الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تطور مفهوم الأيديولوجيا عند المفكرين الماركسيين

فارس إيغو

2021 / 3 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في هذه المقدمة السريعة، سنبدأ بالتعرّف قليلاً على الجمعيّة أو العصبة التي أسسها أنطوان ديستوت دي تراسي (١٧٥٤–١٨٣٦) صاحب مفهوم الأيديولوجيّة، لكي نفهم كيف تطورت الأمور تاريخياً فيما يخص مصطلح الأيديولوجيا قبل النقد الماركسي في منتصف القرن التاسع عشر، والذي شكل كتاب الأيديولوجيّة الألمانيّة أيقونته.
تعتبر جمعية الأيديولوجيّين بمثابة مجموعة من المفكرين أسسها دي تراسي حوالي عام 1795، عندما كان عضواً في مجلس الشيوخ الفرنسي.
وفي رأيي أن التسميّة لم تظهر في حينها، وإنما فيما بعد، لأن إطلاق مصطلح ((الأيديولوجي والأيديولوجيّين)) على هؤلاء جاء من قبل نابليون بونابرت، لأنّ أعضاء هذه العصبة، كانت لهم آراء معارضة للكثير من القرارات والسياسات التي اتخذها نابليون، وبالخصوص، عندما أصبحت السلطة كاملة في يده بعد انقلاب 18 برومير 1998، والتي شارك بعضهم فيه، ضد حكومة وجمهوريّة المديرين.
إذن، كمعلومة أوليّة في هذه المقدمة نقول، بأنّ مصطلح ((الأيديولوجيّا)) هو من نحت المفكر والضابط والكونت الفرنسي أنطوان ديستوت دي تراسي، ويقصد به ((علم الأفكار))، وله دلالة إيجابيّة بالطبع؛ بينما مصطلح ((الأيديولوجي والأيديولوجيّين)) هو من نحت نابليون نفسه، وله دلالة ازدرائيّة، كرد فعل من قبل نابليون على المفكرين الذين كانوا متجمعين حول دي تراسي وشكلوا تياراً علمياً وسياسياً عموده الفقري هو الجمهوريّة والديموقراطيّة.
ولقد تطوّر هذا التيار الفلسفي في منعرج القرنين الثامن والتاسع عشر، وقام على مبدأ المادويّة الإلحاديّة ومفهوم التقدّم المستمر عند كوندياك وكوندورسيه، وكانت لهم آراء في الفلسفة السياسيّة تعتبر بأنّ جماعة العلماء هم الأقدر على إدارة المدينة، كنوع من الاستبداد المستنير من أجل التسريع بالإصلاحات العلمانيّة. وسوف تتأثر بهم تيارات فلسفيّة وسياسيّة تطورت في نهاية القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر، ومنها جماعة سان سيمون والفلسفة الوضعانيّة عند أوغست كونت (والذي كان تلميذاً لسان سيمون).
هذه هي الطبقة الأولى في فهم النشأة التاريخيةّ لمصطلح الأيديولوجيّة قبل التناول المفصل له من قبل ماركس.
ماركس والأيديولوجيا الألمانيّة
لقد كان عمل فويرباخ في نقد الدين أساسي بالنسبة لماركس، فقد استرد القلب المنهجي الذي قام به ما كان ينظر إليه على أنه قوة المقدس ليضعه ضمن نطاق الفعالية البشرية، ولكن هذه الفعالية البشرية ظلت نتاج الوعي أو الفكر. وماركس نفسه تولى القيام بعكس آخر ـ بقلب منهجي آخر ـ لكي يؤسس أن المصدر الواقعي للفعاليّة البشريّة هو الممارسة وليس الوعي. لقد تناول الهيجليون الشباب ـ وماركس نفسه حتى المخطوطات الاقتصاديّة الفلسفيّة ـ الوعي باعتباره مركز الفعالية البشرية، وبوصفه كذلك فانه النقطة المرجعية لكل الوجود، لكن ماركس ينتقد في الأيديولوجيا الألمانية الأصداء المثالية لهذا التأكيد، ويحل الفرد الحي مكان الوعي (1).
