الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السينما الفلسفية 1 إنجمار بيرجمان

السعيد عبدالغني
شاعر

(Elsaied Abdelghani)

2021 / 3 / 7
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يمكن أن تتداخل السينما مع الفلسفة عن طريق"شيئين على الأقل. أولاً ، قد يعني استخدام الفيلم كمصدر ، ومصدر للمثال والتوضيح ، من أجل إلقاء الضوء على المواقف والأفكار والأسئلة الفلسفية. ثانيًا ، قد يعني أن الفيلم نفسه يجب أن يُفهم على أنه وسيلة للتفلسف - ممارسة الفلسفة في الفيلم أو الفلسفة كفيلم. هذا الأخير يعني مشاركة أقوى للفيلم مع الفلسفة. كان المدى الذي يمكن أن يكون فيه الفيلم فلسفيًا أو يساهم في المعرفة الفلسفية بحد ذاته موضوعًا لبعض الجدل. ومع ذلك ، فإن ما هو مقبول على نطاق واسع هو أن العديد من الأفلام "يتردد صداها بطرق مثمرة مع القضايا الفلسفية التقليدية والمعاصرة".[1]
"إذا كانت السينما تأخذ من الفلسفة قدرتها على توليد الأسئلة وخلخلة الأفكار الجاهزة ،فإن الفلسفة تستغل تقنيات تحول العلامات المفاهيمية إلى علامات مدركة سمعيا وبصريا،بفضل آليات إنتاج المعنى بالصورة السينمائية ،التي تحاكي الواقع بلمسة إبداعية متخيلة"[2]ويظهر من هذه القراءة الجدلية توظيف الفلسفة للسينما كأداة تبث مضموناتها المتشعبة في حدود مدى السينما.ولكي ندخل أقرب سنجد تراث سينمائي حديث وقدم للأفكار الفلسفية وفي مقالنا الأول سنتناول المخرج السويدي إنجمار بيرجمان..
عالم بيرجمان الفلسفي:
أبدع بيرجمان عالمه السينمائي الخاص وتشفيره لذاته ورؤاه وتيمته الجوهرية من العلاقة الفلسفية للإنسان بالوجود ويمكن أن تميِز سينماه ببساطة إن وجدت كادرا صامتا ليس لغويا ولكن المشهد المشحون بأسئلة وصورة باهتة باردة واعتمد أيضا على الأحلام كمثيرات للحوارات أو التي يجسدها الفيلم بالكامل وكان جوهره هو البحث عن معنى في خضم تلك الوهوم الكثيرة وهذا الألم الضخم.أما لمن شاهدوا أفلامه فيتم تذكره بعلاقة الإنسان بالإله من فيلم الختم السابع والأسئلة الدينية ووجود الشيطان والازدواجية والتداخل المجازي بين الأشخاص في فيلم برسونا.وقد استعمل طاقم تمثيلي دائم الحضور تقريبا من "ليف أولمان"التي ظهرت في تسعة أفلام له.
فيلم الصمت:
فيلم الصمت الذي سنتحدث عنه أولا هو آخر فيلم من ثلاثية المخرج السويدي إنجمار بيرجمان بعد فيلم "من خلال زجاج مظلم" و"ضوء الشتاء"يمس مفاهيم كثيرة منها الوحدة والرغبة الشديدة والنزوع الجنسي والتوق للحنان ويصور بيرجمان في الفيلم أن العالم الخالي من الإيمان خالي بالضرورة من الحنان وذلك في صورة خالية من الشوائب مركَزة،متحدية مفاهيم كثيرة مجتمعية وناقدة لها.
الحبكة:
حبكة الفيلم تدور أن أختين إستر وآنا وابنها محجوزان في فندق ما فارغ وشاسع وغير حاضر فيه إلا شلة من الأقزام ولم يفسر كثيرا بيرجمان ذلك.إستر لها نزوع سحاقي تجاه آنا ولكن ليس موضوع الفيلم الجنس والسحاق بل يتعدى بالرمز إلى أشياء كثيرة وتناصات دلالية ومعالجات لأزمة الحداثة المعاصرة وتفكيك الذات والاغتراب.
ولكي نفهم الأمر أكثر يجب أن ندخل في زمن الفيلم وسياقه الثقافي والتاريخي فعقد الستينيات رمز لتخلص الكثير من الدول والمجتمعات من الاحتلال والاستعمار ورمز لحدوث الكثير من الثورات ونتيجة لذلك كانت هناك اضطرابات في شتى نواحي الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية ومفاهيم السينما في أغلب الأفلام الحقيقية كانت تحمل رد فعل وتصورات لهذا الأمر وليس مجالنا هنا أن نتبع الأحداث الأدبية والسينمائية لهذا الأمر.
