الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله تعالى | الجزء‏ الرابع

عدنان إبراهيم

2021 / 2 / 13
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


أخذ العهد على المريدين
البيعة في الكتاب والسنة: ‏
‏ قال الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) وقال تعالى (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا). وقال تعالى ‏‏(إن العهد كان مسئولا). وقال تعالى (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث ‏فإنما ينكث على نفسه ومن ‏أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما) وقال تعالى (لقد رضي الله عن ‏المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): « بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا » الحديث. ‏
فالعهد أولا أخذه الله تعالى على رسله الكرام، بأن يكونوا أمة لحبيبه ومصطفاه إن أدرك زمانه أحدهم. وأخذت ‏الرسل صلوات الله وسلامه عليهم العهد لله على أممهم، وقام العلماء الربانيون بأخذ عهد الله تعالى بالنيابة عن ‏رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أهل عصرهم في كل زمان، بأن يبينوا لهم ما أوجبه الله تعالى عليهم، وما رغبهم فيه، وما ‏كان عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة الهدى، ثم يأخذون عليهم العهد أن يأتمروا بما أمرهم به الله والرسول، وينتهوا ‏عما نهى الله ورسوله عنه.(1)‏

الجنة وفاء من الله بعهده للمؤمنين: ‏
‏ قال تعالى (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) وكما أن الله أخذ عليهم العهد أن يقوموا ‏بالعمل بوصاياه سبحانه، فقد ضمن لهم - فضلا منه وكرما - أن يدخلهم الجنة، وبشرهم بأن يفى لهم بعهده ‏سبحانه، قال تعالى (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) فتكون معاني الربوبية معالم بين عيني العبد، فلا يرى شيئا ‏إلا ويرى أنوار الربوبية قبله وفيه وبعده، وبذلك يكون ربانيا، يفقه عن الله، ويتلقى بسره عن رسول الله، ويكون ‏له وجود عينى بالله تعالى، ثابت بإثبات الله له، ظاهر بإظهار الله له، عامل في محاب الله ومراضيه بتوفيق الله ‏وهدايته، فيكون له من الله الفضل العظيم، وعليه الواجب المقدس، الذي هو معرفة حكمه إيجاده له سبحانه ‏وتعالى، وسر إمداده منه سبحانه وتعالى.‏
‏ ‏
كيفية أخذ العهد: ‏
‏ لما كان العلماء الربانيون ورثة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وكان لابد من تجديد عرى الإيمان، لأن الإيمان ‏يخرق كما يخرق الثوب، وتخفى معالمه، ولكن الله سبحانه وتعالى يجدده على ألسنة العارفين به. ‏
‏ ولما كان المرشد خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، في بيان شعب الإيمان وتفصيل ما أجمل من السنن، وتوضيح ما أبهم ‏منها، وبيان سبل الله، كان عليه بعد أن يعلم تلاميذه ما يجب عليهم: أن يعاهدهم بالنيابة عن رسول الله ‏‏(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويواثقهم له صلوات الله وسلامه عليه، مبينا لهم أن يده التي يضعها على أيديهم هي يد رسول الله ‏(صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى يكون صورة كاملة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ‏
‏ فاصطلح أهل الطريق رضي الله عنهم أن يبتدئوا مع المريد بتعليم العلم الواجب عليه في الوقت، من علوم المعرفة والأخلاق ‏والعبادات والمعاملات، وآداب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم يواثقونه بعد ذلك على أن يعمل بما علم بقدر استطاعته، ‏وينتهي عما نهى عنه الله جملة واحدة إلا ما أكره عليه كما يبينونه له. ‏
فيبايعونه البيعة الكاملة على أن لا يشرك بالله شيئا، وأن يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج ‏البيت إن استطاع إليه سبيلا، وأن يجتنب الكبائر والفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأن يجاهد نفسه وهواه في ‏ذات الله، ويبينون له (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) هذا سر العهد عندهم، ولا ‏ينبغي أن يعاهد المريد إلا عارفا ربانيا، يصح أن يكون صورة كاملة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحسب زمانه، لا بحسب ‏المعاني المحمدية الكاملة. ‏
‏ ---‏
أصول الطريق
العقيدة

