة أخرى بٌذل في سبيل إنتاجها أربع ساعات عمل.
المقياس هنا مقياس خاطئ. فهو مقياس غير سليم علمياً٬ لأن القيمة هي كمية من عمل متجسدة في المنتوج. كمية عمل بشري. وكمية العمل هو مجهود إنساني واعي. المجهود الإنساني تجسد في المنتوج فأصبح المنتوج ذو قيمة.
ولزن المنتوج بُذل في سبيل إنتاجه كمية عمل فصار ذو قيمة٬ وبالتالي أحتاج أن أقيس هذا المجهود. مثلما أقول الطول مثلاً٬ فالطول هو البعد بين طرفين. فأي شيء طالما له بعد بين طرفين أصبح هذا الشيء له طول. أي شيء يشغل حجم من الفراغ يصبح ذو حجم. أي شيء بٌذل في سبيل إنتاجه عمل يصبح ذو قيمة. الطول محتاج أداة قياس ووحدة قياس. فالطول الذي هو بعد بين طرفي الشيء أقيسه بوحدة قياس محددة. فلا يصح أبداً أن أقيس الطول مثلا ً باللتر أو بالجالون الإنجليزي. فأقيس الطول بالمسطرة ووحدة القياس هي السنتيمتر. القيمة نفس الشيء. فهي كمية عمل متجسد في المنتوج وتُقاس كيف. ولما العمل تجسد في المنتوج يقول الاقتصاد السياسي أنه يُقاس بالساعة. الساعة تقيس الوقت ولا تقيس القيمة. فالساعة التي يضعها الرأسمالي في مكتبه أو في مصنعه تقيس الوقت ولا تقيس القيمة. وفي نفس عندما أقول أن السلعة بٌذل في سبيل إنتاجها أربع ساعات عمل فبذلك أكون عرفت أن السلعة أُنتجت خلال أربع ساعات عمل٬ إنما لم أتعرف بعد إلى قدر القيمة المتجسدة في المنتوج. وديفيد ريكاردو كان واعي لهذا الأمر وأشار بصراحة شديدة أنه سيقيس القيمة وفقا ً لما هو جاري في الاقتصاد السياسي بساعة العمل٬ ولكن قال أنه غير مقتنع بالأمر. وأشار إلى أنه ربما يأتي يوم من الأيام يكشف العلم عن المقياس الصحيح للقيمة. فماركس صار على درب سميث وقاس القيمة بالساعة. وقال أن القيمة تُقاس بالساعة. والساعة أمرين٬ فإما أنها تقيس الوقت أو أنها تقول أن السلعة أُنتجت خلال أربع ساعات عمل٬ إنما لا تقيس قدر القيمة.
وبالتالي قمت بتصحيح هذا المقياس وقدمت فرضية تعتمد على فهم منضبط للقيمة: فالقيمة هي كمية عمل متجسد في المنتوج. هي مجهود إنساني واعي. ووحدة قياس المجهود الإنساني هي السعر الحراري. والكالوريميتر هو أداة القياس. وتُقاس القيمة بالسعر الحراري الضروري٬ لأن هناك أشخاص تتفاوت فيما بينها من حيث القوة والضعف والقصر والطول.. الرجل والمرأة . فالسعر الحراري الضروري مثلا كالبناء الذي يحتاج إلى ٥٠٠ سعر حراري ضروري (س.ح.ض.) خلال ثماني ساعات عمل٬ والمهندس يحتاج إلى ٦٠٠ س.ح .ض. خلال ثماني ساعات عمل وهكذا. وطبعاً علوم التغذية والكيمياء الحيوية تمدنا بشكل واضح جداً بهذا المقياس. فلو رجعنا إلى هذه العلوم وبدأنا في استخدامها لتصحيح مقياس القيمة سنصل إلى أن القيمة تُقاس بالسعر الحراري الضروري ( س.ح. ض. ). الفائدة من هذا الأمر أننا وصلنا إلى ما هو أهم في علم الاقتصاد السياسي. فالاقتصاد السياسي كان يٌخرج الخدمات من حقل انشغاله٬ لأن مسألة أن تقيس الخدمة كانت أمراً صعباً. أما حينما نُدخل في اعتبارنا السعر الحراري الضروري وهو مقياس ثابت للقيمة وأداة قياسه المسعر وهي أداة قياس ثابتة نستطيع أن نمد جميع قوانين الاقتصاد السياسي إلى السلع والخدمات كي نصل إلى مقياس صحيح ومنضبط للقيمة. وبالتالي يصبح علم الاقتصاد السياسي الآن علم أكثر انضباطاً فهو علم قانون القيمة ولديه مقياس منضبط وصارت القيمة الآن محلاٍ لقياس منضبط ووحدة قياس سليمة.
س: وهل دكتور استخدام حدة القياس هذه تنطبق على إنتاج أي نوع من الخدمات ؟ أم أنها مختصة بنوع واحد من الخدمات والمنتجات؟
ج: لا جميع السلع والخدمات. وهناك أمر أحب أن أوضحه وهو أن العامل ليس عامل المصنع فحسب٬ أستاذ الجامعة وعامل المنجم عمال مأجورين. فأستاذ الجامعة يبذل مجهود انساني واعي. هذا المجهود يحتاج إلى كم من السعرات الحرارية ليلقي المحاضرة ؟ وعامل المنجم يحتاج كم سعر حراري كي ينقب في المنجم ؟ وهذا يخلق فائض للقيمة٬ وهذا يخلق فائض للقيمة. الطبيب المأجور الذي يعمل في المستشفى هو عامل مأجور والمهندس الذي يعمل في مكتب استشاري هو عامل مأجور والمحاسب الذي يعمل في مكتب للمحاسبة والمراجعة. المحامي الذي يعمل في مؤسسة قانونية.. كل من يعمل مأجوراً وينتج قيمة زائدة نستطيع أن نقيس وبدقة شديدة مقادر مجهوده الإنساني الواعي من خلال السعر الحراري الضروري. فمثلاً٬ الإنسان يحتاج إلى سعرات حرارية معينة طول اليوم لأنه يبذل طاقة أثناء العمل وخارج العمل وأثناء النوم. فحتى أثناء النوم الانسان يبذل طاقة. فتحسب هذه الطاقة لنصل إلى أن العامل وليكن البناء أو أستاذ الجامعة أو المحامي أو أياً كان العامل المأجور لكي يخلق فائض للقيمة يحتاج إلى كمية من السعرات. وبالتالي هذا المقياس المنضبط والثابت يقيس جميع أنواع الأعمال التي تؤدى.