وعلى الرغم من رسالة الفيلم الدينية إلا أنه سبب موجة من الغضب الكنسي فهو يناهض مجتمع يتعلمن بالكامل ويفرد بإشارية الصراع بين المجتمع العلماني الذي يتم تأسيسه والمجتمع الديني الممثل في الكنيسة التي بدأت تفقد قوتها فسبب ذلك خوفا من كل شيء ومن هذه الأشياء التصوير الجنسي الذي يأخذ عند النقاد طابع رمزي علاماتي لا طابع أصولي،تأويل سيميائي لا تأويل مباشر.فلكي يتم تذوق الجمالية التي تكتنف أي فيلم لبيرجمان يجب النفاذ إلى ما وراء المحتوى،ففيلم الصمت يعبر عن الواقع الاجتماعي العصري
يحول لغته السمعية والبصرية إلى استعارات تشير إلى ما وراء ذواتها. تصبح علامات يمكن فك شفرتها ؛ يشيرون. يحتوي البعد الجمالي للفيلم على تشخيص لحالة الواقع الاجتماعي وعلامات العصر. هذه الطريقة في "قراءة" الفيلم تحول لغة الشكل إلى بُعدها ذي المعنى ، بينما المحتوى ذو أهمية ثانوية.
الفيلم الثاني برسونا:
تلعب ليف أولمان دور البطولة وهي ممثلة مسرحية شهيرة ناجحة ،في منتصف الثلاثينيات ،عانت من انهيار نفسي غامض أثناء أداء عملها التمثيلي مما أدى إلى صمتها المطلق والخمول والتعب الشديد وهى الآن في منشأة للأمراض النفسية وبيبي أندرسون هي الممرضة المخصصة لها في الخامسة والعشرين وستذهب معها للبيت الذي أعارته طبيبة ليف.يبدأ الفيلم بمونتاج مزعج لصور غامضة وغير مفهومة وأحيانًا مباشرة جنسيًا والتي سيتم فك تشفيرها جزئيا في الفيلم.
الصمت المطلق لليف:
ليف اولمان هى من أرادت الصمت واختارته رغم سجنه النفسي الذي يقزم أكثر مما يحل ويُنفِس، لأنه لا جدوى من أي انفعال مادي فاستمرت فى الصمت حيث هو التعبير الأمثل عن عدم قدرتها على فعل أي شىء لأي أحد يتألم ،ونوازع الأمر من كمية البشاعة الإنسانية فى دواخل الناس والعالم وتجلى ذلك وهى تمثل فجأة والتأويل المطروح هنا ربما أنها أدركت أن الشخصية هى واحدة وأنها لا تريد أن تمثل بعد الشخصية التخييلية بل تريد أن تكون ذاتها. ولأنها مرهفة ويظهر ذلك عندما ترى لقطات إخبارية تلفزيونية لكاهن بوذي فيتنامي أشعل النار في نفسه في أحد الشوارع بالتراجع للخلف والهلع في العيون. فالتطرفات القاسية هذه تظهر فى المرهفين للآلام البشرية ،من يجمعوا ألم هذا العالم فى دواخلهم. وبحكم عملها كممثلة فهذا يجعلها تحيا فى مشاعر أخرى غير هذه التى تحيا بها فى الواقع بالاندماج والتقمص فهي بذلك تزور كينونة أخرى فى داخلها الذي من الممكن ان يكون جيدا لوجودها في عدم البقاء في شعورها الشخصي دوما والصمت هذا علامة على رحيل الشهوات والرغبات جميعها وبقاء الشعور الانسانى الذى يضغط على العاطفة بكل ما فيها من علاقات.الزهد فى كل شىء إلا التأمل فى الذات وتحليل كل شيء حولها وهويتها وهوية الآخرين.
تبدأ بيبي في الحديث عن أزمات حياتها مما يستعدي من ليف أن تبدأ بالحديث والتماهي،فالعالم كان بالنسبة لها لا يستحق أن تحرك لسانها ولن تتحدث تحت إكراه لزومي من الحياة نفسها بل من التعرض الإنساني الممثل في بيبي ومعاناتها كأنه علاج بمشاركة الألم وذلك بالتنفيس السيكولوجي للمكبوت.بيبي محبطة وتتألم من ليف كونها تتحدث بالاشارة وبنظرات العين بلا مشاركة حقيقية وبلا اندماج قوي على الرغم من اعترافها بأحقية ليف في الصمت كموقف أخلاقي.
بيرجمان يوضح في الفيلم الشخصية وامتدادها فى الاخر واندماجها، فكلتا الشخصيتين هنا نفس الشخص ، فقط إحداهن بها تحرر كبت الآخر ورغباته ومشاعره الدفينة فى الداخل ومداه والتى لا تظهر فى التعامل مع الآخر أما بيبي فشخصية لم تترقى بعد لتنفيذ ما تشعر به بل التماهى والاندماج مع الواقع بكل أبعاده متجليا في العمل وغيره ومحاولة عدم رؤية ذاتها. ولكنها رأت ذلك فى صمت ليف اولمان وبدأت تتحرش بهذه الكينونة التى تنظر لها بإعجاب، لم تكن بيبى تافهة وعادية لا يوجد برأسها أسئلة بل كانت تريد أحدا تُعبِر معه وله عن ما بها من أفكار حياتية وهذه الأفكار ليست وليدة قراءة فقط بل تأملات ورؤى فى التفاصيل بين أفعالها وأفكارها ووليدة التعامل الوجودي مع الآخر فى الواقع.

