الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله |‏ 8

عدنان إبراهيم

2021 / 2 / 19
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ثانيا: المجاهدة
المجاهدة واجبة على كل مسلم، ليحصل التوازن بين الجسم والروح(1) حتى يتجمل بحقيقة ‏العبادة الجامعة للروح والجسم.‏
ومن أهمل نفسه من المجاهدة، تسلطت عليها قواها، وقادها الحظ والهوى، وقهرها إبليس، فجعل ‏عبادتها عادة وشهوة، وجعل محبتها أطماعا وآمالا. ومؤمن يعبد الله ليدخل الجنة عبد غير الله، ‏فكيف بمن يعبد الله ويسهر ويصوم لينال الدنيا أو ليأخذ من الناس العوائد والهدايا ؟! ‏
وسأشرح لك شيئا من المجاهدة بعد هذا الدرس إن شاء الله تعالى مفتتحا بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ ‏جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).‏

معرفة النفس:‏
المبتدىء في طريق آل العزائم، يغذى بلبان العلم في طفوليته، حتى تنكشف له حقيقة ‏نفسه الحيوانية، فيعلم أنه من طين أو ماء مهين، والماء لوالده، وما زاد عليه من لحم ودم فلأمه، ‏بقدرة الله وحسن تدبيره وقوته وكمال تقديره، وما زاد على ذلك من حياة وسمع وبصر وشم ‏وذوق، ولمس وعقل وقوة قابلة للعلم والتعلم، فهو من الله بفضله.‏
ثم ينظر في الكون المحيط به فيرى بعين اليقين أن الله تعالى انفرد بإيجاده بعد العدم، وانفرد جل جلاله ‏بإمداده بكل شىء في نفسه، وبكل شىء حوله، فيتحقق عدمه لولا الله تعالى، ويتعين اضطراره ‏إلى الله في كل نفس، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم الخندق وهو يحمل التراب على كتفه ‏الشريف: ‏
اللهم لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا * ‏ وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا * إذا أرادوا فتنة أبينا
والمريد في طريق آل العزائم إنما يتعلم ليعمل بعلمه، فإذا علم مبدأه تغذى بعلم نهايته، فتصور ‏البداية والنهاية في كل أنفاسه بعد تحققه بأن إيجاده وإمداده من الله وبالله، وأن الله تعالى إنما ‏خلق الإنسان ليعبده سبحانه، فيذوق انفراد الله تعالى بالوحدانية في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، ‏فهوالله الخلاق الرزاق المحيى المميت الفاعل المختار، ويميز بهذا العلم بين ما ينسبه إلى نفسه من ‏العمل، وما يشاهد أنه من الله جل جلاله، كما قال سبحانه: (أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ ‏الْخَالِقُونَ). (2)‏