العقيدة هي أصل الأصول: ‏
‏ هي أصل الأصول التي عليها مدار العبادات والأخلاق والمعاملات، وبها نيل الرضوان الأكبر يوم لا ينفع مال ‏ولا بنون، قال سبحانه (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏) متى انعقد القلب على ‏العقيدة الحقة التي مأخذها الكتاب والسنة، وبيان الأئمة، أشرقت أنوارها على الجوارح، فسارعت إلى محاب الله ‏ومراضيه، وإنما تكون الاستقامة بقدر العقيدة الحقة، تجعل المتجمل بها حاضرا مع الله لا يغيب، عاملا له ‏سبحانه بالإخلاص لا يخالفه، مراقبا له جلاله في خلوته ومجتمعه، محاسبا نفسه على كل صغيرة وكبيرة، يرى ‏الجحيم حضورا أو استحضارا، وبعيشك: من رأى الجحيم بعين اليقين، كيف يخالف القوي القهار المتين ؟!‏

العقيدة في أقوال أئمة الطريق: ‏
‏ وإليك ما قاله أئمة الطريق فيما جملهم الله تعالى به من حسن العقيدة. ‏
‏ سئل أبو عثمان المغربي عن الخلق فقال: قوالب وأشباح، تجري عليهم أحكام القدرة. ‏
وقال أبو عثمان المغربي يوما لخادمه محمد: لو قال لك أحد: أين معبودك، فماذا تقول ؟ قال: أقول: لم يزل، ‏قال: فإن قال: أين كان في الأزل، فماذا تقول ؟ قال: أقول: حيث هو الآن. يعني أنه كما كان ولا مكان، ‏فهو الآن كما كان، قال: فسره منه ذلك، ونزع قميصه وأعطاه إياه. ‏
وقال الواسطي: لما كانت الأرواح والأجساد قامتا بالله وظهرتا بالله، لا بذواتها، كذلك قامت الخطرات والحركات ‏بالله، لا بذواتها، إذ الحركات والخطرات فروع الأجساد والأرواح.‏
وقال أبو سعيد الحزاز: ومن ظن أنه ببذل الجهد يصل إلى مطلوبه فمُتعنًّ، ومن ظن أنه بغير الجهد يصل ‏فمتمن. ‏
وجاء رجل إلى ذي النون المصري يقول: ادع الله لي، فقال له: إن كنت قد أيدت في علم الغيب بصدق ‏التوحيد فكم من دعوة مجابة سبقت لك، وإلا فإن النداء لا ينقذ الغرقى.‏
وسئل ابن شاهين الجنيدي عن معنى « مع » فقال: لها معنيان، مع الأنبياء بالنصرة والكلاءة، قال تعالى ‏‏(إنني معكما أسمع وأرى) ومع العامة بالعلم والإحاطة، قال تعالى (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) ‏
‏ . وقال الإمام جعفر الصادق: من زعم أن الله في كل شيء او من شيء أو على شيء فقد أشرك، إذ لو كان ‏في شيء لكان محصورا، أو كان من شيء لكان محدثا، أو لو كان على شيء لكان محمولا. ‏