يرى ريكور في مؤلفه ((محاضرات في الأيديولوجيا واليوتوبيا)) بأن الطريق الذي سلكته أعمال ماركس المبكرة كانت تتجه نحو تشخيص ((الواقعي)). تقرير طبيعة الواقع يؤثر في تحديد مفهوم الأيديولوجيا، لأن ماركس يعرّف الأيديولوجيا في النهاية على أنها ما ليس واقعاً أو تشويهاً وتعميّة على الواقع. إن التقابل عند ماركس حاصل بين الأيديولوجيا والواقع، وليس كما هو الحال في الماركسية المتأخرة بين الأيديولوجيا والعلم. ويعتبر كتاب ((الأيديولوجيا الألمانيّة)) المؤلف الذي كتبه مع زميله فريدريك أنجلز يمثل ذروة التقدم في هذا الموضوع. في هذا العمل صار ماركس وأنجلز يعرّفان الواقع عبر الممارسة (البراكسيس)، أو الفعاليّة الإنسانيّة المنتجة، وبذلك تصبح الأيديولوجيا هي التعارض مع الممارسة. والأيديولوجيا الألمانيّة التي يعارضها ماركس وأنجلز هي أيديولوجيا فويرباخ والهيجليين الشباب الآخرين (2).
لقد تلقى مصطلح الأيديولوجيا معانٍ متعددة، ولكن كل هذه المعاني تدور بالتأكيد حول دور تمثيلات وأفكار مجموعة اجتماعية. إن الاعتراف بهذه المعاني المتعددة هو التأكيد على أهمية العوامل غير المادية وغير الاقتصادية في الأعمال البشرية. رأى ماركس أهمية ذلك عندما لاحظ أن الوضع الطبقي للفرد لا يحدد وعيه الطبقي. لقد أظهر أن الطبقة العاملة لم تفكر بشكل عفوي بطريقة مستقلة، وأن مساعدة المثقفين (من هذه الطبقة أم لا) كانت عاملاً محددًا لقدرتها على التأثير على مصيرها. وبالتالي، فإن قدرة البروليتاريا المضطهدة على التفكير في اضطهادها بعبارات محددة تعتمد على مساهمة أولئك الذين امتلكوا امتياز كونهم ليسوا مستلبين تماماً بسبب هذا الاضطهاد - وهو ما كان بالفعل الحال مع كارل ماركس نفسه.
إذن، الأيديولوجيا عنصر أساسي في الوعي الطبقي عند ماركس، وهي في نفس الوقت مسؤولة عن تشويه الوعي أو الوعي البائس.
جانب آخر (أو مظهر آخر) من المسألة الأيديولوجيّة كان مدفوعاً بنضالات ماركس ضد أوهام الاشتراكية الطوباوية أو التركيبات الفلسفية المجردة. لقد استنكر مراراً إغواء وانجراف المثقفين لتخيل أن حركة الأفكار وحدها ستغير العالم. إنّ مصطلح الأيديولوجيا يحتوي على نوع من النقد الضمني. إنه مكافئاً للوعي الخاطئ أو البائس المشوّه للواقع. لقد أشار ماركس في كتابه ((الأيديولوجيّة الألمانيّة)) (1946) (3) إلى الفجوة التي تفصل بين التمثيلات والواقع. بتعبير أدق، أشار إلى ((النقطة العمياء)) لمعظم الفلسفات: عدم القدرة على ربط خطابهم بجذورهم الاجتماعية، لتأسيس الصلة بين نقدهم وواقعهم المادي. لذلك جاءت مقولات ماركس كمحاولة لقلب (4) هذا الاتجاه، لبناء صورة للواقع من شأنها أن تربط الأداء الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع بإنتاجاته الفكرية، وبالتالي، لتفكيك جميع الادعاءات التي توجد خارج الأداء الحقيقي للواقع. من هذا المنظور، بدت الأيديولوجيا على أنها عكس الموقف الماركسي. ساد هذا التصور للأيديولوجيا كتشويه كنتيجة لـ ((العلمويّة)) المزعومة للفلسفة أو النظريّة الماركسيّة، والتي لم تبخل بتفضيل الانثناءات العقائدية والفصل التعسفي للمخالفين.
لقد بقي ماركس بعيداً عن الماركسية البنيوية التي لا تعير أي اهتمام للفعل الذاتي، بل لقوى هيكليّة غير متعيّنة كالطبقة ورأس المال، على اعتبارها العوامل الفاعلة في التاريخ. لكن ماركس في الأيديولوجيا الألمانية يبقي على التوسط بين المنظورات الموضوعية والمثالية في مقولته الشهيرة التي يربط فيها بين الأفراد ضمن أحوالهم المادية، حيث يتم الربط بين الأفراد الواقعيين والأحوال والظروف المادية.
