الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في الوثيقة التأسيسية للحزب الشيوعي قيد التأسيس بتونس حول المسألة الدينية

هشام نوار
(Naouar Hichem)

2021 / 2 / 19
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


أصدر " الحزب الشيوعي قيد التأسيس " بتونس وثيقة تأسيسية حول المسألة الدينية بعنوان " في المسألة الدينية " وقد ورد بها : " في هذا الإطار تتنزل أهمية هذه الوثيقة التأسيسية التي يعتزم الحزب من خلالها توضيح بعض الجوانب التي بقيت غامضة لدى الأوساط الشعبية عن علاقة الشيوعية بالدين و كذلك تقديم الرؤية الخاصة لحزبنا في علاقة بالمسألة الدينية لتفنيد الدعايات الزائفة و المضللة و تمكين عموم المناضلات و المناضلين في الحزب من بوصلة واضحة في علاقة بهذه المسألة تمكنهم من تجذير عملهم في صفوف الجماهير دون التأثر بما تروجه البورجوازية من تشويهات . "

" الحزب الشيوعي قيد التأسيس " و مبدآ حرية المعتقد و فصل الدين عن السياسة
ورد في الوثيقة التأسيسية : " يؤمن حزبنا بحرية المعتقد و الحق في ممارسة الشعائر الدينية و العبادات و يحترم المشاعر الدينية للجماهير الشعبية " .
يبدو " إيمان " الحزب الشيوعي قيد التأسيس بحرية المعتقد و حق ممارسة الشعائر الدينية و " احترام " المشاعر الدينية للجماهير الشعبية موقفا لا غبار على صحته و رجاحته لكن سيتوضح من سياقات الوثيقة أن هذا " الإيمان " لا يعدو أن يكون إلا دغدغة للمشاعر الدينية الشعبية .
ألم يكن من الأنسب التذكير بكل وضوح بالموقف العام للشيوعيين من الدين دون تلويثه باختلاجات ذاتية لن تعمل إلا على إضفاء مزيد من الضبابية حول مسألة في غاية الأهمية و الخطورة ؟
الدين مسألة شخصية : هذا هو الموقف العام للشيوعيين من الدين .
الدين مسألة شخصية ، فالفرد له الحرية الكاملة في اعتناق أيّ ديانة وله أيضا الحرية الكاملة بعدم الاعتقاد في أي منها .
يتمتع جميع أفراد المجتمع بنفس الحقوق دون تمييز حسب المعتقدات الدينية أو القناعات الفكرية .
ورد بالوثيقة التأسيسية ما يلي : " يرى الحزب أنه لا مناص من فصل الدين عن السياسة حماية للدين من الاستغلال و التوضيف في الصراع السياسي و حماية للسياسة من أي قدسية قد يريد أحد أطراف الصراع السياسي استغلالها و توضيفها لتغليب وجهة نظره و فرض سيطرته أو مصالحه على أطراف أخرى . "
ينادي الشيوعيون بفصل الدين على السياسة و عندما يخرج الدين من حيز السياسة بمعناها العام فإنه يدخل الحيز الشخصي فيصبح جزءا لا يتجزأ من الحرية الشخصية التي يضمنها القانون و يحميها من التسلط أو الانتهاك سواء أكان مصدرهما الدولة أو أطراف أخرى .
حرية شخصية يضمنها القانون و يحميها من الانتهاك ... و يصبح التعبير عن " احترام " المشاعر الدينية من نافل القول و لعل مصطلح "عدم خدش" أو " المساس " من المشاعر الدينية يكون الأسلم .
كما أنه ليس من مهام الشيوعيين حماية الدين ، كما ورد في الوثيقة التأسيسية ، فالحماية كل الحماية للحرية الشخصية التي يندرج فيها على قدم المساواة الدين و الإلحاد كأجزاء مكونة لها ضمن حريات أخرى .

