الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- جنون الطائفية - !!

يوسف ابو الفوز

2006 / 7 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ثاني يوم عطلة الاسبوع الاخيرة ، في اول الصباح، وبوقت مبكر، رن عندي الهاتف المنزلي . قفزنا انا وزوجتي في وقت واحد من النوم . كنت الاسرع لتناول الهاتف بيدي المرتعشتين غصبا عني . من يهاتفنا في هذا الصباح المبكر؟ أي اخبار يحمل لنا ؟ ماذا هناك ... ؟
اخي الاكبر ، الساكن في بغداد ، قبل اسبوعين وفي منتصف الليل ، وخلال الاشتباكات الحامية بمختلف الاسلحة ،التي دارت في شوارع منطقة سكنه ، بين مليشيات مسلحة منفلتة على الدولة والقانون ، وترفع راية الطائفية المقيتة ، ووسط الطلقات والقذائف التي تمرق قرب وفوق بيته ، وبمشقة هرب وعائلته ، بملابس النوم تاركين بيتهم ، دون ان يملكوا الوقت لسد الابواب . نزحوا الى بيت اقارب في منطقة اخرى ظنوها اكثر امانا ، وسرعان ما اشتعلت فيها الاغتيالات على الهوية ، ورسائل التهديد وفرض الخاوات . وسط كل هذه الفوضى واجواء الخوف والقلق ، اصيب اخي بذبحة صدرية نقل على اثرها الى المستشفى وادخل غرفة الانعاش . وضعه الصحي لحد كتابة هذه السطور لا يزال قلقا .
هذا الهاتف ، القادم في الصباح الباكر، هل له علاقة بحالة اخي الصحية ؟ هل حدث ما لا يمكن رده ؟ هل ... ؟ مختلف الاسئلة والاحتمالات راحت ترد في بالي وانا اشهق :
ـ الو ... !
ـ السلام عليكم ، انت الاخ يوسف ؟ ...
صوت غريب . قادم من بعيد . متوتر ويتحدث بسرعة . جعلني استند الى اقرب كرسي .
ـ نعم ، انا يوسف ! ...
ويرد الصوت بقوة :
ـ انا " ابو ..." وانت الان لا تعرفني ، و ...
تأكد لي ان المكالمة من العراق . الجمل المبتورة الاولى الغامضة ، جعلتني لا اراديا اجلس على اقرب كرسي . وجه زوجتي يمتقع وهي ترى رد فعلي دون تسمع المتحدث ، وتفكر مثلي تماما ، وتكاد تفلت منها صرخة .
ـ يوسف ، يا صديقي ، انا فلان الفلاني ... حصلت على هاتفك اخيرا و ...
وانهدُ على الكرسي مغالبا ارتجاف قلبي غصبا عني !
خلال زيارتي الى العراق ، بعد سقوط النظام الديكتاتوري ، وبعد غياب اكثر من ربع قرن عن وطني ، حرصت على معرفة اخبار زملائي واصدقائي . قابلت من قابلت ، وتركت رسائل تحمل عنواني ورقم هاتفي لمن تعذر عليّ مقابلته . صديق وزميل عزيز من ايام الدراسة الجامعية ، تصله رسائلي واخباري اخيرا ، وهاهو يتصل وملؤه الشوق والفرح لنتواصل من جديد .
ساعتها ، لم يدرك الصديق العزيز ، الوفي ، والمخلص لايام العشرة والصداقة ، اي رعب سكن قلوبنا ، بسبب مكالمته المبكرة ، التي جعلتنا نفكر بكل ما هو مؤلم !
لم تعد الاخبارالقادمة من العراق تسر احد .
ما حصل معي ، انا متأكد ان مثله ، وربما اكثر، حصل مع اخرين ، من ابناء العراق ، الذين يعيشون خارج الوطن ، وقلوبهم وعيونهم ترنوا الى اخبار العراق ، وانفاسهم تتقطع مع كل رنة هاتف ، ومع نشرات الاخبار على الفضائيات .
لم يعد يصلنا من الوطن الا ما هو محزن وسئ ومثير للالم .