المنكرون لأقوال أئمة الطريق: ‏
‏ هذه عبارات من سبقت لهم العناية، وإنما يذوق حلاوة معناها أهلها، ممن سبقت لهم من الله الحسنى (وكلا ‏نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) وإن كان معنى الآية يشير إلى ماكان يحصل لرسول الله من ‏الحزن - عند إنكار قريش وتكذيبه - رحمة بهم. ولكن نذكرها هنا لإقامة الحجة، على أن تلك العبارات يزداد ‏بها أهل الإيمان الكامل يقينا، وينكرها من سجل عليهم القضاء البعد والقطيعة ‏
‏ وما تقول في عقيدة من يدعي الإسلام وهو يعتدي على أخيار الله، محتجا بكلام من لا حجة لهم ممن قال الله ‏فيهم (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا‏) وقال سبحانه (ما ‏أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا). ‏
‏ ما تقول في عقيدة من يقول: أنا أبحث بحثا علميا والدين والعلم مختلفان. وهو يجهل حقيقة العلم لأنه يجهل ‏روح الدين. الإسلام لا يعادي العلم، لأن الإسلام وضع الحكيم العليم، الذي بين الحقائق كما هي، وكل ما ‏يخالفه فهو جهل وضلال، وإن كان عند أهل النفوس اللقسة علما. ‏
‏ العلم هو تصور النفس رسوم المعلوم، ومتى تصورت النفس رسوم المعلوم، صار المعلوم معالم بين عيني العالم - ‏لانبلاج أنوار الغيب المصون وإشراقه على جوهر النفس - فبين لغيره بالعبارة معاني المعلوم، ليتمثلها خيال ‏السامع لا بقدر المعلوم، فإن كان السامع ممن منحهم الله نفسا نورانية، تقبّل العلم الحق واطمأن قلبه. وإن ‏كانت نفسه خبيثة، أنكر ومال إلى مجالسة أهل الكفر والضلال، فإن استدرجه الله تعالى بقوة أهل الباطل، ‏وضعف أهل الحق، جاهر بالضلال، وإن أظهر الله أهل الحق أظهر أنه من أتباعهم، وأخفى في نفسه ما الله ‏مبديه، وهو النفاق. ‏

العقيدة هي الحجة: ‏
بينت لك الأصل الأول الذي هو العقيدة، وهو أصل الأصول، بل هو رأس مال المؤمن، وما زاد عليه فهو ‏ربحه، قال الله (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) والعقيدة الحقة مأخوذة من الكتاب ‏والسنة وبيان الأئمة، وقد أوردت ما قاله أئمة الطريق رضى الله عنهم في العقيدة، وفيه الكفاية لمن جعل الله لهم ‏نورا في قلوبهم. ومن طلب تحصيل العقيدة بالبراهين المنطقية والأدلة العقلية، حرم الإيمان الحق، لأن الله تعالى ‏على عظيم، لا تدركه الأبصار الباحثة. (2) وقد أخبرنا سبحانه وتعالى عن نفسه في آيات من القرآن كثيرة، ‏وأقام الحجة البالغة بما بينه سبحانه في خلق السموات والأرض وما بينهما وما فيهما، مما شاهدته العقول، ‏واطمأنت به القلوب. على أن كل شيء خلقه الله للإنسان مما أحاط به من أفلاك وأملاك، وأجواء وأرجاء، ‏ومعادن ونباتات وحيوانات، وهذه هي الحجة التي أسجدت القلوب لعلام الغيوب، وبقيت المحجة وهي الأصل ‏الثاني الذي هو العبادة التي تربط العبد بربه، قال تعالى(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) وتتمثل في الطريقة ‏المستقيمة. ‏

الطريقة المستقيمة
الطريقة هي الحجة: ‏
‏ هي أقرب طريقة توصل إلى المطلوب، وكل الطرق الأخرى منحرفة أو معوجة أو منقطعة لا توصل السالك ‏عليها، وتلك الطريقة المستقيمة محصورة في قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعمله وإقراراته، وقد بينها أئمة الهدى بالقول ‏والعمل والحال. ‏
‏ وطالب الله تعالى يجب عليه أن يبحث عن مرشد يصحبه، هو أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعد أن يظفر ‏به يجب عليه أن يسلم له فيما علم أنه لا يخالف كتابا ولا سنة فإن الحرام بين والحلال بين، ومن حجب ممن ‏يتعدى حدود الله ويخالف أحكامه، ووصاياه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فارق السنة، ومال عن الطريقة المستقيمة، ولا ‏حجة له. قال الله تعالى (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) ‏
‏ والواجب علينا أن نتمسك بالسنة، تمسكا يمنحنا ربنا الفوز به، والوصول إليه، ونيل ما وعدنا سبحانه عنده، ‏قال سبحانه (أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا).‏