س: ربما دكتور استخدام عامل الوقت سابقا ً أو حتى الان يستخدم عامل الوقت ربما لأنه أسهل في القياس كأداة وخصوصاً مع تطور العلم الان يمكن أن يكون السعر الحراري وحدة قياس٬ بينما في السابق لم يكن يمكن القياس سوى بالوقت. فهل هذا هو ما جعل الوقت وحدة القياس الثابتة؟
ج: هذا واضح تماماً. متفق معك تماما لأن العلم لم يكن قد تطور ليصل إلى المسعر ووحدة القياس تلك٬ ولكن بقاء هذا الأمر كتقليد متبع داخل علم الاقتصاد السياسي حتى الان يؤدي إلى مشاكل معرفية في العلم٬ لأن مفكري الاقتصاد السياسي كان لديهم الشك بأن الموضوع ليس على قدر كامل من الدقة. حتى أن سميث أعلن أنه أصيب بخيبة أمل في ثروة الأمم٬ لأن الموضوع لن يكون دقيقاً٬ ولكن في السوق سوف تتبادل السلع من خلال المساومة – هكذا قال في نصه. أما ماركس فقال أن التبادل سوف يتم من خلال عملية تجري من وراء ظهور المنتجين. أي أن هذه السلعة أنتجت في أربع ساعات وتلك في خمس ساعات فينزلون السوق الذي سيتولى ترتيب التبادل فيما بينهم. الخطورة هنا أن سميث وماركس ألقونا خارج نطاق العلم وذهبوا إلى السوق وفي السوق يبدأ التجريب. إذن٬ هم وصلوا إلى أن القيمة تتحدد بكمية العمل وكمية العمل تقاس بالساعة ووجدوا أن الساعة ليست مقياساً دقيقاً٬ لأن عامل المنجم مثلاً سيبذل ساعة عمل ٬ ومنسق الزهور سيبذل ساعة عمل. ومن المفترض أن ساعة عمل منسق الزهور تتساوى مع ساعة عمل عامل المنجم٬ ولكن هذا أمر غير متصور٬ فقال سميث أنه في السوق تتم المساومة فنعرف أن ساعة عمل عامل المنجم تساوي ٢٠ ساعة عمل منسق الزهور وممكن أن تساوي ١٩ أو ١٨ وهذا ما يحدده السوق. ماركس سار على درب سميث وقال تجري من وراء ظهور المنتجين. ولكن هنا نحن خارج نطاق العلم. وفي هذا الجزء يلقيني الاقتصاد السياسي في أحضان السوق ولا يصل إلى نتيجة. وبالتالي كان الاقتصاد السياسي في حاجة لإعادة تصحيح المقياس كي لا نغادر حقل العلم إلى حقل التجريب. متفق معك أنه في زمن الآباء المؤسسين العظام سميث وريكاردو وماركس لم يكن هذا المقياس واضحاً أو سليماً٬ ولكن على الأقل في سنة ١٩٣٠ مثلاً ظهرت هذه الأمور بوضوح شديد٬ لكن في مائة سنة تقريباً لم يتم تصحيح هذا المقياس.
س: ننتقل دكتور إلى نظرية نمط الإنتاج. وحقيقة أنت من وجهت انتقادا لهذه النظرية. ولنبدأ أولاً بتعريف ما هي نظرية نمط الإنتاج؟ من أسسها ولمن تعود؟ وما هي انتقاداتكم لهذه النظرية؟
ج: نظرية نمط الإنتاج هي من أهم النظريات في علم الاقتصاد السياسي. وخلاصتها أن المجتمعات منذ بداياتها الأولى ومنذ نشأة جنسنا البشري مرت بأنماط مختلفة وطرق لإنتاج الخيرات المادية. ففي البدايات الأولى قديماً كانت طريقة الإنتاج بدائية ومشاعيه لا طبقية. أي مجتمعات لا تعرف الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. وقرار الإنتاج والتوزيع يُتخذان بشكل جماعي. وتوزع الأدوار على الرجال أ مجموعة من النساء لجلب الطعام. في مرحلة تاريخية ثانية تبدأ الفرضية بوجود قبيلتين٬ هناك قبيلة تغزو قبيلة أخرى. فتكون هناك قبيلة منتصرة وقبيلة منهزمة. والفرضيات التي يقدمها العلماء أن المنتصر كان يقتل ( يأكل ؟؟) المهزوم٬ ولكن مع الوقت وجدوا أنه يمكن استخدام المهزوم٬ أي يمكن استعبادهم. فبدأت تظهر مجتمعات عبودية: عبد وسيد. ومع التطور التاريخي يختفي نمط الإنتاج العبودي ويظهر نمط الإنتاج التالي وهو نمط الإنتاج الاقطاعي. ومع نمط الانتاج الإقطاعي تظهر طبقتان: طبقة ملاك الأراضي أو الأقنان: عبيد الأرض. وفي مرحلة تاريخية يظهر المجتمع الرأسمالي من رحم المجتمع الاقطاعي٬ ويقوم نمط الإنتاج الرأسمالي على العلاقة بين العامل المأجور والرأسمالي. في مرحلة تاريخية تالية للمجتمع الرأسمالي سوف يأتي نمط إنتاج آخر سوف يأتي نمط الإنتاج الشيوعي. ولكن من الرأسمالية للشيوعية ستكون هناك فترة انتقالية تُسمى الاشتراكية٬ وهذه الفترة سوف تمهد لمجتمع شيوعي – لا طبقي قادم.