إعادة تأهيل دور المثقفين في المجتمع المدني
لقد ظل مفهوم ماركس للأيديولوجيا كتشويه للواقع هو المثال المهيمن في الغرب فترة طويلة.
في الثلاثينيّات من القرن الماضي، وفي مواجهة القوة المتنامية للفاشية - الحركة التي كانت شعبية ورجعية في نفس الوقت - وعدم قدرة الحركات العمالية على معارضة هذه القوة بشكل فعال، تم دفع العديد من المفكرين الماركسيين إلى تناول مشكلة الأيديولوجيا. في سجنه، أصرّ أنطونيو غرامشي صاحب كتاب ((دفاتر السجن)) (5) على وجه الخصوص على الإيقاعات المختلفة التي يفرضها عالم منظم من حيث التمثيلات ومن الناحية الاجتماعية والاقتصادية. في حين أنه من السهل نسبيّاً الاستيلاء على المؤسسات السياسية لبلد ما (كان مكيافيلي قد قدّم هذه النظرية قبل فترة طويلة من ماركس)، إلا أنه من الأصعب بكثير تعديل السلوكيات المكتسبة (أو كسب القلوب)، والتي يتم ترسيخها في مختلف المؤسسات والطقوس. كان تعقيد الهياكل الاجتماعية يعني في نظر غرامشي عمليّة ((حرب مواقع)) بدلاً من ((الهجوم العسكري المباشر)). أعادت هذا الاستعارة العسكرية تحديد الاستراتيجية الشيوعية بشكل أساسي. وسوف تكون الأفكار التي قدّمها غرامشي أحد أسباب القطيعة التي قام بها الحزب الشيوعي الإيطالي مع ((النموذج السوفيتي)) للاستيلاء على السلطة كما جرت الأمور في أكتوبر عام 1917، والتكيف (النسبي) للحزب الشيوعي الإيطالي خصوصاً، وللأحزاب الشيوعية في أوروبا عموماً مع واقع العالم الغربي الديموقراطي الليبرالي، والذي يتيح فيه وجود المجتمع المدني إمكانيّات كبيرة لانخراط الشيوعيّين في النقاشات مع أيديولوجيّو النظام القائم. تلعب الأيديولوجيا هنا دوراً أساسيّاً، وأيضاً دوراً مضاعفاً. فمن ناحيّة أولى، هي التي تضمن هيمنة المجموعة المهيمنة التي تشرّع للنظام الرأسمالي الحالي بالبقاء وإعادة انتاج نفسه، والإجماع الذي يسمح لها بالحفاظ على تلك الهيمنة في المجتمع؛ ومن ناحيّة ثانيّة، تمكننا من فرض ((الأيديولوجيا الماركسيّة)) التي تقوم على أسس راسخة في العلم الاجتماعي الذي بنى أسسه الأولى ماركس وتابعه فيما بعد أنجلز ولينين وروزا لوكسمبورغ، وآخرهم غرامشي، الذي سيقتصر دوره على إعادة الماركسيين والماركسية إلى تأهيل مفهوم المجتمع المدني والدور الأساسي لمفهوم الهيمنة الأيديولوجيّة فيه.
عند النظر في دور المثقفين في هذه العملية، أكد غرامشي على مهمتهم المزدوجة. بادئ ذي بدء، هم وكلاء الاتفاق ((العفوي)) الذي أعطته جماهير كبيرة من السكان للتوجه المعطى للحياة الاجتماعية من قبل المجموعة الأساسية المهيمنة، وهو اتفاق نشأ ((تاريخياً)) من الهيبة التي للمجموعة المهيمنة (والثقة التي تثيرها) بحكم وظيفتها ودورها في عالم الإنتاج؛ وثانياً، هم عملاء ((انضباط الجماعات التي ترفض)) الموافقة ((داخل جهاز الدولة القسري)). وهم الضامنون للاندماج بالنظام القائم، والمعاش على أنّه ((النظام الطبيعي)) من قبل المقهورين (البروليتاريا) والفاعلين (أصحاب رأس المال والسلطة السياسيّة التي تخدم دوام هيمنة رأس المال في المجتمع) على نظام القسر في كافة أشكاله (من المنع والرقابة إلى تنظيم القوانين القمعيّة. وبالتالي، يلعب المثقفون دوراً يعطي حجمه مقياساً للآثار الاجتماعية للأيديولوجية.
