الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نهاية وباء والرجل الذي أكل والد صديقه

حسن رجب

2021 / 3 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


(سليمان فائق) وهو أحد الذين ينقل عنهم عالم الاجتماع الكبير د.علي الوردي الوقائع التاريخية في كتابه 《لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث》 يحكى أنه كان في بغداد بداية انتشار الطاعون ، وكان يومذاك شاباً سجل بعض ذكرياته عن تلك الايام ، وهي ذكريات لاتخلو من دروس اجتماعية يمكن اعتبارها متممة لتلك التي سجلها (غروفز) .

يقول فائق : إنه عندما بلغت الجنائز اليومية بين الستمئة والسبعمئة جنازة ؛ زاد خوفه واضطرابه وذهب الى والده يستأذنه في الخروج الى البادية فراراً من الطاعون . لكن والده أجابه قائلاً :
《يا بني لايجوز الفرار من الوباء ، فإن الذين ماتوا هاربين يصبحون عصاة ، فلنبق في المدينة فمن مات منا أصبح شهيداً ، وأما من نجا بنفسه فيصبح من السعداء》 .

وقد بذل فائق جهده من أجل اقناع والده على تغيير رأيه ، مبرهناً له أخطاء "رجال الدين" الذين حرَّموا الحجر الصحي وأن الشريعة الاسلامية لا تؤيدهم في ذلك .

وبعد أن اقتنع والده برأيه قال له : 《يابني ليس من اللائق لحقوقنا القديمة ومناسباتنا العامة أن اترك (داود باشا) وأخرج .
فاخرج أنت واذهب ، أما أنا فسأمكث هنا متوكلاً على الله ، وان شاء تعالى فإني معتزم السفر الى الآخرة مع هذه القافلة الطبية دون أن اقتل في اواخر عمري بسيف السياسة》 .

فخرج فائق وأفراد اسرته برفقة بعض سكان بغداد ، فخيموا في الصحراء على مقربة من بعقوبة .

كان فائق يغير موضع خيامه مرة كل أربعة أو خمسة أيام ، حذرا من العدوى ، وقد نجا منها فعلاً هو ومن كان معه . فلم يمت منهم سوى الذين أرسلوا الى القرى لطحن الحبوب . وعندما خف الطاعون عزم فائق أن يسرع في العودة الى بغداد ، ومما دفعه الى ذلك خطر النهب من قبل بعض العشائر المحيطين بهم ، فقد كان (محمد البردي) شيخ شمر طوقة ، يرسل رجالاً من عشيرته حول المخيم ، بغية نهبه ، والظاهر أنهم انتهزوا فرصة الطاعون هناك ، كمثل ما انتهزها اللصوص في بغداد .

وعندما وصل فائق وأهله الى مشارف بغداد ، لاحظ أن المدينة محاطة بالمياه من جهاتها الأربع ؛ لان النهر كان قد فاض في أواخر أيام الطاعون ، ولم يكن في المدينة من يقدر على مكافحته ، فأغرق الكثير من محلاتها ، فأجر فائق "قفة" وركبها وأهله ثم ساروا بها داخل المدينة حتى وصلوا الى الموضع المسمى 《حمام الراعي》 ، وهناك نزلوا من القفة وبدأوا يسيرون على أقدامهم .

يقول فائق : إنهم لم يجدوا في الطرقات التي مشوا فيها أي انسان ، حتى أن أُمهُ قالت لمن برفقتها من النساء : 《أيتها البنات ، لا يوجد أحد في الطريق فلم نسير وقد أسدلنا هذا النقاب؟》 . فرفعت النساء النقاب عن وجوههن وسرن نصف ساعة من دون أن يشاهدن انسانا .