بُنيت هذه النظرية على هذا النحو حتى أن البعض قال أن الاقتصاد السياسي هو علم أنماط الإنتاج. لماذا قالوا أن الاقتصاد السياسي هو علم أنماط الإنتاج؟ وهم علما كبار٬ ومعظمهم ينتمي إلى الفكر السوفيتي السابق الذي اتخذ من الاقتصاد السياسي أداة أسطورية لإخضاع الجماهير الغفيرة. فعندما يقول أن الاقتصاد السياسي هو علم أنماط الإنتاج٬ معنى ذلك أنه يقول أن المجتمعات كانت بدائية ثم عبودية ثم إقطاعية ثم رأسمالية ثم شيوعية قادمة لا محالة. ومن الذي يقول ذلك... هو العلم! وتم ترسيم خطوط عريضة ودقيقة لهذا المجتمع القادم الذي يقول عنه العلم أنه قادم لا محالة. أي تم استخدام العلم علي نحو أيديولوجي في سبيل ترسيخ مفاهيم معينة. وبالطبع٬ عندما يتم استخدام العلم بهذا الشكل الايديولوجي يتم إهدار تاريخ أمم وتاريخ حضارات٬ وأهدرت علم الاقتصاد السياسي والوعي بقوانين الحركة التي تحكم النشاط الاقتصادي في المجتمع.
كل هذا جعلني أحاول أن أقدم فرضية في سبيل إعادة فهم أولاً: نظرية نمط الإنتاج بالشكل الصحيح٬ ثم تقديم بديل نظري لهذه النظرية يأخذ في اعتباره تاريخ المجتمعات وليس المركزية الأوروبية- فحسب - التي سيطرت بصفة خاصة على العالم٬ وبصفة خاصة على عالمنا العربي المنكوب٬ وإنما أأخذ في تصوري تاريخ العالم وحركة التاريخ الملحمية لأبدأ فهم نظرية نمط الإنتاج بشكل مختلف٬ أي بشكل علمي غير أيديولوجي. فوصلت إلى الآتي باختصار شديد بالنسبة لنظرية نمط الإنتاج ٬ وهو أنها تُقدم على هذا النحو٬ وهو أن أي مجتمع يريد أن ينتج٬ فعملية الإنتاج الخاصة به تقوم على أمرين: قوى انتاج وعلاقات إنتاج. فأي مكان في العالم به عملية خلق لخيرات مادية سنجد أمرين قوى إنتاج وعلاقات إنتاج. قوى الإنتاج أي الأشياء التي تستخدم في سبيل الإنتاج: مواد عمل وأدوات عمل. علاقات الإنتاج أي الروابط الحقوقية التي تنشأ أثناء الإنتاج: ماذا لك وماذا عليك.
ونطبق هذا الأمر على المجتمع العبودي. وقوى الإنتاج المجتمع العبودي عبارة عن الأشياء التي أستخدمها كمنتج في إنتاج السلعة: الخيرات المادية. قوى الإنتاج التي أستخدمها وفق نظرية نمط الإنتاج وخصوصاً ماركس يقول أن قوى الإنتاج التي أستخدمها في سبيل الإنتاج ليست رأسمال٬ فلم تصل بعد إلى رأس المال. لأنني لا أستخدمها في سبيل إنتاج سلع من أجل السوق. وإنما أنتج بها سلع بمنتجات من أجل الإشباع المباشر.. لإشباع السيد. أي أعصر العنب في المعصرة. والمعصرة هنا ليست رأسمال، كذلك المطحنة٬ لأنني لا أستخدمها في سبيل إنتاج سلع من أجل السوق. لو كانت مٌعدة للإنتاج من أجل السوق فسوف تٌعد رأسمال. فلو عندي آلة لطباعة الورق فستعد رأسمال إنتاجي. ولو عندي آلة أنتج بها غزل ستعد رأسمال لأنني أنتج من أجل السوق. أما المعصرة والمطحنة عند المجتمع العبودي لا تعد رأسمال٬ فلا أستخدمها في سبيل إنتاج من أجل السوق. فأنا لا أبيع سلع٬ وإنما محض منتوج أقدمه للسيد الذي يملكني " كعبد".
في المجتمع الإقطاعي فإن قوى الإنتاج لن تصبح رأسمال٬ لأنها أيضاً لا تنتج من أجل السوق٬ ولكنها تنتج من أجل السيد الإقطاعي. فالفأس الذي يستخدمه القن –لا ينتج من أجل السوق ولكن من أجل الإقطاعي٬ وبالتالي الأداة التي يستخدمها لا تعد رأسمال. لو كان القن سيستخدم الفأس في سبيل فلاحة الأرض لتخرج محصول ليبيعه في السوق٬ أصبح الفأس هنا رأسمال إنتاجي. والمحصول الذي يخرج هو رأسمال سلعي يحتاج إلى أن يبيعه في السوق ليحصل على رأس المال النقدي. ويكرر الدورة.
لا تعد قوى الإنتاج في المجتمعين العبودي والإقطاعي وفقاً لماركس ومن جاء من بعد ماركس من قبيل رأس المال. لأن رأس المال لا بد وأن يكون مستخدم من أجل الإنتاج من أجل السوق.
ولكن مع المجتمع الرأسمالي – فحسب- سوف تصبح قوى الإنتاج رأسمال. لأننا استخدم الأشياء في سبيل إنتاج أشياء من أجل السوق. هذا عن قوى الإنتاج٬ أما بالنسبة لعلاقات الإنتاج ففي نظرية نمط الإنتاج تقول أنه في المجتمع العبودي كانت علاقة الإنتاج أو الروابط الحقوقية رابطة قهر وقمع ولا حقوق أبداً لعبد. في المجتمع الإقطاعي العلاقة هي علاقة تبعية ما بين القن والسيد الإقطاعي٬ حيث يدين القن بالولاء للسيد الإقطاعي٬ ويقدم له فروض الطاعة وهو تابع للأرض ولا حقوق. في المجتمع الرأسمالي ستختلف علاقات الإنتاج ما بين الرأسمالي والعامل المأجور. فسوف تكون علاقة تعاقد حرة. تريد أن تعمل فأعمل٬ ولا تريد أن تعمل فلا تعمل٬ ولكن طالما التزمت بأحكام عقد فيتعين أن تلتزم بكل ما ورد فيه. فأنت حر... لديك الحرية في التعاقد. حرية ظاهرية أو حرية فعلية فهذا أمر يمكن مناقشته. إنما الفكرة أن الشخص أصبح لديه إرادة حرة كي يُقدم على التعاقد أو لا يُقدم.