بم تصلح الطريقة؟
أولا: تلقي عقيدة التوحيد
‏ تلقى عقيدة التوحيد من الكتاب والسنة والسماع من المرشدين الكاملين، لا من أهل الجدل والمعارضة ‏والإنكار، الآخذين بأصول اليونان - التي هي الأشكال المنطقية ونتائجها - وما لم يكن عليه السلف الصالح، ‏بل يترك الجدل مرة واحدة، قال تعالى: (ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون).‏

ثانيا: امتثال الأوامر واجتناب النواهي ‏
‏ المسارعة إلى عمل ما أمر الله بقدر الطاقة، والبعد عما نهى الله عنه جملة، فإن الطاعة مقيدة بالطاقة، قال ‏تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) ‏‎ ‎وكل تكليف ملاحظ فيه الاستطاعة، وأما ما نهى الله عنه فيترك جملة واحدة، ‏فإن الله ما نهى إلا عن كل قبيح لا خير فيه.‏

ثالثا: أن يكون لكل فرد في المجتمع حق عليه ‏
‏ أن ينزل الناس من قلبه بقدر ما أنزلتهم الشريعة، فترى معلم الخير والوالدين في أرقى المقامات من قلبك، ‏تعظيما وإقتداء ومحافظة على الاتباع وبرا. ‏
‏ وترى إخوتك من والديك أحب الناس إليك، ويليهم إخوتك من والدك أو والدتك، ثم ترحم أبناءك وتجتهد ‏في تربيتهم تربية تصلح بها حالهم في الدنيا والآخرة، ثم تحسن صحبة زوجتك، وخصوصا إذا تزوجت أكثر من ‏واحدة. ‏
‏ ثم تنزل الناس بحسب منازلهم، من جار أو قريب أو شريك أو عامل عندك، من الرحمة وحفظ العهد ورعاية ‏جانب الله تعالى، حتى يكون المجتمع الإسلامي كالجسد الواحد، لكل فرد منه حق عليك بقدره شرعا. ‏

رابعا: أن يؤدي ما عليه لغيره ‏
‏ وهنا ملاحظة أحب أن يكون السالك عليها، وهي أن يسارع في تأدية ما عليه لغيره، ولا يطالب الناس أن ‏يقوموا بما عليهم له، طمعا فيما يناله من الأجر يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من آتى الله بقلب سليم. ‏
‏ وفى هذا المقام تتفاوت المقامات، فإن الله سبحانه عندما أثنى على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يثن عليه لأنه كثير ‏الصيام، أو القيام، وإنما أثنى عليه بالأخلاق الكريمة، قال تعالى (وإنك لعلى خلق عظيم) بغير تنوين القاف، ‏أى: على خُلُقِ الله، وبالتنوين في رواية حفص يعنى على خلق موصوف بالعظمة عند الله تعالى، وهو أكمل ‏جمال للأخلاق.‏
ولا تسوّ أيها المريد بالأخلاق شيئا، فإن الأخلاق هي رعاية جانب الله تعالى، وقهر دواعى البشرية من الحظ ‏والهوى والطمع، وبذلك يكون المريد أشبه بالملائكة المقربين، بل أفضل منهم، لأنه مجاهد، والملائكة أرواح ‏نورانية ليست فيهم عناصر تقتضي المجاهدة، قال تعالى (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيما) ‏