" الحزب الشيوعي قيد التأسيس " يعتبر أن الأديان تلعب أدوارا متناقضة فهي من جهة تعبّر عن تطلعات الجماهير المضطهدة للتحرر و الانعتاق و من جهة أخرى تهدف إلى تأبيد الاستغلال
ورد بالوثيقة التأسيسية لـ " الحزب الشيوعي قيد التأسيس " ما يلي : " تلعب الأديان أدوارا متناقضة في المجتمعات لأنها مرتبطة بالانتاج المادي و بالقوى الاجتماعية المتناقضة التي تحملها و بالتالي محكومة بالصراع الطبقي فهي تعبر عن بؤس الواقع المادي و عن تطلعات الجماهير المظطهدة للتحرر و الانعتاق من جهة كما تهدف إلى تأبيد هذا الواقع بإضفاء شرعية دينية على السيطرة و الاستغلال من جهة أخرى . "
يقودنا هذا التحليل إلى نتائج تتعارض تماما مع أصول و مباديء الماركسية وهو تحليل أقل ما يقال فيه أنه سطحي إذ يعتبر أن معتنقي الأديان و حسب موقعهم في الإنتاج كقوى اجتماعية متناقضة ( مستغلّين و مستغلّين ) سيجعلون الأديان محكومة بالصراع الطبقي و ستكون لها ( الأديان ) أدوار مختلفة و متناقضة : أدوار تعبر عن تطلعات الجماهير المضطهدة للتحرر و الانعتاق و أدوار تهدف لتأبيد هذا الواقع بإضفاء شرعية دينية على الاستغلال . بعبارة أخرى الدين هو دين الطبقة العاملة و الفئات الشعبية إذا نظرنا له من زاوية مخزونه التقدمي المعبر عن مصالح العمال و الفئات المحرومة و الدين هو أيضا دين البورجوازية المتنفّذة إذا نظرنا له من زاوية مخزونه الرجعي المعبر عن مصالح أعداء الشعب .
إذا ، تصبح مقولة أنّ الدين هو أداة استلاب الوعي صلب الطبقة العاملة مجرد افتراء على الفكر الديني أما مقولة " الدين أفيون الشعوب " فهي ليست فقط تقليل احترام للمباديء الدينية بل تجنّ ما بعده تجنّي .
ولعل هاته الأدوار المتناقضة للأديان هي التي ستلهم الماركسية النفس النضالي و تضعها على سكة النهج الثوري حيث ورد بالوثيقة ما يشير لذلك : " تقرأ الماركسية من وراء الأدوار المتناقضة التي تلعبها الأديان الصراع الطبقي فتعتبر أن نضال الطبقات المضطهدة هو الوحيد القادر على تحريرها من القمع و الاستغلال و ترى في محاربة الدين عملا فوضويا يضر بمصلحة النضال الطبقي للمضطهدين لأن المجال الحقيقي لهذا النضال هو الأرض و ليس السماء . "
لقد وقع حشر مسألة محاربة الدين مباشرة بعد استعراض الأدوار الإيجابية التي تلعبه الأديان في احتدام الصراع الطبقي و لفاهم أن يفهم لماذا تعدّ محاربة الدين عملا فوضويا يضر بمصلحة النضال الطبقي .
هل يتوجّب على الحزب الشيوعي النضال ضد الأطروحات الدينية ؟ هذا من أبجديات الماركسية .
لكن الماركسية ليست مادية تقف حدّ الأبجديات ، الماركسية تذهب إلى ماهو أبعد : إدراك كيفية النضال ضد الطرح الديني .
لهذا يجب تفسير منبع العقيدة الدينية للجماهير بكيفية مادية فلا يجب حصر النضال ضد الأطروحات الدينية في مقولات نظرية مجردة بل يجب ربط هذا النضال بالممارسة الميدانية لحركة الطبقة العاملة التي تعمل على إلغاء الأسباب الاجتماعية المولدة للدين . عندئذ يتحدد مجال هذا النضال : الأرض و ليست السماء .
أن يلمس العامل خلال ممارسته الميدانية انحياز الدين إلى جانب المستغلّين ، إلى جانب أعدائه ، ذلك أفضل من نقاشات إيديولوجية أو مناشير نظرية .فلا الكتب و لا الدعاية ستنير العمال إذا لم يكتشفواعبر نضالهم قوى الظلامية الدينية للرأسمالية .
يدافع الشيوعيون عن نظرتهم المادية و من الضروري النضال ضد الأفكار الدينية و لكن لا يعني هذا البتّة وضع المسألة الدينية في الصدارة ، هذه المكانة التي يجب أن لا تتبوّأها ، لا يجب تقسيم القوى المنخرطة في النضال الاقتصادي و السياسي بتعلة أفكار واهية ستفقد قيمتها في سيرورة التطور الاقتصادي .
يجب النضال ضد الآراء المسبقة و الأفكار الدينية بكل حذر . فالذين ، خلال نضالهم هذا ، يمسون من المشاعر الدينية يسببون ضررا كبيرا . يجب النضال بالدعاية و التثقيف و كل ممارسة " خشنة " تؤدي لاستفزاز الجماهير تؤدي حتما إلى تقسيمها على أرضية الدين مما يمس من قوتها المتمثلة في وحدتها .
تدين الماركسية بكل صرامة كل الاتجاهات التي تريد أن تبدو " أكثر على اليسار " أو أكثر ثورية ، هذه الاتجاهات التي تدافع عن إعلان الحرب على الدين .
في هذا المجال يطرح الحزب الشيوعي على نفسه العمل المتأني و المتواصل لتثقيف و تنظيم الطبقة العاملة ، هذا العمل الذي سيفضي لتفكك المنظومة الدينية عوض الخوض في مغامرات حرب سياسية ضد الدين .