فقوى الإنتاج لم تكن في المجتمعين العبودي والإقطاعي رأسمالاً٬ وأصبحت في المجتمع الرأسمالي رأسمالاً. وعلاقات الإنتاج كانت قائمة على القهر والقمع في المجتمع العبودي وعلى التبعية في المجتمع الإقطاعي وقائمة على التعاقد الرضائي الحر في المجتمع الرأسمالي. هكذا قٌدِمت نظرية نمط الإنتاج.
ونلاحظ أن المجتمع العبودي تم تسميته مجتمع عبودي نسبة إلى علاقة الإنتاج. وفي المجتمع الإقطاعي تم تسميته إقطاعي نسبة إلى علاقة الإنتاج. جئت في المجتمع الرأسمالي وتم تسميته وفقاً لقوى الإنتاج. وبالتالي تم الدخول في " المزاجية" ( الذاتية؟)٬ وبالتالي قُدمت تلك النظرية مشوهة٬ وكأن التاريخ بدأ من أوروبا. وماركس وأتباع ماركس يأخذون من تاريخ أثينا وروما – حيث المجتمع العبودي- ويأخذون من فرنسا فكرة المجتمع الإقطاعي٬ ويأخذون من إنجلترا فكرة المجتمع الرأسمالي. ونأتي في الوطن العربي ونحفظ هذا التاريخ عن ظهر قلب٬ ونحاول أن نبدأ من هذا التاريخ لنؤرخ لمجتمعاتنا: فنبحث إذا ما كنا مجتمعا ً عبودياً أم إقطاعياً أم رأسمالياً ؟ وبنفس المنهج. لأن المشكلة أنه عندما وصل لنا هذا المنهج٬ أصبحنا نستخدمه لنتعرف على نوع نمط الإنتاج عندنا.
ولما فشل البعض في التعرف على نمط الإنتاج السائد في المجتمع العربي أو المجتمعات الإسلامية وفقاً للمنهج الأوروبي الذي اعتبر مقياساً لنمط الإنتاج في العالم العربي. ومن ثم لم نجد أن هذا المنهج يمكن أن يناسب العالم العربي. فتم ابتكار نظريات – لا تقل غرابة في تقديري الشخصي ولا تفاهة - مثل نمط الإنتاج الخراجي ونمط الإنتاج الفلاحي ونمط الإنتاج النهري. ونسمع عبثاً ما بعده عبث. هذا العبث الذي يبدأ من تاريخ أوروبا ويؤرخ للعالم العربي ابتداء من تاريخ أوروبا. وفي نفس الوقت يهدر تاريخ النشاط الاقتصادي في العالم بأسره. لأن النظام نفسه كقوانين حركة .. الخلط تم ما بين أمرين على درجة عالية جداً من الخطورة والأهمية: شكل التنظيم الاجتماعي: عبودي ٬ إقطاعي ٬ برجوازي أم ديمقراطي أم ديكتاتوري٬ أما قوانين الحركة التي يخضع لها النشاط الاقتصادي في المجتمع أياً ما كان شكل التنظيم هي دائماً ما كانت قوانين حركة رأس المال. أي أن قوانين حركة رأس المال هي القاعدة التي تعمل عليها جميع النظم الاجتماعية أياً ما كان شكلها. ولبرهنة ذلك٬ فسنجد أن أي حد في القدس القديمة٬ في آشور وفي بابل وفي مصر القديمة وفي أثينا وفي أشبيليه وفي القيروان وفي بغداد٬ وفي العصر الذهبي للحضارة العظيمة لأجدادنا٬ سوف نجد أن أي شخص يريد أن يستثمر أمواله فلديه ثلاثة حلول أو أمور لا رابع لهم:
-إما أن يشترى سلعة من مكان ويبيعها في مكان آخر ويحصل على فرق الربح
-أو أن يأتي بالسلعة ويصنعها مثلما حدث في التاريخ العظيم الضائع الذي منعنا هيمنة التاريخ الأوروبي من رؤيته – كانت هناك مصانع كمصانع السكر والغزل والعطور٬ وكانت تستخدم العامل وتنتج من أجل السوق المحلي والعالمي.
- إما أن يودعها لدي أحد الأشخاص أي يقرضها له ويأخذ فائدة٬ أو يُضارب هو بيعاً وشراءً للوحدة. أو يودعها في أحد المصارف. وكانت بغداد في القرن العاشر مركزاً لمجموعة مصارف تغطي فروعها أرجاء الخلافة٬ ولكن من الأمور المسكوت عنها – للأسف – التاريخ العظيم الضائع.
فهذه الأشكال الثلاثة تسمى قوانين حركة رأس المال:
- قانون حركة رأس المال التجاري: أشترى سلعة وأبيعها في مكان آخر.
- قانون حركة رأس المال الصناعي: أصنع السلعة
- قانون حركة رأس المال المالي
ومنذ القدس القديمة وحتى وقتنا الراهن٬ تمثل هذه القوانين القاعدة التي تعمل عليها جميع أشكال النظم الاجتماعية. وبالتالي٬ نظرية نمط الإنتاج هنا تخلط خلطاً مزمناً ما بين شكل التنظيم الاجتماعي وقوانين حركة رأس المال التي يخضع لها النشاط الاقتصادي داخل هذا التنظيم الاجتماعي. فهناك قصدية٬ وهي أن الرأسمالية على هذا النحو هي نظام طارئ بالنسبة للذهن الأوروبي الذي لم يرى العالم إلا ابتداء من رؤيته. وطالما هي نظام طارئ يجب اسقاطه ويتم التبشير بنظام آخر تالي وفقاً لأيديولوجية معينة.
