الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لا إمام سوى العقل!

الياس خليل نصرالله

2021 / 3 / 19
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تصوّروا أن غرائزي الشخصية توجّه مواقفي وسلوكياتي! وتخيّلوا كيف تدفعني مواقفي المقولبة، والنمطية لكراهية المهاتما (الروح العظيمة) غاندي! لأنّه ينبوع الحرية للأحرار ومن دعاة المقاومة السلمية (ساتاغرافيا)، فلسفة اللاعنف النابعة من الشجاعة، التمسّك بالحقيقة ومقاومة الاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل، والتي هي بتصوّره، أقوى وسيلة صنعتها البشرية. (مع أنّه لا يُقصي إمكانية اللجوء للعنف عند فشل العصيان المدني بتحقيق أهدافه). أو أقوم بذلك لأنّني أصولي (الفكر والحركات الأصولية نجدها في كل الديانات)، وهذه من مزايا أيّ فكر ديني متحجّر سلفي مُتزمّت، غيبي يوجه التفكير فيه النقل لا العقل، لذا نجده يرفض كل فلسفة تطالب بوجوب استعمال القياس العقلي والحجج في قضايا الدين، بدل تناولها من الجانب العاطفي الغيبي والأسطوري.

ويؤكد ذلك ابن رشد أن "أكبر عدو للدين، جاهل يكفّر الناس.. وأنّ التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل.. وفساد القضاء يفضي إلى نهاية الدولة.. والمجتمعات لن ترقى إلّا إذا كفّ الرجل عن استعمال المرأة للمتعة وقصر نشاطها على البيت، وأنّ اللحية لا تصنع الفيلسوف".

تخيلوا أن أرفض فكر وأدب المعرّي، لنقده معتقدات دينية وأساطير لا يقبلها المنطق، أو لتصدّيه لظاهرة تسييس الدين واشعال الفتنة الطائفية كقوله: "أنّ الشرائع ألقت بيننا إحَنًا/ وأورثتنا أفانين العداوات". أو: "في اللاذقية ضجّة ما بين أحمد والمسيح/ هذا بناقوس يدق وَذَاك بمئذنة يصيح/ كل يعظّم دينه، يا ليت شعري ما الصحيح؟". أو قوله: "كذب الظنّ لا إمام سوى العقل في صبحه والمساء". وأبدع هذا الشاعر الأعمى المتبصّر في انتقاد الحكام قبل عشرة قرون، وما زال نقده أصدق توصيف لواقعنا الراهن. مثل قوله: "مُلَّ المقام فكم تعاشر أمة/ أمرت بغير صلاحها، امراؤها / ظلموا الرعية واستجازوا كيدها / ساس الأنام شياطين مسلطة/ في كل مِصْر من الوالين شيطان/.. يسوسون الأمر بغير عقل/ وينفذ أمرهم فيُقال ساسة". (إلّا أنّه يعود فيصفها بأنها خَساسة).

وكيف لنا أن ننسى تكفير الشيخ الرئيس ابن سينا، واتهام "ابن قيم" له "بأنّه إمام الملحدين والكافرين بالله وملائكته ورسله والآخرة". وكتب فيه "ابن صلاح" أنّه كان شيطانا من شياطين الأنس". والباعث والدافع لتجريحه هذا اعتماده المنطق والعقلانية في بعض القضايا الدينية. منها شرحه أنّ العالم قديم، أزلي، غير مخلوق، وأيضًا أنّ البعث في مفهومه روحاني وليس بجسماني. أدّت هذه التصوّرات لإهمال فلسفته في الشرق وليستفيد الغرب منها في العصور الوسطى. ومن الفلاسفة الذين اتهموا بالزندقة وما زال نشر كتبهم وفكرهم محرمًا وجرمًا حتى عصرنا هذا هو الفيلسوف ابن الراوندي الذي ناقش وفسّر في فلسفته، الموقف من الموت بمنطق كان فيه سبّاقًا للعلم الحديث. فنجده يكتب في هذا الموضوع: "الناس جميعًا لا يعلمون كيف يموتون، ولو جرب الإنسان الموت، ما أدركه، أو عرفه حقّ المعرفة، وأما مُعاينة موت الآخر لا تُعَلِّم الإنسان شيئا عن أسرار الموت.. ولا يسع احدًا اعتبار نفسه ميتًا، لأنّ المرء إذا تخيّل أو ظنّ بأنه ميت، كان هذا التخيّل أو الظن في حدّ ذاته دليلاً على أنّه حيّ، لأنّ التفكير، التخيّل والظن هي من خصائص الاحياء".

فكيف لمجتمع الخروج من جموده، عقمه الفكري إذا رفض مناقشته الحجّة بالحجّة بدلاً من التكفير والتهميش. والأنكى أنّ أقاطع فنانًا، أديبًا، عالمًا أو مخترعًا لأنّه لا ينتمي لديانتي، طائفتي، عرقي أو قوميتي. والطامّة الكبرى والكارثة والمأساة الإنسانية أن يقودني جهلي، هوسي وتحجّر عقليتي لأن أخطّط وأنفذ اغتيال كل من غرست تربيتي وجمودي العقائدي (وهذا ليس مقتصرًا على أيديولوجية دينية معينة)، بأنّه عدوي اللدود، فأفرض عليه اعتناق ديني أو نفيه، تهميشه، بل تصفيته جسديًا. لكن تصوّراتي هذه ليست مجرّد شطحات فكرية متخيّلة، إنّما يفرزها واقع مأسوي هدام تغذيه قوى ظلامية نفعية جشعة، ونعايشه يوميًا ولا نملك للوهلة الأولى علاجًا له سوى التحسّر وفقدان الأمل، لأنّنا أصبحنا نعيش في دائرة مفرغة لهذا التفكير المأزوم.. ولكن حبّنا للحياة السوّية، وتمسّكنا بالقيم الإنسانية، وتراب الوطن يحتّم علينا أن نعمل بفارغ الصبر وأن نصنع بإرادتنا وممارستنا بزوغ فجر حبّ الإنسانية، وتطبيق الحقوق الأساسية لكل إنسان، بدون أيّ تمييز عرقي، ديني، طائفي، قبلي، ذُكوري وفئوي، لتوحّدنا عندها ديانة محبّة الإنسانية.

من كتابي الصادر حديثًا، بعنوان "نحو مجتمع عقلانيّ"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التحالف الوطني يشارك الأقباط احتفالاتهم بعيد القيامة في كنائ


.. المسيحيون الأرثوذوكس يحيون عيد الفصح وسط احتفالات طغت عليها




.. فتوى تثير الجدل حول استخدام بصمة المتوفى لفتح هاتفه النقال


.. المسيحيون الأرثوذكس يحتفلون بعيد الفصح في غزة




.. العراق.. احتفال العائلات المسيحية بعيد القيامة وحنين لعودة ا