لماذا يميز " الحزب الشيوعي قيد التأسيس " بين الدين كعقيدة و الدين كشريعة ؟
سؤال يطرح نفسه حال قراءة ما صدر بالوثيقة التأسيسية : " يميز حزبنا بين الدين كعقيدة و ما يعنيه ذلك من جوانب إيمانية تتضمن أجوبة في علاقة بمسائل وجودية يجب نقاشها في كنف الاحترام و بين الدين كشريعة يسعى المتشددون إلى تطبيقها بما يتعارض مع روح العصر و مقتضيات التطور باعتبارها حسب زعمهم صالحة لكل زمان و مكان و يعتبر أن التشريع يجب أن يكون في يد المجتمع و في خدمة مصالحه ."
بعد التمييز بين الجانب المضيء و الثوري من جهة و الجانب المظلم و الرجعي من جهة أخرى للدين ها أن " الحزب الشيوعي قيد التأسيس " يقرّ بالتمييز بين الدين كعقيدة و بين الدين كشريعة .
ما مردّ و ما هي دوافع هذا التقسيم بالنسبة لـ " الحزب الشيوعي قيد التأسيس " ؟
لا نجد إجابة لذلك غير تقديم الجانب العقائدي كجامع لمسائل إيمانية و وجودية يمكن نقاشها في كنف الاحترام و تقديم الجانب المتعلق بالشريعة كمنهج يريد المتشددون تطبيقه بكل تعسف . هل يحيلنا هذا التمييز على أن التدين " الشعبي " عقائدي بالأساس لا يبلّد الوعي الطبقي و لا علاقة له بالإسلام السياسي الذي يتطلع إلى حكم قوامه الشريعة ؟
إن هذا التمشي المتمثل في تنقية " الإسلام الشعبي " و التفاعل الإيجابي معه و تقديمه كنقيض للإسلام السياسي لن يساهم إلا في بلبلة فكرية و ارتباك إيديولوجي لدى الأعضاء المستقبليّين لـ " الحزب الشيوعي قيد التأسيس " و لن يعمل إلا لصالح " الماكينة الدينية " التي ستتلقّف هذا الخطاب بكل ترحاب و ستوظّفه لإسكات كل من يعتبر أن الدين بمنظومته العقائدية و مؤسساته و أحزابه و جمعياته أداة بيد البورجوازية للدفاع عن الاستغلال و لتسميم وعي الطبقة العاملة ولبث روح الخنوع صلب الفئات الشعبية و لتأجيج الكراهية الدينية و الطائفية و ذلك لتحويل وجهة نظر العمال عن المسائل الاقتصادية و السياسية التي تمثل محور النضالات .

موقف " الحزب الشيوعي قيد التأسيس " من مسألة الدين و الدولة
ورد بالوثيقة التأسيسية ما يلي : " يرى الحزب أن من واجب الدولة حماية الدين و رعايته حتى لا يتحول إلى أداة طيعة في خدمة الإرهاب و الإسلام السياسي . "
يرفع الشيوعيون شعار فصل الدين عن الدولة .
الدولة لا تتدخل في المسألة الدينية و لا تنحاز ولا تميز بين ديانة أو أخرى بل أنها تتموقع خارج دائرة الدين و تنفصل عنه .
لا تمنح الدولة أي دعم مالي للمؤسسات و الجمعيات الدينية التي تصبح جزءا من المجتمع المدني و تستمد شرعيتها لا من " قدسيتها " بل من مبدإ الحريات العامة التي يضمنها القانون و يحميها أيضا ( حماية الحريات العامة ) .
و بهذا المعنى فإن المؤسسات و الجمعيات الدينية تخضع كما تخضع غيرها من الجمعيات و المؤسسات لسلطة القانون الذي لا يقيد نشاطها بأي قيد عدا احترام حرية المواطنين و عدم النيل من حقوقهم أو التسلط على ضمائرهم .