فنظرية نمط الإنتاج قدمت بشكل مشوه٬ وأستعيض عنها بنظرية في قوانين الحركة. وهذه النظرية ترفض الخلط المزمن بين شكل التنظيم الاجتماعي وقوانين الحركة داخل النظام الاجتماعي أياً ما كان شكله٬ وفي نفس الوقت٬ نظرية نمط الإنتاج أرفضها بهذا الشكل الأيديولوجي٬ لأنها تعطي صورة مشوهة لتاريخ المجتمعات٬ وتُخرج العالم العربي والحضارة الإسلامية هذه من تاريخ النشاط الاقتصادي. بل بالعكس نحن نعلم تاريخ أوروبا الغربية – للأسف الشديد – أكثر من تاريخنا٬ ونبدأ في استقدام هذه النظرية كي نقيس بها مدى تطور عالمنا العربي والإسلامي للأسف الشديد٬ ونحن لدينا الفرص المدهشة لاستلهام الحياة من تاريخنا العظيم الضائع.
س: ممتاز ممتاز دكتور. ليس فقط أضعنا فرصة فهم تاريخنا واستنتاج نظريات اقتصادية من خلاله٬ لكن لجأنا للتاريخ الأوروبي. ولكن وفقا لكلامك هناك قاعدة رئيسية انطبقت على جميع المجتمعات وفي جميع الأزمنة وما زالت موجودة إلى الان. وقبل أن أنتقل إلى الموضوع الذي يليه وردنا بعض الأسئلة من الجمهور عن الموضوع السابق حول مقياس القيمة. فالحديث كان أنه كان هناك مقياساً للقيمة يعتبر إلى حد ما خاطئ. فالسؤال الان هو ما هو تأثير هذا المقياس الخاطئ علينا؟ أي كيف أثر على فهمنا للاقتصاد وكيف أثر على المجتمع؟ وأيضاً كيف يمكن أن يؤثر الفهم الصحيح لمقياس القيمة - إذا تم استخدامه بشكل واسع – على الواقع٬ أي كيف يمكن الاستفادة منه على أرض الواقع؟ وما هي الفائدة الملموسة التي نحصل عليها؟
ج: الجزء الأول هو أن الاقتصاد السياسي عندما عمل على مقياس خاطئ للقيمة كان هناك تربص لهذا العلم وللأخطاء الموجودة بداخله٬ لذا التيارات الأخرى التي كانت ترفض الاقتصاد السياسي وجدت أن هذا مدخل جيد للعمل عليه. فبدءا ً من المساومة في السوق تبدأ يُحدد للسلعة قيم التبادل الخاصة بها. وبالتالي تكون البداية من السوق. وتم ترك حقل الإنتاج٬ حيث يتم خلق القيمة. وبالتالي بدءوا في السوق وجدوا ذريعة مهمة للإطاحة بعلم الاقتصاد السياسي باعتباره علم بلا فائدة. والسوق حيث التبادل٬ وهو القادر على فعل كل شيء. للأسف السوق غير قادر على فعل أي شيء ولكن كالعادة يتم تقديم الأمر بشكل مغلوط ومعكوس. فهناك قانون موضوعي يحكم هذه الأمور. ولما وجد المفكرون من النيو- كلاسيك أن علم الاقتصاد السياسي من خلال سميث رأى أنه ستجري مساومة من خلال السوق فقرروا أن يظلوا في السوق..
لما وصلنا لهذه المرحلة بأن كل العلم في السوق بما في ذلك " مؤشر هارفارد". فلا يوجد بحث عن أي قوانين موضوعية. جميعها فروض مجردة. وهنا تبدأ قاعدة مهمة في العمل في السوق٬ وهي أن كل شيء متوقف على كل شيء. يعني لا يوجد تحديد لأي شيء. ولكن عندما أبدأ في استخدام السعر الحراري الضروري٬ أي أبدأ في استخدام مقياس منضبط للعلم ابدأ في تحديد على نحو دقيق الدخول٬ كما أبدأ أتحكم في مسألة التوزيع. ولما أتحكم في مسألة التوزيع يكون لدي الوعي بمسألة الإنتاج.
وبدون الدخول في أمور أكثر تعقيدا٬ هناك ما يُسمى بتجديد الإنتاج على نحو موسع. فلا يوجد مجتمع يستطيع أن يكف عن الإنتاج أو يتوقف عن الاستهلاك. فلابد للمجتمع أن يجدد إنتاجه الاجتماعي. تجديد الإنتاج الاجتماعي يحتاج إلى استراتيجيات٬ يحتاج إلى تخطيط بالمعنى المنضبط. هذا التخطيط يأخذ في اعتباره قياس القيمة على نحو منضبط بمعزل عن السوق مؤقت فالسوق لن يحدد شيئاً. التحديد كله سيكون في حقل الإنتاج. فلابد للتخطيط أن يأخذ في اعتباره الدخول ابتداء من مقياس منضبط للإنتاج ولعملية الإنتاج وللمنتج المباشر الذي سوف يبذل الجهد. وتقدير هذه الأمور سوف يجعل الخطط التي يتم وضعها من قبل رجال الدولة ورجال السياسات أكثر فاعلية. وفي اللقاءات الأخرى يمكن أن نتحدث في وضع خطة ابتداء من قانون القيمة. وسوف تجدون أموراً غاية في الغرابة والدهشة٬ وكيف يمكن أن يتم الخروج من مشكلات ببساطة إذا ما تمسكنا بالعلم.
فبداية من المقياس الصحيح٬ يحسب الجهد الذي سيتسرب بعد ذلك إلى الخارج. سوف يغذي مصانع ومعامل في العالم الغربي. أي مجهودك الذي سيقاس على نحو دقيق سوف يخرج إلى الخارج.
س: لو قسنا القيمة بمقياس السعر الحراري٬ فأن السلعة لن تُباع وفقا لهذه القيمة، فالسوق يطلب سعراً آخر مختلفاً عن القيمة التي يتم قياسها علمياً.