تعميق الشرخ الغرامشي من خلال الفهم العميق لعمل الدولة وأجهزتها الأيديولوجيّة
في عمل ألتوسير تعميق لمفهوم الأيديولوجيا كتشويه وفي نفس الوقت إعادة تأهيل لها عن طريق التمييز بين (الأيديولوجية) و (الأيديولوجيات الخاصة) من ضمن تطويرن لأفكار غرامشي حول دور الأجهزة الأيديولوجيّة للدولة.
في الماركسية المتأخرة، وخصوصاً في الماركسية البنيوية مع لوي ألتوسير ألتوسير، سوف ينتقد تأويل الأيديولوجيا كتضاد مع الواقع كما هي عند ماركس إلى التضاد مع العلم، حيث إنّه مع ألتوسير سوف تتحول الماركسيّة ليس كعلم اجتماع اقتصادي وكتفسير مادي للتاريخ بل هي العلم الاجتماعي بامتياز، ويصبح التضاد بين الأيديولوجيا والعلم (6).
يشدّد ألتوسير على دور الماركسيّة بوصفها علماً. لم يعد الأنموذج المنهجي أنموذج قلب، فالعلم يقطع مع اللاعلم، وهي قطيعة أساسيّة. وتوصف الأيديولوجيا بأنها اللاعلمي أو بالأصح السابق على العلم.
أدى عمل لويس ألتوسير ومجموعته البحثية من دار المعلمين العليا، جنباً إلى جنب مع البنيوية الفرنسية والتحليل النفسي عند جاك لاكان، منذ نهاية الستينيات، إلى انعطافة قوية في التقليد الماركسي. لقد قدّم ألتوسير حجتين نظريتين أو برهانين نظريّين. يعتبر ألتوسير الأيديولوجيا، مثل اللاوعي، بُعداً متأصلاً في العقل البشري. وبهذا المعنى، ليس لها ((تاريخ)) (لا تاريخ للاوعي، التاريخ يكتب للوعي). لذلك، لا ينبغي الخلط بينها وبين ((الأيديولوجيات)) الخاصة، والتي هي ليست سوى الحوامل للمصالح الظرفية لمجموعات اجتماعية معينة أو محدّدة. من خلال إعطاء درجة معينة من الاستقلالية للطريقة التي يتخيل بها الرجال وضعهم الحقيقي (في الأيديولوجيّات الخاصة)، يتجنب ألتوسير الحتمية. في الوقت نفسه، فقد فتح ألتوسير مجالاً واسعاً من البحث من خلال الرؤية التي يعطيها للتمييز عند غرامشي بين ((أجهزة الدولة الأيديولوجية)) و ((جهاز الدولة القمعي)). فالأول يبغي الهيمنة بالطرق الناعمة، مما يؤدي إلى إعادة تأهيل دور المثقف الذي أهمله الفكر الماركسي الأوثوذكسي قبل غرامشي، والثاني هو السيطرة في استعمال العنف المشروع في يد السلطة.
هذه المقترحات، كما نرى، تعيد مسألة الأيديولوجيا إلى قلب الرؤية الماركسية. كما أنها تعطيها دوراً محدداً، مما يزيل الشك الأولي. لم تعد الأيديولوجيا ـ الأيديولوجيات هي الانعكاس الانقلابي أو القلبي للواقع، بل هي طريقة لا مفر منها لواقع الناس في المجتمع. فالأيديولوجية المكرسة والمهيمنة والأيديولوجية التي تريد فرض هيمنتها ليسا فيهما دلالات ازدرائيّة وسلبيّة. ومع ذلك، يتزامن هذا المعنى المفتوح عند ألتوسير مع الإصرار على التفكير في ((الانقطاعات المعرفية))، والتي يعتبر التعارض بين ((العلم)) و ((الأيديولوجيا)) أحد الأشكال الممكنة. بهذه الطريقة، تحتفظ الأيديولوجيا عند ألتوسير بجزء من الشحنة السلبية التي أطلقها عليها ماركس.
لقد شكلت الألتوسيريّة بلا شك تتويجا لاختراق الفكر الماركسي في قلب النظام الجامعي الفرنسي، وفي الوقت نفسه نقطة انفتاح الماركسية على العلوم الإنسانية المتطورة، مثل التحليل النفسي وعلم اللغة.