الشريعة والحقيقة طريق واحد

أدعياء الطريق وتأويلاتهم
‏ إن الأصول الشرعية يجب على السالك في طريق الله أن يرعاها حق رعايتها، فلا يحيد عنها قيد شعرة، ‏والسلوك إلى الله تعالى لا يمكن أن يكون من غير الطريق الشرعي، ولما كانت هذه النقطة من أدق النقاط ‏وأصعبها فهما على عقول العامة، خصوصا في هذا الزمان المظلم الذي تفشت فيه البدع، واشتدت وطأة ‏المضلين والجاهلين. ‏
‏ فقد رأينا أن نعرض للكلام فيها، ونفصل ما خفى منها حتى تستبين الحجة فيها، وتتضح المحجة وينجلي ذلك ‏الستار الموهوم الذي أسدله أدعياء المتصوفة وقاطعوا طريق الله تعالى على أنفسهم، لتضليل البسطاء وإغواء ‏الأبرياء، والتحايل على العيش من وراء هذا الافتراء والبهتان. ‏
يحاول أولئك القوم أن يفهموا السذج من الناس أن الشريعة والحقيقة مختلفتان، متناقضتان في لفظهما ‏وجوهرهما، وأنهما طريقان متباينان، لكل طريق منهما أصول وقوانين، وأن كلا منهما انفردت بأهلها ومعتنقيها ‏عن الأخرى، ولذلك يُحَتّمون على من سار في طريق الحقيقة أن يترك كل ما يتعلق بالشريعة، لأنه يسير بزعمهم ‏في طريق أعلى وأسمى من تلك الطريق، ولا يجمل بمن رقى أن يتنزل، ولا بمن تغلغل في بطن الدار وجالس أهلها ‏؛ أن يعود للوقوف على بابها. ‏

الرد على هذه التأويلات: ‏
وجهل أولئك المغرورون أن الشريعة والحقيقة طريق واحد، بدايته الأولى ونهايته الثانية. ‏
وأن الحقيقة من الشريعة، كالقصر المشيد العالي من الأساس المتمكن في أعماق الأرض، فلو لم يبق هذا ‏الأساس ويحكم بناؤه لما قام ذلك القصر، ولما دام بقاؤه. ‏
وإنه وإن كانت الحقيقة بيتا والشريعة بابه، فإن البيوت لا تؤتى من غير أبوابها، وإن الذي يدخل البيت ‏من غير الباب إنما هو لص مريب، لا ينظر إليه بعين الثقة ولا الاحترام. ‏
‏ ولقد بين العلماء العارفون بالله وهَنَ تلك الدعاوى الباطلة، التي يضلل بها أولئك الأدعياء عقول الناس، ‏يقذفون بهم في هوة مخالفة الشريعة والخروج على أوامرها، حتى إذا ما انقضت تلك الحياة الدنيا - وسرعان ما ‏تنقضي - وجاء يوم الحساب والعقاب (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ‏وقال الذين ‏اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما ‏هم ‏بخارجين من النار) ‏

مكائد أدعياء الطريق وحيلهم: ‏
‏ وإليك بعضا من مكائدهم وحيلهم التي ينصبون شراكها لإيقاع البسطاء: ‏
‏ أول ما يبدو لك من أحوالهم جرأة على الشريعة، وسوء أدب مع الله تعالى، وأمن واستهتار ينبئك بأن نفوسهم ‏لقسة لم تتطهر من رجس الشهوات، ولم يوجد فيها القابل الذي يقبل الحقائق ويرضخ لها، وإذا ما أنكر عليهم ‏منكر بعض أمورهم المخالفة للشرع الشريف، قالوا كذبا: (إن حرمة ذلك في العلم الظاهر، وإنا أصحاب العلم ‏الباطن، وهو في علمنا حلال، وإن الناس يأخذون من الكتاب والسنة، أما نحن فنتلقى من صاحبها محمد ‏‏(صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن أشكل علينا ما نتلقاه منه رجعنا إلى الله تعالى بالذات. وإنا بالخلوة، وهمة شيخنا نصل إلى الله، ‏فتكشف لنا العلوم، فلا نحتاج إلى كتاب وسنة، إن الوصول إلى الله تعالى لا يكون إلا برفض العلم الظاهر ‏والشرعي، وإنا لو كنا على الباطل ما حصلت لنا تلك الكرامات العلية، والأحوال السنية، من مشاهد الأنوار، ‏وكشف الأسرار). ‏