وعند وصولهم الى محلة النصارى ، شاهدوا امرأة تطل عليهم من نافذة احدى الدور ، وأخذت المرأة تستفسر منهم عن حالتهم ، ثم التفتت نحو داخل الدار تخبر من فيها بوجود بشر في الطريق لايزالون على قيد الحياة ، وقد سأل فائق المرأة عن سر بقائها هي وأهل بيتها احياءً لأنه لم يشاهد أحداً في جميع الطرقات التي مر بها ، فأجابته المرأة قائلة :《نحن نصارى ، وقد جئنا الى هنا بضع أسر وأقمنا الحجر على انفسنا ، وكنا في بداية الحجر واحداً وأربعين شخصاً بالتمام ، فأصبحنا بحمد الله ثلاثة وأربعين بولادة طفلين . وبما أننا لم نر بشراً منذ مدة يمر من هذا الشارع ، فعندما شاهدناكم علمنا أن الطاعون قد ولى ، ففرحنا لذلك》 .

وبعد وصول فائق هو والنساء الى دارهم ، ذهب لزيارة (داود باشا) في مقره فوجده في دائرة الحرم مطروحاً في الفراش وهو في غيبوبته لإصابته بالطاعون .
وبعد مرور بضعة أيام تحسنت صحته بعض التحسن ، وعند ظهور اللصوص في المدينة وانتشار الحوادث المخلة بالأمن ، أخذ (داود باشا) يعين الموظفي ويشرف على شؤون الحكومة بالرغم من ضعف صحته .
وكانت جثث الموتى اذ ذاك لاتزال مطروحة في البيوت والأسواق والطرقات . حيث بلغ تعفن الهواء حداً لا يطاق ، فعين (داود باشا) جنوداً لتنظيف بغداد ، وجعل مقداراً من المال لنقل كل جثة . فألقيت آلاف الجثث في نهر دجلة من غير تكفين وتجهيز ، وكانت أكبر الجثث تُشد من أرجلها بالحبال وتُربط بذيول الحيوانات السائبة التي لم يكن لها مالك ، فتسحبها تلك الحيوانات وهي مقلوبة على وجوهها حتى شاطئ النهر .

واحدة من الحوادث التي يذكرها الدكتور علي الوردي في كتابه الذي نقرأ الان شيئا منه ، هي حادثة وقعت وقت انتشار الوباء ومنع السلطة العثمانية دفن الموتى في النجف قبل أن تجف جثثهم أو تتحول الى عظام ، حيث يحكى أن رجلاً جاء من ايران توفي والده ايام انتشار الوباء ولأنه كان يعلم بالاجراءات المذكورة ، قرر أن يتحايل عليها عبر عزل لحم جثة والده عن العظام ووضعه بإناء يدعي عند سؤاله من قبل السلطات عنه بأنه لحم حيوان . وفي ليلة من ليالي ايام الطريق نام الرجل الذي كان برفقة صديق قدم معه لدفن والده ، ثم صحى في اليوم التالي ولاحظ أن لحم والده أصبح أقل مما كان عليه !
وعندما سأل صديقه عن سر هذا النقص ؛ أخبره بأنه طبخ وأكل شيئاً منه ظاناً بأنه فعلا لحم حيوان لأنه لم يخبره بأنه لحم والده !!!

وبهذا تنتهي حكاية وباء من "الاوبئة" التي ضربت العراق عام ١٨٣١ م ، عافنا واياكم من وباء الكورونا الذي حجرنا منتصف آذار ٢٠٢٠ في بيوتنا وذكرنا به ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تأخذ استراحة بشكل صحيح؟ | صحتك بين يديك


.. صياد بيدين عاريتين يواجه تمساحا طليقا.. شاهد لمن كانت الغلبة




.. أمام منزلها وداخل سيارتها.. مسلح يقتل بلوغر عراقية ويسرق هات


.. وقفة أمام جامعة لويولا بمدينة شيكاغو الأمريكية دعما لغزة ورف




.. طلاب جامعة تافتس في ولاية ماساتشوستس الأمريكية ينظمون مسيرة