الصحفي الامريكي روبرت بولوك ، صباح 24 تموز 2006 يخبرنا ومباشرة من بغداد ، في مقال له في منشور في صحيفة (The Wall Street Journal) ، اثر وصوله اليها قادما من افغانستان ، بان الوفد الصحفي المرافق لوزير الدفاع الامريكي ، دونالد رامسفيلد ، تحرك من مطار كابول الى السفارة الامريكية تقريبا بدون حماية تذكر، بينما وصوله الى المنطقة الخضراء في بغداد لمقابلة اركان الحكومة العراقية تطلب نقله بالطائرة الهليكوبتر وسط حراسات مشددة .
اي وضع وصلت اليه الحالة الامنية في العراق ، بحيث صارت شوارع بغداد ، مدينة السلام ، غير امنة للتنقل ؟
اي حالة جنون يمر بها العراق ؟
انه "جنون الطائفية " !
انه "جنون " اولئك الذين لا يعرفون سوى لغة الطائفية المقيتة ، والذين يلغون الاخر، لمجرد الاختلاف معه .
نعم ، ان " جنون الطائفية " ، نوع فريد وخاص من مرض "جنون البقر". تقول احد التفسيرات العلمية لسبب ظهور مرض " جنون البقر " ، انه يحصل حين تاكل الابقار العلف المصنع من بروتين الابقار . هاهم معتنقي الطائفية كفكر وممارسة وسلوك ، وهم ابناء وطن واحد ، ياكلون بعضهم الاخر، بحيث لم يعد اسم العراق في وسائل الاعلام العالمية سوى مرادف للموت ولا ينتظر منه سوى الاخبار السيئة .
ومرض "جنون البقر " ــ تقول التقارير الطبية ــ ما هو الا عبارة عن " اضطرابات تصيب انسجة المخ وتسبب في انحلالها " ، فهو " مرض قاتل يدمر خلايا المخ " !
ايعتقد انسان عاقل بان مسلحي المليشيات الطائفية لهم مخ سليم ، يحمل عقلا سليما ؟ لا يبدو ان هناك مكانا للعقل السليم ، عند حكام دويلات شوارع المليشيات الطائفية المنفلتة . عقول الزعماء ، الذين يرفعون راية الدين ـ وهو منهم براء ـ ويلغون الاخر ببساطة ويقتلون الناس على الهوية ، ولا يعرفون للحوار سوى لغة الدم والموت ، هي في حالة عطب وانحلال مريع ، بسبب "جنون الطائفية " !.
لا يوجد مكان للحكمة ـ ابدا ـ في دويلات عنف الجنون الطائفي ، وسط حماقات الجماعات المسلحة التي لا ترى الا في موت الابرياء طريقا لسيادة صوتها .
لا يوجد مساحة للرحمة ، وسط لغة الدم عند المجرمين الارهابيين الموتورين .
متى يعود العقل الى مكانه ؟
متى يسود حب الحياة ليكون دافعا للبناء والتكاتف ؟
اسئلة تضع المسؤولية امام جميع النخب السياسية ، خصوصا المرتبطة منها بوشائج خاصة مع المليشيات الطائفية ، للعمل الحقيقي الجاد ، ولعبور لغة التصريحات والتأتأة والتأنق امام الميكروفات ، وتحويل الكلام الى فعل على ارض الواقع ، لان لا علاج ناجع للخلاص من مرض "جنون الطائفية " الا عبر توطيد دولة القانون ، تكون فوق الطوائف والايدلوجيات ، تلتزم باحكام الدستور ، وتكون التعددية الفكرية والسياسية ممارسة يومية لكل مواطن ينتمي الى الوطن ، ويمارس حقوقه في المساواة بدون تمييز ، في عراق ديمقراطي ، فيدرالي ، مستقل ، موحد .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 155-Al-Baqarah


.. 156-Al-Baqarah




.. 157-Al-Baqarah


.. 158-Al-Baqarah




.. 159-Al-Baqarah