الرد على هذه المكائد والحيل: ‏
‏ كل ذلك ونحوه أكاذيب وترهات، بل هو إلحاد وضلال إذ فيه ازدراء بالشريعة السمحاء، وإبطال لحكمة ‏تشريعها، وإن الشيطان لم ينل من المسلمين ما ناله الفساق من المدعين التصوف بالباطل، فإن الله تعالى يقول ‏‏(واتقوا الله ويعلمكم الله) والتقوى هي العمل بعلم الشريعة.‏
لأن الأخذ بالعزيمة من شأن الأتقياء، ومن خالف الشريعة صار غويا لا تقيا، ومثله يعلمه الشيطان الطمع في ‏الأموال، وإباحة الأعراض، والكيد لمخالفيه والمنكرين عليه.‏

الذين يحصلون علم الشريعة ولا يعملون به: ‏
‏ كما أن الذين يحصلون علم الشريعة ولا يعملون به هم شر الخلق، لأن العالم إذا استعان بعلمه على نيل الدنيا ‏من الملوك والأمراء، بل ومن المتسلطين من غير المسلمين، بأن يواليهم ويودهم ويتردد عليهم، سلب الله منه بركة ‏العلم، وكان العلم حجة عليه يوم القيامة. ‏
روى الإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر الأندلسي بسنده في كتابه: (جامع بيان العلم) عن أبي هريرة ‏ ‏قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: « أولُ الناس يُقْضى فيه يوم القيامة ثلاثةٌ: رجل استُشهد في سبيل الله ‏فأتى به ربُّه فعرّفه نعمه فعرفها، فقال: فما عملت فيها ؟ قال: قاتلت فيك حتى استُشهدْتُ، قال: كذبت، ‏ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل: ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم ‏وعلمه وقرأ القرآن. فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها ؟ قال تعلمتُ فيك العلم وعلمتُه وقرأتُ ‏القرآن، قال: كذبت، ولكن ليقال: هو قارىء، وقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ‏ورجل أوسع اللهُ عليه وأعطاه من أصناف المال، فأتى به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها ؟ قال: ما ‏تركتُ من سبيل تحبُّ أن أُنفق فيه إلاّ أنفقتُ فيه، قال: كذبت ولكن ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به ‏فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار‎«‎‏. ‏
‏ وهذا الحديث فيمن لم يرد بعلمه ولا عمله وجه الله. وقد قيل في الرياء: إنه الشرك الأصغر. ‏


‏__________________‏
‏(1)‏ ‏ هذا العهد ليس أمراً مجازياً ولكنه عهد حقيقي له نص وصيغة معينة، بقيت آثاره في الطرق الصوفية حتى يومنا هذا.‏
‏(2) يتحدث الإمام عن علم الكلام والمباحث المنطقية التي أخذها المسلمون عن اليونان في استدلالهم على وجود الله تعالى، بينما براهين القرآن ‏فيها كفاية لمن كان له قلب. وأشد من هؤلاء ضلالاً من بحث عن الله من خلال العلم التجريبي اعتماداً على الحواس من سمع وبصر ولمس وشم ‏وتذوق، وممن استفاض في نقض هذا المنهج المعوج العلامة آلان كاردك في كتاب الأرواح. والله يقول (لا تدركه الأبصار) ولكن تدركه العقول، ‏ولذلك كثيراً ما خاطب أولوا الألباب.‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السيدة انتصار السيسى تهنئ الشعب المصري والأمة الإسلامية بحلو


.. تكبيرات العيد في الجامع الازهر في اكبر مائدة إفطار




.. شاهد: في مشهد مهيب.. الحجاج المسلمون يجتمعون على عرفة لأداء


.. 41-An-Nisa




.. 42-An-Nisa