ألتوسير والمحاولة الفكرية الأولى الكبيرة لقراءة كتاب رأس المال
لكن، إذا كان لينين وغرامشي رفضا القيام بهذا الواجب (أي العمل المباشر على "رأس المال" عمل ماركس الرئيسي)، فماذا عن الماركسيين اللاحقين لـلينين والمعاصرين لـغرامشي والورثة الحاليين لهما؟ طبعاً، هناك من المفكرين الماركسيين من قام بمراجعة ماركس خصوصاً كتاب رأسمال، وأهمهم الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير (1918 ـ 1990)، الذي ألف كتابين هما ((من أجل ماركس)) و((قراءة رأس المال)).
قدم ألتوسير في هذا الكتب مجموعة من الأفكار منها: مفهوم "القطيعة الايبستيمولوجية" في داخل عمل ماركس (والمفهوم أخذه عن الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار)، ونقد النزعة الإنسانية، التي اعتبرها ألتوسير عبارة عن إيديولوجيا. ووجه ألتوسير في هذا الكتاب نقداً عنيفاً ضد روجيه غارودي المفكر الثاني في الحزب الشيوعي الفرنسي بعد ألتوسير في الستينيات، بسبب محاولة غارودي المصالحة بين الماركسية والدين.
إن أهم ما جاء في هذا العمل، هو بلا شك، هو مفهوم "القطيعة الايبستمولوجية" الذي رسمه ألتوسير في عمل ماركس ((رأس المال)). لاحظ ألتوسير أن أعمال مركس الشاب، في حدود كتابه ((الأيديولوجية الألمانية)) الذي كتبه مع رفيق دربه أنجلز ما والت تحمل مفاهيم مثالية من الفلسفة الهيغلية مثل مفهوم الإستلاب، وأنه ابتدءاً بعمله الضخم في رأس المال (ثلاث أجزاء) بدأ ماركس مرحلة جديدة من الفكر العلمي، والذي دعاه ألتوسير بالنظرية، أي أن دقته المعرفية وصلت الى حدود العلوم الدقيقة، لذا يحق إطلاق مصطلح النظرية أو الفكر العلمي على المقولات التي جاء بها ماركس في كتابه الضخم رأس
خاتمة
بالرغم من التقدم الكبير والتوسع في فهم مفهوم الأيديولوجيّة (الكثير التعقيد) مع أنطونيو غرامشي ولويس ألتوسير، إلا أن هذا المفهوم عند هاذين المفكرين الماركسييّن الإصلاحيّين ظلّ يحمل الكثير من الشحنات السلبيّة والازدرائيّة التي ترسخت مع ماركس وأنجلز في كتابهما الأيديولوجية الألمانيّة. يقول غرامشي بأن الأطروحة الماركسية ذات أبعاد ((علمية))، تقوم بتفسير الكثير من القضايا الاجتماعية والتاريخية، ومن خلال هذا التفسير نستطيع الوصول للتصور الحقيقي للصيرورة التاريخية للمجتمعات الإنسانية. والتعارض الذي أقامه ألتوسير بين ((العلم)) و ((الأيديولوجيا)) يصل إلى حد وضع الماركسيّة في مستوى النظرية العلميّة، والأيديولوجيا في المستوى المقابل. بهذه الطريقة، تحتفظ الأيديولوجيا عند ألتوسير بجزء كبير من الشحنة السلبية التي أطلقها عليها ماركس. ولن يحظى الفكر الماركسي، مع الأسف، بالسبق في الفهم العميق والموسع لمفهوم الأيديولوجيا، بالرغم من أنّه كان سباقاً مع ماركس في التمهيد للتوسع الكبير في التحليل الذي حظيّت فيه فكرة الأيديولوجية من اهتمامات ودراسات كثيرة في العلوم الاجتماعيّة والفلسفة. وسوف يكون علينا الانتظار مجيء الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (1913 ـ 2005) ـ والذي تأثر كثيراً بكتاب كارل مانهايم ((الأيديولوجيا واليوتوبيا: مقدمة في سوسيولوجيا المعرفة)) (1930) (7)؛ وكذلك، بكتابات ألتوسير وكان أحد تلامذته ـ ليأخذ فهم الأيديولوجيّة توسعاً كبيراً جداً في الفهم، وذلك في كتابه ((محاضرات في الأيديولوجيا واليوتوبيا)) (8). فبينما تأتي الأيديولوجيا عند ريكور لإضفاء الشرعية على الواقع، تظهر اليوتوبيا نفسها كبديل حاسم لما هو موجود. إذا كانت الأيديولوجيا تحافظ على هوية الأفراد أو الجماعات، فإن اليوتوبيا، من جانبها، تستكشف أو تصوّر الممكن. كلاهما يتعلق بالسلطة ويشكلان جزءاً من هويتنا، لكن الأيديولوجيّة تتوجه نحو الحفظ، واليوتوبيا نحو الاختراع، نحو الخيال الجامح في أغلب الأوقات.