ج: لا يمكن على الإطلاق٬ لأنني سأحتاج ١٠٠ سعر حراري وآخذهم من ثمرة فاكهة وثمرة خضار مثلا. الثمرتان أنتجتا بواسطة جهد بسعر حراري٬ وبالتالي سوف يتم التبادل بين سعرات حرارية على نحو منضبط. في السوق قد ترتفع وقد تنخفض مقادير المبادلة٬ إنما في العلم أنا أنشغل بالقانون الموضوعي الذي تتأرجح من خلاله مقادير التبادل. وعندما أضع خطة يهمني أن يكون لدي وعي بالخط الذي تتأرجح ارتفاعا وانخفاضاً أثمان السلع حوله معبراً عنه بالسعرات الحرارية. في المنتهى سيتم التبادل ما بين سعرات حرارية على نحو دقيق ومنضبط. هو السؤال هنا هو كيف يتم تقييم السعر الحراري المنتج داخلياً بالسعر العالمي؟ وهذا موضوع آخر يقع في نظرية يسمونها " بنظرية التبادل غير المتكافئ". أي أنهم يقولون أن التبادل غير المتكافئ على الصعيد العالمي هو الحقيقة. والحقيقة غير ذلك تماماً٬ لأن التبادل بيننا وبين العالم الأكثر تقدماً هو تبادل متكافئ. أما بالنسبة للسعرات فسيتم مبادلتها على نحو منضبط.
س: هل يمكن قياس المجهود الذهني بالسعر الحراري؟ أي المجهود الذهني للمفكرين٬ والإنتاج الفكري؟
ج: طبعاً! ولكن لأكون أكثر وضوحا وصراحة٬ أشار " ريكاردو" إلى أن الاقتصاد السياسي ليس محل انشغاله اللوحات الفنية العظيمة. نفس المسألة٬ فلا أستطيع الآن أن أقيم كتاب "رأس المال" بكمية السعرات الحرارية التي بذلها كارل ماركس في هذه الأمر٬ أو أقيم لوحة ل " فان جوخ" بعدد السعرات الحرارية. إنما لو أقيم العمل الذهني لمهندس الذي بذل جهد في الرسومات الهندسية من أجل بناء العقار٬ يمكن تقييمه بالسعر الحراري. أي ما هو حجم الجهد المبذول في سبيل إتمام الرسم الهندسي؟ كما يجب أن نأخذ في اعتبارنا عدد السعرات الحرارية التي أنفقت عليه منذ مولده حتى صار مهندساً دُفع به إلى سوق العمل. لأنه ممكن المقارنة بين البناء والمهندس. فالمهندس يأخذ أجراً مضاعفاً أو أكثر لما يأخذه البناء. رغم أن البناء يبذل جهداً أكثر من المهندس في العمل. وسبب ذلك أن البناء لم يُبذل جهداً في سبيل جعله بناء سوى كسرة خبز ...أي لم يُبذل فيه سعرات حرارية مثل تلك التي بُذلت في سبيل التعليم والتطبيب والتثقيف للمهندس.
فالعمل الذهني لو كان المقصود به الأعمال الذهنية الخالدة فهي خارج نطاق الاقتصاد السياسي .. طبعاً لها مقياس لانه لا يوجد شيء بلا مقياس٬ فالكلام له مقياس.
س: الموضوع الآن هو نظرية تجديد إنتاج التخلف. هذه النظرية موجودة لديك. وظهرت في بعض كتاباتك في الاقتصاد السياسي. فهناك كتاب " الاقتصاد السياسي للتخلف" الصادر من مركز دراسات الوحدة العربية. وهناك أيضاً كتاب " نقد الاقتصاد السياسي"٬ وتحدثت فيه عن هذه النظرية. فهل يمكن أن تشرح لنا فكرة " تجديد إنتاج التخلف"٬ وإسقاط ذلك على عالمنا العربي.
ج: باختصار٬ فكرة تجديد إنتاج التخلف ترتبط بأن التخلف عادة ما يُطرح في الأروقة الأكاديمية بوجه عام وفي سياسات الدول وبصفة خاصة في عالمنا العربي على أساس أن التخلف هو عدد المرضى والجوعى والفقراء والعشوائيات. هذا ليس " التخلف". هذه مظاهر التخلف٬ أما التخلف فهو لا يُدرس. لنا أن نتصور أن التخلف قيل لنا أن من أسبابه الاستعمار. ولكن حتى الاستعمار انقشع وتبدد في عالمنا العربي منذ خمسين عاماً٬ ومع ذلك لم نزل نجدد تخلفنا الاجتماعي صباح كل يوم. لماذا؟ هذا السؤال أرقني. وكانت ظواهر التخلف التي قال بها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وهما من المؤسسات التي يستخدمها رأس المال الدولي استخداما ً – كما قلت مراراً وتكراراً- في سبيل مصلحتهما. وهذه النظريات تقول لنا أن التخلف مرضى وجوعى وفقر ...