" الحزب الشيوعي قيد التأسيس " و مسألة الهوية
ورد بالوثيقة التأسيسية : " يعتبر الدين جزءا من الهوية التي تتكون من بدورها من عدة مكونات أخرى من بينها الوطنية و القومية و الطبقية "
إذا مكونات الهوية حسب ما ورد بالوثيقة هي الدين و الوطنية و القومية فيصنف مجتمعنا كتونسي عربي مسلم بقي المكون الطبقي الذي لا يجد له مكانا في هذا التصنيف الديني و العرقي و لو أدمجناه لأصبح للعامل التونسي هوية مخالفة للبورجوازي التونسي !! و ماهي هوية اليهودي التونسي و هوية المسيحي التونسي ؟؟
وكما أشار لنا سابقا أصحاب الوثيقة التأسيسية بأن الدين يتضمن جانبا ثوريا يعبّر عن تطلعات الجماهير المظطهدة للتحرر و الانعتاق و جانبا رجعيا يعمل على تأبيد الاستغلال فإنهم أدمجوا المكون الطبقي ضمن مكونات الهوية و قدّموها كنتاج صراع بين القوى التقدمية و القوى الرجعية إذ ورد في الوثيقة و بعبارات رنانة : " و تتفاعل هذه المكونات باستمرار فيما بينها في إطار تركيبة معقدة تتحدد بشكل جدلي من خلال الواقع الملموس و تبقى قابلة للتطور مع استمرار الصراع بين القوى الرجعية و القوى التقدمية . "
بعد التحديد "العلمي" لمفهوم الهوية يرد في الوثيقة : " يعد الإسلام مكونا رئيسيا من مكونات الهوية الدينية لشعبنا " .
لا نرى أي موقف استخلص بعد هذا التحليل و لكن اتضح أن " الحزب الشيوعي قيد التأسيس " قد توصل باكرا إلى صياغة الفصل الأوّل لدستور الجمهورية الشعبية الديمقراطية .

خــــاتــــمــــة
يشق الحركة الماركسية حول المسألة الدينية توجهان أضرّا أيّما ضرر بنضال الشيوعيين : توجه يسراوي فوضوي و توجه يميني انتهازي .
ــ يتمثل الموقف اليسراوي في إعلان الحرب على الدين و الدفاع عن الإعلان الصريح للإلحاد في برنامج الحزب كما يعمل اليسراويون على منع العمال الذين مازالوا يحملون رواسب دينية من الاقتراب من الحزب دفاعا عن النقاوة الحزبية و يدعون لمنع الدين في الطور الاشتراكي .
ــ يتمثل الموقف اليميني في مهادنة الطرح الديني تحت غطاء الخشية من " استفزاز الجماهير " و بتعلة " عدم المساس من مشاعرهم الدينية " فينحني اليمينيون أمام الأوهام الدينية كما أنهم لا يخجلون من دغدغة المشاعر الدينية للفئات المحرومة لاجتذابها للنضال و التنظم .

يمكن الجزم بأن جوهر الوثيقة التأسيسية لـ " الحزب الشيوعي قصد التأسيس " يتموقع في حيز مهادنة الدين و " ومصالحته " مع الفكر الماركسي كما أن " الحزب الشيوعي قصد التأسيس " لم يكتف بالتذيل للمنظومة الفكرية للدين فحسب بل بذل أكثر من جهده ليكشف لنا اللثام عن الجانب الثوري للدين و لتبرئة ساحة العقيدة الدينية أمام سليلتها الشريعة الدينية .
هذه الأطروحات لم يعبر عنها من قبل إلا تيار اليسار الاسلامي أواخر الثمانينات عبر نشريته "مجلة الفكر الاسلامي التقدمي 21 ـ 15" و عبر مؤلفات مؤسسيه ( الإنسان و القرآن وجها لوجه لحميده النيفر ــ الإسلاميون التقدميون في تونس لصلاح الدين الجورشي ــ ما بعد العلمنة و الأسلمة لمحمد القوماني ... ) .
كما عبّر عن " الجانب الثوري للإسلام " بعض الدعاة لتأسيس حزب يساري كبير بمناسبة ندوة عقدها حزب الوطنيّون الدّيمقراطيّون الموحّد خلال شهر فيفري 2016 و ها أن " الحزب الشيوعي قيد التأسيس " يردّد صداها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كاتدرائية واشنطن تكرم عمال الإغاثة السبعة القتلى من منظمة ال


.. محللون إسرائيليون: العصر الذهبي ليهود الولايات المتحدة الأمر




.. تعليق ساخر من باسم يوسف على تظاهرات الطلاب الغاضبة في الولاي


.. إسرائيل تقرر إدخال 70 ألف عامل فلسطيني عبر مرحلتين بعد عيد ا




.. الجيش الإسرائيلي يدمر أغلب المساجد في القطاع ويحرم الفلسطيني