الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحجية الأصوات

حسان الجودي
(Hassan Al Joudi)

2021 / 2 / 15
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ظلَّ الفتى خائفاً من الدخول إلى غرفة الجدِّ، وكان مصدر خوفه هو ذلك الكتاب الضخم العتيق الموضوع على طاولة خشبية قرب السرير.
كان الجد حريصاً على ذلك الكتاب ، وقد منع الجميع من لمسه أو تنظيفه. وكان يقوم بنفسه بإزالة الغبار عنه بواسطة فرشاة جميلة ثخينة مصنوعة من ريش النعام الأسود. ثم كان بعدها يستلقي في سريره ساعات وهو ينصت إلى أصوات غامضة قادمة من بطن الكتاب . كانت تلك الأصوات هي التي جعلت الفتى خائفاً من حمل الطعام أو الشراب لغرفة الجد. وقد ظن أنها لمجموعة من الجن تسكن في داخل الكتاب ، وهذا بالطبع كان رأياً خاصاً به، فلم يسمع أحد غيره تلك الأصوات.
مرض الجد ذات يوم مرضاً شديداً، فاضطر الفتى إلى حمل الطعام له كل يوم. شجعه ذلك على الإنصات باهتمام إلى أصوات الكتاب. وحين تخلّص من خوفه المقيم، غض النظر عن فرضية الجن ، وبدأ بوضع احتمالات أخرى تفسر ذلك. فكر أولاً أن هناك فأرة كبيرة تقرض كل يوم قسماً من الكتاب. ثم تخيل أن هناك في الداخل راديو صغيراً يعمل بين الحين والآخر.
لاحظ الفتى سعادة الجد البالغة حين كان ينصت إلى تلك الأصوات ، فازداد فضوله، وتجرأ ذات يوم، وأيقظ جده برفق، وطلب منه أن يفسر له أمر الأصوات الغامض. فرح الجد كثيراً بسؤال حفيده، وأدهشه أن الصغير يسمع مثله تلك الأصوات، أبدى الفتى حماسه واستعداده لتنظيف الكتاب كل يوم، ووعد جده بكتمان السر عن الجميع.
فارتاح الجد إلى ذلك، وأخبر الفتى أن ما يسمعه كل يوم هو صوت هدير بحر كبير وواسع كان موجوداً منذ آلاف السنين، وأن صوت ذلك الهدير يشعره بالغبطة الروحية، خاصة حين تأتي لحظة خارقة ، فينشق البحر إلى نصفين ، ويظهر هناك طريق عريض تعبره قافلة من الرجال.
لم يصدق الفتى مزاعم جده. وقرر أن يكتشف سر الأصوات بنفسه.
في صباح اليوم التالي، رافق والده الجدَّ إلى الطبيب ، فأسرع الفتى إلى غرفة الجد. اقترب الفتى من الكتاب ، واستطاع بيسر فتح غلافه، ثم بدأ بتقليب الأوراق بهدوء، فسمع صوت بحر قادم من بعيد. ازداد الصوت وضوحاً ، ثم صار جلياً حين وصل الفتى إلى منتصف الكتاب. وحينها شاهد الفتى بحراً ساجياً تتحرك أمواجه برفق وليونة مصدرة تلك الأصوات الفريدة التي اختلطت بأصوات كثير من الطيور البحرية التي كانت تحلق فوق هوامش الصفحة. واصل الفتى التقليب ، ثم لم يسمع شيئاً، ثم شاهد انشقاق البحر إلى نصفين ، وشاهد عبور قافلة من الرجال، وبدأت الأصوات تختلط في رأس الفتى. أصاب الفتى الاضطراب والخوف، أغلق الكتاب بقوة، فشعر بأصوات غاضبة كثيرة تخرج من الكتاب. زاد اضطراب الفتى فأزاح الكتاب عن الطاولة ، فسقط على أرض الغرفة الخشبية، ولاحظ الفتى كيف انسرب الماء الوفير من داخل الكتاب وغار في شقوق الخشب القديمة.
غادر الفتى خائفاً.، وهو يحمل الكتاب. ثم عاد بحذر بعد وصول الجد إلى المنزل. وجد الجد حزيناً ساهماً ، سأل حفيده عن سبب اختفاء الكتاب أنكر الفتى مغامرته ، ووعد الجد بالبحث عنه .
ظل الجد حزيناً لأيام طويلة، ثم مات بعدها. فشعر الفتى بحزن مقيم لم يجرؤ على الإفصاح به ، لأنه تسبب من غير قصد بحرمان جده من أجمل خيال ملأ روحه بسعادة نادرة .
تلك السعادة التي لم يشعر بمثلها الفتى فيما بعد، حتى حين استطاع فك الحرف، واكتشف أن أحجية الأصوات هي مجرد حكاية للقراءة . وأن آذان جدّه كانت مثل آذانه الصغيرة مصنوعة من الإيمان الخالص.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طلاب يهود في جامعة كولومبيا ينفون تعرضهم لمضايقات من المحتجي


.. كاتدرائية واشنطن تكرم عمال الإغاثة السبعة القتلى من منظمة ال




.. محللون إسرائيليون: العصر الذهبي ليهود الولايات المتحدة الأمر


.. تعليق ساخر من باسم يوسف على تظاهرات الطلاب الغاضبة في الولاي




.. إسرائيل تقرر إدخال 70 ألف عامل فلسطيني عبر مرحلتين بعد عيد ا