الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عهد الزعيم عهد للثقافة اللبرالية

توفيق التميمي
كاتب وباحث في شؤون التاريخ والذاكرة العراقية

(Tawfiktemimy)

2006 / 7 / 26
المجتمع المدني


من المفارقة التاريخية ان يشهد عهد الزعيم عبدالكريم قاسم ليبرالية ثقافية تعددية لم يشهدها تاريخ ثقافتنا المعاصر حتى هذه اللحظة.. وليست هذه الحقيقة يمكن تمريرها للتسويق الاحتفائي بذكرى ثورة 14 تموز المجيدة وزعيمها الخالد.. ولكن يمكن الاستدلال بالارقام والوقائع.. والمبادرات التي اقدم عليها الزعيم.. كجزء من استراتيجية وطنية لقلب ثوابت الحكم البريطانية والعثمانية في طائفية الدولة والمجتمع.
ورغم تطلع عبدالكريم قاسم وطموحه العسكري فان ذلك لم يمنع ان يكون جزءا من النسيج الثقافي العراقي.. بصفته طالبا في الاعدادية المركزية.. في الاربعينيات وهي تضم النخبة الفكرية والثقافية التي ارست الركائز الاولى للابداع العراقي في كل مجالاته المعرفية والادبية.. ومن ثم كان واحدا من شريحة المعلمين العراقيين التي تصدت لقيادة العملية النضالية في بواكير تاريخنا الوطني.
من هنا كان عبدالكريم قاسم مقاتلا وطنيا في ارساء قيم جديدة لدولة لا تعرف التمايزات الطائفية او الاثنية او القومية.. رغم شذوذ ذلك المنطق وغرابته في زمن انتعاش النسخة المزورة من المشروع القومي النازي والفاشي.. في العراق عبر اسوأ مشروعين عرفتهما الثقافة العراقية متمثلة بمشروع ساطع الحصري في التربية ومشروع ميشيل عفلق في السياسة.. اللذين كان لهما اكبر الاثر في تمهيد الارضية المناسبة لعودة الثوابت الاستعمارية الطائفية وسرقة منجزات تموز المجيدة ومبادرات زعيمها الخالد عبدالكريم قاسم.
فليس من المستغرب.. ان تصطف اكثر من 52 صحيفة عربية واذاعات محلية اجازتها ليبرالية عبدالكريم قاسم.. ومعها عشرات الاذاعات في تشويه الثورة والصاق ابشع الاوصاف المبتذلة في الادب السياسي بتلك الشخصية الوطنية.
وكانت تلك الهجمة الضارية الاعلامية مقدمة للنهاية التراجيدية للثورة والزعيم.
كان من ابرز تجليات هذه الليبرالية الثقافية.. هو الشروع بتأسيس الروابط والمؤسسات الثقافية المدنية التي كانت مدارس في الادب والاعلام لتخريج وجبات متتالية من الشعراء والكتاب والاعلاميين..
ففي بواكير عهده المبارك تأسست اول نقابة للصحفيين العراقيين كما تأسس اول اتحاد لادباء العراق.. وانيطت مسؤوليتهما الادارية والابداعية للمثقفين انفسهم.. شعراء واعلاميين.. دون ان يكون للقيادة العسكرية او المدنية اي تدخل في شؤونهما..
وهكذا اصبح الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري رئيسا لاتحاد ادباء العراق ونقابة الصحفيين العراقيين.. وهو شخصية وطنية مستقلة.. عانت من التهميش الطائفي في ظل ادارة ساطع الحصري الطائفية للمعارف كما اصر عبدالكريم قاسم على ان يكون العالم الفيزيائي العراقي المندائي عبدالجبار عبدالله اول رئيس لجامعة بغداد.. في سابقة لم يشهدها تاريخ التعليم في العراق.. لينتهي هذا العالم بوباء السرطان في غربته بعد ان نال حصته مع الاحرار الوطنيين العراقيين في دهاليز مكاتب التحقيق لعصابات الحرس القومي ومن ابرز الامثلة الصارخة لليبرالية الثقافة العراقية في عهد الزعيم.. كما يذكر المفكر العراقي حسن العلوي في كتابه المهم (الشيعة والدولة القومية).. هو اصطفاف العمود اليومي للمفكر الاسلامي محمد باقر الصدر مع كتابات ميشيل عفلق في جريدة الحرية وهي جريدة يصدرها القوميون والبعثيون. (قاسم حمودي واولاده سعد وجعفر) ليتحول هذا الاصطفاف الليبرالي الى خنادق دموية في عهدي البعث الاول والثاني.
ولم يشهد عهد الزعيم اي حالة اضطهاد او تعذيب او سجن لمثقف او مفكر او اديب كما لم يشهد اي هجرة قسرية لهم باستثناء الخلاف المعروف بين الزعيم والشاعر الجواهري الذي انتهى بسفر الجواهري الى الخارج بمساعدة موظفين في حكومة عبدالكريم نفسه.
ولهذا كله.. كانت هذه الفترة من الليبرالية فترة استثنائية في تاريخ الثقافة العراقية المعاصرة.. حيث انتهت مع نهاية الزعيم الخالد وثورته المجيدة بعد ان تكالبت عليها قوى الشر والكراهية المحلية والعربية والعالمية..
ليبدأ تاريخ اسود من حكم العراق على يد عصابات الحرس القومي من اللصوص والقتلة والاشقياء.. الذين لم يجهزوا على هذه الثورة وزعيمها فقط بل ليبتلعوا موروث العراق السومري والبابلي.
فليس من الغريب ان تبدأ مواقيت الهجرة الاولى للمثقفين العراقيين مع اغماضة عيون الزعيم الخالد.. الذي غادر العراق ليسكن في قمر فقرائهم ومدنهم التي بناها لهم ولاجيالهم.. بعد صراع مرير وتاريخي مع ظلم الاقطاع وقسوة الاوبئة والامراض وافات التجهيل.
مضى عبدالكريم قاسم بعيدا في قمر الفقراء واحلامهم.. ليترك حسرة في قلوب المثقفين العراقيين على فترة ذهبية من فتراتها..
وتبلغ تلك الحسرة ذروتها.. عندما تتطلع الى واقع ثقافتنا العراقية المعاصرة التي بات المثقفون يوزعون انفسهم بين خنادق طائفية وتوصيفات مذهبية اسوة بأمراء الحروب وقادة الميليشيات بأسوأ مهزلة عرفها تاريخ الثقافة العراقية لتبقى ايام الزعيم وعهده اياماً لا يمكن ان تنساها الذاكرة الابداعية الوطنية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأمم المتحدة: نحو نصف مليون من أهالي قطاع غزة يواجهون جوعا


.. شبح المجاعة.. نصف مليون شخص يعانون الجوع الكارثي | #غرفة_الأ




.. الجنائية الدولية.. مذكرتا اعتقال بحق مسؤولَين روسيين | #غرفة


.. خطر المجاعة لا يزال قائما في أنحاء قطاع غزة




.. ما الأسباب وراء تصاعد الجدل في مصر بشأن اللاجئين السودانيين؟