إلخ. ولكن التخلف ليس إلا عملية تسرب القيمة الزائدة التي تنتج داخل المجتمع إلى خارجه. وهو تسرب مزمن للقيمة الزائدة كي يتم شراء السلع والخدمات التي نعتمد عليها في عالمنا العربي في سبيل إنتاجنا الاجتماعي اليومي. بمعنى٬ أي مجتمع عربي: مصر٬ سوريا ٬ العراق٬ عُمان٬ المملكة العربية السعودية٬ الجزائر ٬ تونس .. كل عالمنا العربي سوف يبدأ المجتمع السنة الانتاجية - ليكن ب ١٠ مليار دولار – وكل الفروع سوف تعمل: الصناعة والتجارة والزراعة والخدمات. في نهاية السنة يحقق المجتمع ككل فائضاً٬ أي زيادة. فقد بدأ ب ١٠ مليار دولار وفي نهاية السنة حقق ١٢ مليار دولار٬ أي يوجد ٢ مليار دولار زائدة. جميع المجتمعات العربية هكذا. السؤال: أين تذهب هذه الزيادة؟ لو الزيادة المتحققة أعيد ضخها في عروق الاقتصاد المنتج لها فنحن خارج دائرة التخلف. أما إذ ما تسربت إلى خارج الاقتصاد القومي لتغذي صناعات معقدة في الأجزاء المتقدمة من النظام الرأسمالي في سبيل شراء السلع والخدمات التي نجدد بها انتاجنا الاجتماعي. فنحن كمجتمعات عربية في حالة تخلف مزمن. ففي السودان على سبيل المثال٬ الأراضي الشاسعة مثل أرض الجزيرة: ما الذي يستخدمونه في الزراعة؟ يستخدمون عدد وآلات ومعدات أنتجت في الأجزاء المتقدمة من النظام الرأسمالي٬ مثل " كاتربيلر" و" كوماسو" ... إلخ. كل هذه الأمور تشير إلى أن الفائض الذي يحققه المجتمع إنما يخرج إلى خارجه كي يغذي المصانع في أجزاء العالم الأول. ولا يقتصر الأمر عند ذلك٬ ولكن كذلك الخبراء. كل هذه الأمور٬ أي تسرب القيمة التي ينتجها المجتمع بفضل عرق الشغيله٬ وأقصد بالشغيلة هنا عامل المنجم وعامل المصنع وأستاذ الجامعة والطبيب والمحامي. ولننظر إلى منازلنا مثلاً: فالعامل المدخن مثلا لو أنتج بعلبة السجائر الخاصة به فسنجد أن التبغ إن لم يكن مستورداً فالحبر المكتوب على العلبة مستورد. الآلة التي طٌبع بها مستوردة٬ وملابسه مستوردة. وقد قمت بحساب نسبة التبعية. ومن هنا وصلت إلى أننا نسير من التخلف إلى التبعية٬ وقلت أن التبعية مقياس التخلف. فأقيس التخلف من خلال التبعية. وقد وصلت إلى أن تبعيتنا معالم عربي وفقاً لمقياس التبعية وصلت إلى ٦٠٪ وقد بلغت في مجموعة خمس سنوات ٧٠٪. أي نحن نتبع النظام الرأسمالي العالمي بنسبة ٧٠٪. فأنا تابع في تجديد إنتاجي الاجتماعي وفي تجديد حياتي اليومية بنسبة ٧٠٪. وهذا الأمر عادة لا يؤخذ في الاعتبار نهائياً٬ بل ويُقال أن أزمة المجتمعات العربية ليست في اندماجها في النظام الرأسمالي العالمي٬ وإنما يُقال أن أزمة مجتمعاتنا العربية أنها غير مندمجة بالقدر الكافي في الاقتصاد العالمي. وهذا عبث وتضليل. فأصل كعالم عربي إلى أن نسبة تبعيتي للعالم الغربي ٧٠٪ كارثة وأزمة.
وهذا الأمر هو ما أكدت عليه في الطبعة السادسة من نقد الاقتصاد السياسي، وهو هذه الأرقام الخاصة بنسبة التبعية لمجتمعاتنا العربية المنكوبة.
س: كيف يمكننا أن نحد من هذه التبعية وهذا التخلف المتجدد٬ وإنتاج سلع أكثر في داخل دولنا٬ وتحقيق تبادل أكثر واكتفاء ذاتي أكثر لنقلل من التبعية للنظام العالمي؟ هل هناك مانع٬ مثلا اللوبيات الكبرى؟
ج: في الواقع٬ لست من أنصار هذا الأمر. فلا يحلو لي أن أقول ذلك. هناك بالطبع لوبيات٬ وهناك الصندوق والبنك. ولكن٬ الصندوق والبنك لم يجبرنا نهائياً على أن نقترض. فأنت اخترت هذا الطريق.. طريق القروض وطريق الصندوق. وطريق التدخل في شئونك الداخلية أنه يصل لمرحلة أن يقول لك عدل الدستور وغير المناهج التعليمية لديك. أي أنه يفرض هيمنته وسياساته. فلا يوجد حد أجبرك. فأنت ذهبت بإرادتك للصندوق وللبنك٬ رغم أنه لديك حلولاً مبهرة ومدهشة. ولكن نظرا ً لعدم اعتناقك لأي تصور نظري خلاف نظريات الكلاسيكيين الجدد والنقديين والحديين. ولكن لا يوجد ما يمنع أن يكون لدينا في عالمنا العربي نهضة فعلية حقيقية. أما بالنسبة للوبيات فهي موجودة بالطبع. ولكن في تقديري لو هناك إرادة شعبية ستضغط على الإرادة السياسية بلا أدنى شك. ومراكز الثقل الحضارية تنتقل. وربما تكون في طريقها لنا مرة أخرى. فكنا سادة العالم في وقت من الأوقات. وعلمنا العالم كيف يفكر في وقت من الأوقات. ونهلوا من علومنا ونقلنا لهم العلم وحافظوا عليه وطوروه٬ فانتقل مركز الثقل الحضاري إلى مكان آخر. ربما يكون في طريقه إلينا إذا ما كان لدينا إرادة شعبية حقيقية ترغب في هذا الأمر.
