الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الله والفرن

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2021 / 3 / 16
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
٢٨ - الله والفرن
الإنسان لا يستطيع أن يهرب من ذاته، ومنذ البداية تعلم الحياة وتمكن من أن يبقى حيا وسط غابة من الوحوش والألغام والمصائد لأنه تعلم إستعمال جهازه البدائي في التفكير وحل المشاكل التي تواجهه. في البداية ألتقط غصنا يابسا ثم حجرا واستعمله كأداة ثم كسلاح، صنع مطرقة ثم فأس ثم حربة ثم قارب ثم باخرة ثم قطار ثم طائرة ثم قنبلة نووية .. وهو يتوقف في نهاية الأمر ليرى العالم مهددا بالفناء .. حقا ما أعظم الإنسان، يقول في نفسه ساخرا ولكنه يعرف الآن بأن الكل هباء ورماد وأينما يولي وجهه الكالح يواجهه هذا الشيء الذي لا شكل ولا وزن له، هذا اللاكائن. يسميه العدم، اللاشيء، الفراغ، العبث، اللاكينونة وعشرات الأسماء الأخرى التي تجعل العقل في حالة من البيات الشتوي، أو التجمد والتقلص والتقوقع .. إنه عقل يأكل ذاته ويتغذى على أحشاءه، إنه يلبس درع آشيل ويشن الحرب على ذاته، ويواصل الجري والدوران داخل الحصان الحديدي الذي شيده من شرايينه، من زاوية لأخرى في حركة أبدية، وكلما أوصل الصخرة إلى قمة الجبل، تدحرجت وعادت إلى عمق الوادي. وينظر متحسرا إلى ضخرته وهي تتهاوى بسرعة، وينظر إلى الأرض تحته فتبدو له مجرد خرائب وحقول محترقة يتصاعد منها الدخان ورائحة الجثت. فينزل بدوره خائبا لمعاودة الرحلة بطريقة آلية وهو يفكر بأن العالم يبدو لمن يراقبه من قمة الجبل كمقبرة للأشياء وكمجمع ضخم للخردوات تتراكم فيه كميات لا نهائية من المواد الحديدية الصدئة والفولاذ والنحاس والزجاج والبلاستيك. مواد مستخرجة من الأرض ذاتها، أستُهلكت وهُضمت ثم تم التخلص منها كبقايا وكقاذورات هذا الحيوان الغريب الذي لا يكف عن حفر الأرض ليل نهار. لا شك أن هذا العالم الذي يتحرك فيه البشر هو عالم غير متكامل ويستحق أن تعاد صناعته وتصميمه بطريقة تتناسب مع عقل الإنسان، وهذا ما عبر عنه صامويل بيكيت في نصه عن الخياط الذي تأخر في حياكة البنطلون. فعندما تسائل الزبون مستاء "الله خلق العالم في ستة أيام وأنت لست قادرا على حياكة بنطلون في ستة أشهر ؟ " فأجابه الخياط " ولكن أيها السيد، أنظر إلى العالم، ثم أنظر إلى بنطلونك ‪!‬" ولا شك أن بنطلون أسوأ خياط أو خياطة على وجه الأرض سيكون أحسن صناعة وأكثر إتقانا من هذا العالم المهلهل والمتعفن والذي يوشك على الإندثار والسقوط في هاوية ثقب أسود. ولكن المسؤول الأول والوحيد هو الإنسان ذاته وليس هناك مسؤولية أخرى، البنطلون جيد ومتقن الصناعة لأنه من إبتكار الإنسان وإبداعه، أما العالم فهو عمل جماعي لا خريطة ولا خطة له. في مسودة سارتر لرواية الغثيان La Nausée يورد قصة طريفة عن كيفية خلق الله للعالم في بداية التكوين. فقد عجن الله العالم في البداية كما ينبغي مستعملا أحسن أنواع الطين المتواجدة في السوق، ثم وضعه في الفرن ليتم تكوينه، ثم بعد فترة أخرجه من الفرن، ولكن لسوء الحظ عندما عاينه بدقة أكتشف أنه لم يكن ناضجا بما فيه الكفاية. وعنما أراد إعادة وضعه في الفرن، تعثرت قدمه وسقط العالم متدحرجا. وهكذا خرج العالم بهذه الصدفة المزرية. العالم اللاضروري والعرضي والذي كان يمكن ألا يكون أو يكون بطريقة أخرى. والإنسان بدوره وجد من نفس العجين وبنفس الصدفة وهو كالعالم "زائد عن الحاجة" ولا ضرورة لوجوده. و ما عالجه سارتر في هذه الرواية الفلسفية هو الوعي La conscience والعرضية La contingence. فليست هناك إرادة متعالية لتكوين العالم أو الإنسان، حيث يرى أن كل شيء يعوم في نوع من الفراغ الممل والضعف والهوان والسفر نحو الموت والعدم. الكون قاطبة بما يحتويه، هذه الأرض وهذه الأحجار وهذه الأشجار تبدو رخوة ومتدلدلة ورطبة وسائحة مثل الشمع الساخن أو مثل عالم سلفادور دالي. وحتى لو وجد الله فلا شك أن وجوده وجود عرضي أي بالصدفة وليس واجب الوجود، كما يقول في الكينونة والعدم "Dieu‪,‬ s‪ ‬il existe‪,‬ est contengent ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شهداء وجرحى إثر غارة إسرائيلية استهدفت منزلا في مخيم النصيرا


.. الشرطة الأمريكية تعتقل طلبة معتصمين في جامعة ولاية أريزونا ت




.. جيك سوليفان: هناك جهودا جديدة للمضي قدما في محادثات وقف إطلا


.. سرّ الأحذية البرونزية على قناة مالمو المائية | #مراسلو_سكاي




.. أزمة أوكرانيا.. صاروخ أتاكمس | #التاسعة