عجائب القدرة:‏
بينا لك أيها السالك في طريق الله تعالى أن الله تعالى انفرد بإيجادك من العدم، وإمدادك ‏بالفضل، ونسب إليك ما لا يحدث إلا بك في قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ ‏نَحْنُ الْخَالِقُونَ) فنسب لك الإمناء، وأثبت له سبحانه الخلق، لأنه جل جلاله هو الخلاق. ثم ‏قال سبحانه: (أفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) فأثبت لك الحراثة لأنها تحتاج ‏إلى محراث وأيد تعمل، وأثبت له سبحانه وتعالى الزرع لأنه محتاج إلى قدرة الله وحكمته (3)، ‏لتعلم ما لك وما له سبحانه.‏
ثم قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ﴾--- ‏أثبت وجود الماء سبحانه، وأثبت لنا الشرب منه، ثم أثبت لنفسه سبحانه إنزاله من الكون، وأنه ‏بقدرته جل جلاله، جعله ماء حلوا عذبا سائغا للشاربين ولم يجعله ملحا أجاجا. ‏
ثم قال سبحانه: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ * نَحْنُ ‏جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ) أثبت سبحانه وجود النار، وأثبت أننا نوقدها للانتفاع بها، ثم ‏أثبت لنفسه سبحانه إنشاء شجرتها.‏
فبين سبحانه تلك الحقائق التى هى حراثة الأرض والماء والشجر والنار وهى أصل كل ‏الخيرات التى لا غنى للإنسان عنها، فبالنار أيها الإنسان أمكنك أن تصنع طعامك وكل ما تحتاج ‏إليه لبقاء حياتك، ثم ولدت بها الكهرباء، واخترعت بها ما به طرت في السماء، وغصت في ‏البحار، وما دفعت به أعداءك من الأسلحة وغيرها. كل ذلك بسبب النار، وقبل معرفة النار ‏كان الإنسان مع الآثار في حروب مهلكة، وكم مضى على الإنسان من قرون في بدايته، كان في ‏حرب فادح فيما بينه وبين الآثار الجوية، ثم بينه وبين الوحوش والحيوانات المفترسة، حتى أظهر الله ‏النار التى خزنها له من حرارة الشمس كما بينت لك. ‏
هذا نظر من ذى فكر فيما حولك، مما هو جلى، وهوالإمناء والزرع والماء والنار، وكل ‏حقيقة من تلك الحقائق لوفك رمزها عن كنوزه الإلهية، لارتد البصر خاسئا حسيرا عن فهم ما ‏فيها من الأسرار، فضلا عن أن يدرك حقائقها من الأنوار، وهى المحسوسة الملموسة التى لا ‏تفارق الإنسان نفَسا.‏
فكيف لو كُشف للإنسان غيوب النفس التى هى نفخة القدس(4)، وكيف يذوق حلاوة كونها ‏في الهيكل الإنسانى، وأنها باتصالها به سجدت له الملائكة، وسخر له ما في السموات وما في ‏الأرض جميعا منه، وأقامه ربه مقام الخليفة عنه، متصرفا في عوالم ملكه وملكوته بإذنه سبحانه ‏وتعالى، ثم يكرمه بعد ذلك في مقام الأنس على بساط منادمته في مقعد صدق عند مليك ‏مقتدر، متنعما بشهود جمال ربه، مبتهجا بجوار الأطهار من المصطفين الأخيار من المجتبين. ‏أويقيمه مقام السخط والبعد، في جحيم الحسرة والندامة، ولهيب الخيبة محروما مما أعده الله له لو ‏أنه سمع وأطاع وقام لله بما استطاع.‏
وإنما ذكر الله تلك الحقائق الأربعة التى هى الإمناء والزرع والماء والنار، لنعلم أن كل ‏شىء في الوجود، خلقه سبحانه لننتفع به، لأننا عبيد محتاجون إلى فضله العظيم، وإحسانه ‏العميم. ومتى تحققنا بتلك الحقائق عرفنا أنفسنا، لأن أصلنا الماء المهين وهو للوالد، والذي خلقه ‏وصوره في الأرحام هوالله تعالى، كما أنه سبحانه هو الذي خلق لنا كل شىء.‏
‏ فالواجب علينا أن نشهد عجائب قدرته، وغرائب حكمته في كل شىء، حتى لا نرى ‏شيئا من الأشياء، ولا نسمع صوتا ولا نشم رائحة، ولا نذوق ذواقا، ولا نحس محسوسا، إلا ‏ونشاهد فيها علىّ آياته، وجلىّ حججه، ونعلم أنه الذي خلق كل شىء لنا لننتفع بما أبدعه في ‏الأشياء مما لابد لنا منه، فنذكره ولا ننساه، ونطيعه ولا نعصاه، ونشكره ولا نكفره، جل جلاله ‏وتقدست صفاته وأسماؤه.‏

عليك بالمجاهدة:
إذا فهمت ذلك يا أخى، فالنفس هى اللطيفة النورانية، بل الجوهرة الربانية، بل هى ‏الحقيقة التى هى أمانة الله المشرقة أنوارها في هيكل الإنسان(5)، يعرفها من عرف نشأته الأولى، ‏وتحقق أن أسفل سافلين مفارق لأعلى عليين، وكيف جمع الله بين أعلى عليين وأسفل سافلين ‏بقهر واقتدار، وجعل أسفل سافلين يرتقى حتى يُخدم بالملائكة المقربين في جوار رب العالمين.‏
أسجد أيها العقل موقنا بقوله تعالى: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا) ‏وجاهد أيها الجسم حتى تحرق زَبَد العناصر، وأوقد نار المجاهدة على ما يمكث في الأرض ليتجرد ‏الجوهر النفيس، من كدرات الجسم الكثيف، وتحصل المجانسة التقريبية، لأن النفس جوهرة ربانية ‏صافية نورانية، فإذا صفا الجسم حصل له بالنفس تشبه، فاتصل بها واتحد، وعرف نعمة الله عليه ‏واعتقد، فعجز عن شكره حيث جعله مشكاة مثالية، وكونه من أركان الوجود السلفية والعلوية، ‏فكان – وهو الجسم الصغير – العالم الكبير، مراد
الله بدءا، وجاره في مقعد صدق ختماً.‏