فى أحد هذه الكادرات يثبت الكادر كعادته عليهم مع استخدام يدها فى مسح وجه بيبي التي تتفاعل معها فى المسح بهذه الشهقة الصامتة كأنها تكشف كل ما بها من تساؤلات عن كل شيء وتعطيها بعض الإجابات ليس بالحديث المادي الكلامي الصوتي ولكن بوجودها معها صدفة وعبثا. وآثر بيرجمان عدم الحديث لأنه لا يوجد كلام هنا فى هذا الصمت العميق ،فالصمت وحده كفيل بالقذف الجواني لكلتاهما في الأخرى.والفيلم يُظهر هذه الشخصيات الأنثوية خصيصا ما يحدث فى الذات الشاعرية والذات الواقعية التى تتوق إلى أن تكون شاعرية أو تخفى شاعريتها بسبب القيود كافة.وأنها ستكون وحيدة تماما ليس فقط فى الوجود بل فى مخيلتها لأن كل شىء بها ذاتي مختلج ، لا يتبخر ، لا ينفصل عنها.
يقول بيرجمان عن إلهام فكرة الفيلم" جاءت من صورة. ذات يوم رأيت فجأة أمامي امرأتين تجلسان بجانب بعضهما البعض وتقارن يديهما ببعض. قلت لنفسي أن إحدهن صامتة والأخرى تتحدث. عاد هذا الفكر الصغير مرارًا وتكرارًا وتساءلت: لماذا عاد ، ولماذا أعاد نفسه؟ كان الأمر كما لو عادت حتى أبدأ العمل عليها. ثم تدرك أن هناك شيئًا ما وراء هذه الصورة ، يبدو كما لو كان على باب. وإذا فتحت الباب بعناية ، فهناك ممر طويل يصبح أوسع وأوسع ، وترى فجأة مشاهد تتصرف بأنفسها وأشخاصًا يبدأون في الكلام ومواقف تبدأ في تطوير أنفسهم على كلا الجانبين."

المراجع:
1. https://iep.utm.edu/phi-film/
2.د.رأس الماء عيسى،قراءة في جدلية العلاقة بين السينما والفلسفة


للمزيد من الكاتب :
https://www.youtube.com/channel/UCSi7fO-4-gEPIsrZP50acqQ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصين تحذّر واشنطن من تزايد وتراكم العوامل السلبية في العلاق


.. شيعة البحرين.. أغلبية في العدد وأقلية في الحقوق؟




.. طلبنا الحوار فأرسلوا لنا الشرطة.. طالب جامعي داعم للقضية الف


.. غزة: تحركات الجامعات الأميركية تحدٍ انتخابي لبايدن وتذكير بح




.. مفاوضات التهدئة.. وفد مصري في تل أبيب وحديث عن مرونة إسرائيل