س: عندما نتحدث عن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيره فإن الصورة السائدة دائماً هي أنهما ربما يكرسان التخلف الاقتصادي والتبعية لدي دول العالم الثالث، لكن الاستثناء الموجود هو كوريا الجنوبية. فهي من الدول القليلة في العالم التي استطاعت الاستفادة من قروض البنك الدولي وصندوق النقد٬ أم أنه توجد عوامل أخرى ساعدتها في تسديد ما عليها من قروض وتحقيق انتاجاً كبيراً٬ وأن تصبح من الدول الصناعية الكبرى في العالم. لماذا كوريا الجنوبية؟ فهل هناك عوامل مجتمعية٬ حيث – وفقا لما أشرت له – أن الاقتصاد مرتبط بالمجتمع؟ أم ماذا؟
ج: في الواقع أستطيع أن أقول لك أنه ليست فقط كوريا وإنما أمثلة أخرى. ولكن إلى جانب تلك الأمثلة يمكن أن أعطيك مائة مثال لحالات كارثية قد حدثت. صحيح أن المجتمع الكوري مختلف٬ فمشكلة المرور – مثلا – تمثل اعتداء مجتمعيا عند الكوريين. ويمكن أن نتحدث عن حالة كوريا في محاضرة كاملة٬ وكيف تعاملت مع صندوق النقد الدولي ٬ وما هي الاستراتيجيات التي قامت بها. وكيف كان للصندوق أيضا دوراً في هذا الأمر٬ لأنه لم يكن قامعاً بدرجة كبيرة. والأهم أن ننظر إلى أن الصندوق والبنك الدولي ليستا مؤسستين خيريتين٬ ولكن مؤسسات ربحية في المقام الأول. وكما أشرنا من قبل أن عادة ما ينظر إلى الصندوق والبنك من جانب الدول المدينة٬ ودائما ما يعلو الصريخ والعويل بأنها منظمات ظالمة...إلخ. ولكن هناك زوايا أخرى لا ينظر اليها وهي العلاقة بين البنك والصندوق والدول الدائنة. فالبنك والصندوق بصفة خاصة علاقتهما مع الدول الدائنة هي علاقة وكيل دائنين متشدد. فحينما أقترض من البنك والصندوق فيتشدد الاثنان في المنح والاقتضاء. ويتشدد في الرقابة. ولأجل ذلك يتشرط عليك مجموعة من الأمور منها: الاقتراض من أجل قطاعات معينة (نادرا ً ما نسمع أن القروض استخدمت في بناد مصنع نسيج مثلاً) تدر ربحاً سريعاً٬ وحيث المخاطرة أقل٬ فيضمن أن ترد له القرض بالعملة الصعبة. فهو يشترط عليك هذه الامور. كما يشترط عليك الاستعانة بخبرائه٬ أي أن تأتي بالمعدات والآلات من دول مثل ألمانيا وانجلترا. أما في حالة كوريا كان الموضوع مختلف نسبيا٬ بالإضافة لوعي الشعب الكوري.
قس على ذلك أن الاتحاد السوفيتي كان دولة رأسمالية. الصين دولة رأسمالية. واستطاعت أن تتعامل مع النظام الرأسمالي (مع الوعي بالتفرقة بين شكل التنظيم الاجتماعي: الحزب الشيوعي وقوانين حركة رأس المال)٬ وهي تتعامل مع الدولة العربية بمقام الدولة الامبريالية الاستعمارية وقد تقوم بدور صندوق النقد ٬ بل قد تلعب دوراً أفظع من دور صندوق النقد. فمسألة أن تأخذ قرضاً من الصندوق محكوم عليها بعدة شروط منها أن تتكيف هيكلياً وتعيد تنظيم الاقتصاد وترفع الدعم. فالمجتمع يمكن أن يعاني من أجل ٢ مليار دولار٬ على الرغم من وجود حلول كثيرة جداً وأكثر نجاحاً وبعيدة عن الصندوق. ولكن هذا مرجعه العديد من الأمور أبسطها اعتناق تصور أحادي من جهة صانع القرار.
س: دائما ما تكرر في محاضراتك أن الذهن العربي في أزمة، وتؤكد على أهمية التفكير الصحيح وأن العرب لا يفهمون سبب أزمتهم الاقتصادية. فما هي الأزمة التي يعيشها الذهن العربي؟ وكيف نفهم الأزمة الاقتصادية التي نعيشها؟
ج: تكمن أزمة الذهن العربي في فهم الأزمة ذاتها. وكان الذهن العربي في وقت من الأوقات قادراِ على انتاج المعرفة وليس تلقيها. فقد علمنا العالم كيف يفكر. فحينما كان لدي الذهن العربي سر انتاج المعرفة تمكن من قيادة العالم في لحظة تاريخية معينة. فقد كانت له استاذية العالم. فالذهن العربي في لحظة تاريخية معينة تلقى علم الشرق القديم وحافظ عليه وطوره ونقله لغرب أوروبا التي حافظت عليه وطورته أيضاً. ولما كان الذهن العربي يملك سر انتاج المعرفة كان ذهنا قادراً على خلق العلم والمعرفة. للأسف مع انتقال مراكز الثقل الحضارية غاب عنا هذا السر. واختفى سر انتاج المعرفة. وهذا الأمر ينطبق على الاقتصاد والسياسة والفلسفة والطب والكيمياء والفلك والأحياء وكل العلوم. كنا سادة العالم حينما امتلكنا سر انتاج المعرفة.
وسر إنتاج المعرفة قائم على ذهن تجريدي قادر على أن يعلو بالظواهر عن كل ما هو ثانوي٬ أما الان فالذهن العربي غارق في التفاصيل ولا يستطيع أن يعلو بالظواهر عن كل ما هو ثانوي كي يصل إلى القانون الموضوعي. هذا الأمر في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية مختلف. وربما في فترة من الفترات٬ وربما قريبة٬ يعود إلينا سر أنتاج المعرفة كي نقود العالم في فترة من فتراته. ولكن أزمة عالمنا العربي تكمن في أزمة فهم الأزمة وهي أن الذهن العربي غارقاً في التفاصيل لا يحسن أبداً في صناعة وعي قائم على البحث عن القوانين الموضوعية للظواهر. وكل الظواهر الاجتماعية التي يعيشها الذهن العربي هو غير قادر – للأسف – على أن يصل إلى قانونها الموضوعي. حينما نتلقى سر إنتاج المعرفة مرة أخرى٬ أو يعود إلينا مرة أخرى٬ ربما نستطيع أن نقود هذا العالم مرة أخرى. وفي المناهج الدراسية ما قبل وما بعد التعليم الجامعي لك أن ترى العجب٬ وترى مقدار طاقتنا الفكرية والمعرفية. ولك أن ترى آلاف الرسائل الجامعية كيف أنها غارقة في التفاصيل ولا يوجد لديها أي منهج علمي واضح في سبيل الكشف عن الحقيقة.
ــــــــ
https://www.facebook.com/omranproject/videos/917600272106427








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا وراء استئناف الخطوط الجوية الجزائرية رحلاتها الجوية من


.. مجلس الامن يدعو في قرار جديد إلى فرض عقوبات ضد من يهدّدون ال




.. إيران تضع الخطط.. هذا موعد الضربة على إسرائيل | #رادار


.. مراسل الجزيرة: 4 شهداء بينهم طفل في قصف إسرائيلي استهدف منزل




.. محمود يزبك: نتنياهو يريد القضاء على حماس وتفريغ شمال قطاع غز