"دستور آداب السلوك إلى ملك الملوك"
الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم
‎__________________________________________‎
‏(1)‏ لو غلب حكم الجسم على الروح لصار الإنسان – في حقيقته – حيواناً في شكل بشري لأن الحيوانات نفس بلا روح تتكلم، ‏ولو غلب حكم الروح على الجسم لانقطع الإنسان عن الدنيا وانتفت الحكمة التي جاء لأجلها، وهي المجاهدة لأجل تطور ‏الروح.‏
‏(2)‏ العبد المؤمن يعلم أنه مخلوق مربوب لرب قوي قادر أزلي، فإن رسخ لديه هذا المشهد تبعه مشهد آخر وهو أنه قائم بالحي ‏القيوم، وكل عمله إنما هو عمله سبحانه، قال تعالى (والله خلقكم وما تعملون)، وما العبد إلا مظهر.‏
‏(3)‏ في الحقيقة أن القدرة لله في الحالتين، لأن الإنسان هو مظهر الله، فهل المظهر عين مستقلة عن مصدرها؟ هل هي شيء قائم ‏بذاته ؟ ليس هذا هو حقيقة المظهر، حقيقة المظهر أنه عدم لا قدرة له ولا أي صفات على الإطلاق ولا حتى والحياة لأن الحي ‏هو الله، ولكن المظهر وسيلة لظهور الأسماء والصفات، مثاله عندنا: البروجكتور المثبت على جدار السينما لكي تظهر عليه ‏أحداث الفيلم، فهو وسيلة لظهور كل هذا، ولكن لو تم إطفاء التيار عنه لصار جماداً لا يظهر عليه شيء، وكذلك الإنسان ‏لو فارقته الروح لصار جماداً، ويقول في ذلك الله سبحانه (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون) فالليل هنا رمز ‏للجسد، والنهار رمز للروح، ولذلك قال (فإذا هم مظلمون) ولم يقل فإذا هم في ظلام أو في ظلمة.‏
‏(4)‏ قال الإمام في اصطلاحات الصوفية أن الروح هي ظل نفخة القدس.‏
‏(5)‏ يقول الإمام أبو العزائم أن النفس أو الروح: هي المراد في قوله تعالى (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين ‏أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان) فالإنسان وحده هو الذي يتسع ماعونه لحمل وإظهار الأسماء والصفات من خلال ‏هذا المخلوق العظيم الذي هو النفس (أو الروح المتجسدة) وأما غير الإنسان فلا قدرة له على إظهار الأسماء والصفات ولا ‏حتى السموات والأرض، فالسماء كلها مظهر لاسم أو اسمين : العلي والرافع، والأرض مظهر لاسم الباسط، وليس ثم إلا ‏هذا.. إذن (فأبين أن يحملنها وأشفقن منها) يعني أن حقائقهم غير مؤهلة لهذا (وحملها الإنسان) لأنه الوحيد المؤهل لهذه المهمة ‏العظيمة. ولكن يجب عليه أن يتذكر أن ما أخذه عبارة عن "أمانة" ووديعة عنده، وليست ملكاً له، فهو مظهر أو وسيلة ‏لظهورها (وهذا هو المعنى الحقيقي والعميق لكلمة عبد) وإذا نسي هذا وظن أنه ليس عبداً وأنه هو الحي وليس عبد الحي، ‏وأنه هو العليم وليس عبد العليم، وأنه هو القادر وليس عبد القادر، الخ: فهذا النسيان بعينه كان هو معصية آدم، قال تعالى ‏‏(ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) يقول الإمام أبو العزائم في كتاب "الطَهور المُدار على قلوب الأبرار" عن ‏شجرة الأسماء وما أكله آدم منها: (وإن ما أكل آدم، ما فيه من أمانة باريه).‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طلاب يهود في جامعة كولومبيا ينفون تعرضهم لمضايقات من المحتجي


.. طلاب يهود في جامعة كولومبيا ينفون تعرضهم لمضايقات من المحتجي




.. كاتدرائية واشنطن تكرم عمال الإغاثة السبعة القتلى من منظمة ال


.. محللون إسرائيليون: العصر الذهبي ليهود الولايات المتحدة الأمر




.. تعليق ساخر من باسم يوسف على تظاهرات الطلاب الغاضبة في الولاي