ومن خلال إعادة قراءة مفكرين مثل سان سيمون، فورييه، ماركس، مانهايم، ويبر، ألتوسير، هابرماس أو غيرتز، استغل ريكور هذا الزوج المفاهيمي الكلاسيكي لتطوير عمل أصيل في الفلسفة السياسية (9).
الهوامش
(1) بول ريكور ((محاضرات في الأيديولوجيا واليوتوبيا))، ترجمة: فلاح رحيم (دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى 2002)، مقدمة الكتاب.
(2) المرجع نفسه، ص: 71 ـ 72.
(3) كارل ماركس ((الأيديولوجية الألمانيّة)) قام بترجمته إلى العربيّة الأستاذ فؤاد أيوب (والكتاب من منشورات دار دمشق، 1976).
ويحتوي الكتاب بالإضافة لنص الأيديولوجية الألمانية على نصوص أخرى لماركس، مما يجعل الترجمة تحتوي على صعوبات بالنسبة للقراء والباحثين، بالإضافة الى الأسلوب الجاف والصعب والذي لم يساعد على فتح النص، على الرغم من المقدمة الجيدة التي كتبها الأستاذ فؤاد أيوب للكتاب.
وقد اعتبرتُ هذا الكتاب في مقالتي ((كتاب الأيديولوجيّة الألمانيّة وبداية الأوهام الماركسيّة)) المنشورة في موقع الحوار المتمدن (12/02/2020)، بأنه ((بدايّة انزلاق الفلسفة الماركسيّة نحو النزعة العلميّة أو العلمويّة)).
(4) مفهوم القلب الأساسي عند ماركس، حيث قام بقلب الفلسفة الديالكتيكيّة الهيغليّة لتستوي على أقدامها، بعد أن أوقفها هيغل على الرأس (أي على الأفكار).
ونعرف أنّ مفهوم القلب الفلسفي أخذه هيغل من فيورباخ (1804 ـ 1972) الذي قام بقلب الثيولوجيا لتصبح أنثروبولوجيا.
(5) الدفاتر أو الكراسات الفلسفية، وتبلغ عدد صفحاتها 3000 صفحة. وقد ترجم بعضها الى اللغة العربية، ولكن الى اليوم لا يوجد ترجمة كاملة لهذه الدفاتر بصورة دقيقة وشاملة.
(6) وسوف نجد هذا الأمر مع مفكرين ماركسيين عربيين هما سمير أمين ومهدي عامل.
(7) كارل مانهايم ((الأيديولوجيا واليوتوبيا: مقدمة في سوسيولوجيا المعرفة))، ترجمه إلى العربيّة الدكتور محمد رجا الديريني (شركة المكتبات الكويتيّة، الطبعة الأولى 1980).
(8) بول ريكور ((محاضرات في الأيديولوجيا واليوتوبيا))، ترجمة: فلاح رحيم (دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى 2002).
(9) وقد كان لنا وقفة طويلة مع هذا الكتاب في ترجمة طويلة من اللغة الفرنسية نشرت سابقاً في موقع الحوار المتمدن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -عفوا أوروبا-.. سيارة الأحلام أصبحت صينية!! • فرانس 24


.. فيديو صادم التقط في شوارع نيويورك.. شاهد تعرض نساء للكم والص




.. رمى المقص من يده وركض خارجًا.. حلاق ينقذ طفلة صغيرة من الدهس


.. انقلاب سيارة وزير الأمن القومي إيتمار #بن_غفير في حادث مروري




.. مولدوفا: عين بوتين علينا بعد أوكرانيا. فهل تفتح روسيا جبهة أ