الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فيديو الأغنية المصوَّرة -أنا أصْلي بَرّي- - عمل نسائي تعاوني مُبدع

مصلح كناعنة

2021 / 3 / 20
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات


ضمن حملة جمعية "نساء ضد العنف"، وبمناسبة إحياء اليوم العالمي للمرأة في عام 2021، طلعت علينا خمس فنانات من صبايا فلسطين (ميساء ضو، يُسُر حامد، لينا مخول، نانسي حوّا، نويل خرمان) بعمل فني تعاوني في غاية الإتقان والروعة، على شكل أغنية جماعية مُصوَّرة عنوانها "أنا أصْلي بَرّي". ومع أن كل الفنانات المُشاركات في هذا العمل الفني فلسطينيات من ربوع فلسطين، فليست الغاية من هذا العمل أن يُمثل فلسطين أو أن يُقَدِّم المرأة الفلسطينية إلى العالم كما يدعي البعض من باب النقد، وإنما هو يُمثل المرأة الإنسان بالمُجمَل في يوم الاحتفاء العالمي بها، ويُقَدِّم إلى العالم جوهر المرأة ومزاياها وقضاياها كما تراها هي، بصوت نسويّ جريء صريح حُر. ولكنْ بما أنَّ كل الفنانات المُشاركات فلسطينيات الموطن والثقافة كنعانيات الأصل والمُحتد في مجتمع ذكوري مستبد، فإنه من البديهي أن تكون هذه الخصوصية الجغرافية الثقافية هي التي تمُد هذا العمل بمحتواه الفني وبما يُميّز الفنانات المُشاركات فيه شكلاً وزيّاً وجسداً وحركة ولحناً: "أنا أصلي برّي، ذوقي شرقي، صوتي سحري، بخيري وشرّي." إنهُنَّ نساء من فلسطين تصرخن صرخة المرأة في عالم الاستعلاء الذكوري، ولسنَ نساءً فلسطينيات تُقدِّمن فلسطين والمرأة الفلسطينية إلى العالم في فيلم إعلامي تتحكم في شكله ومضمونه معايير ثقافة الرجال الذكورية.

ونحن إذ نقول أنَّ هذا العمل هو "عمل فني في غاية الإتقان والروعة"، فليس هذا اعتباطاً ولا هو من باب البلاغة الخطابية، فلقد تجاوز هذا العمل حدود الأغنية واللحن ليُشكِّل لوحة فنية كاملة متكاملة من حيث الكلمات والحركات والمشاهد التصويرية، ومن حيث الإحساس الإنساني والجمالي الذي يُوَلِّده في نفوسنا. هذه الشحنة الشعورية الزخمة التي تمتزج فيها روعة الجمال الفني برُقيِّ الحس الإنساني، تضعنا نحن المشاهدين أمام مشهد إبداعي جديد في سياق عالم الفن في فلسطين؛ مُغنيات فلسطينيات في عمر الورود يجتمعنَ في عمل واحد ويتَّحدنَ معاً بتناغم مطلق كي ينتزعن لأنفسهن الفرصة لإطلاق نفس الصرخة والتفاخر بنفس الجوهر، ولإيصال نفس الرسالة في جو تعاوني مفعم بالدفء بعيداً عن التنافسيّة والسعي الأناني نحو مركزية الذات:

"بَستنّاكِ وبحميكِ
وبروحي بَفديكِ
أضُمِّك لحضني
وحضني يدفّيكِ
...
شايفتِك كيف شايفتيني
حاسِستك كيف حاسِستيني."

بالصوت والصورة، بالكلمة واللحن والحركة والمشهد التصويري، ترسم هؤلاء الفنانات الخمس صورة لمجتمع أنثوي قوي مستقل متكافل، ومن خلال ذلك يوجِّهنَ دعوة ضمنيَّة مباشرة إلى النساء بأن يتكافلن ويتناغمن، ويَقفنَ جنياً إلى جنب مُتشابكات الأيدي كأنهنَّ في حلقة دبكة في عرس الحياة. وعلى ذلك فإنه ليس من الغريب أن نلاحظ أن كلمات الأغنية تخلو من ذِكر الرجال تماماً، فهي لا تذكر الرَّجُل أبداً ولا توجه الخطاب إليه على الإطلاق. إنها أغنية لفتياتٍ شَبعن حتى التُّخمة من مُخاطبة الرجال عبر التاريخ بلا طائل، ومن الامتناع عن رؤية أنفسهنَّ إلا من منظور الرَّجُل ومصالحه وامتيازاته، فواتتهُنَّ الشجاعة أخيراً كي يتجرَّأن على تجاوز الهيمنة الذكورية مرةً وإلى الأبد. إنها المرأة تخاطب ذاتها، وتخاطب بنات جنسها عبر الأجيال... تخاطب أمها وابنتها:

"طالعَة لإمّي
مَلِكِة جايبة البَرَكة، جايبة الحركة...
جيبيلي كَمِّن تاج للملكات هَذول اللي جابونا."

إنهُنّ فتيات تخطَّيْنَ هيمنة الرَّجُل وتحرَّرنَ من استبداده ورُحنَ يتغنَّين بمزاياهن الأنثوية القويَّة الغنيَّة الجميلة العريقة:

"أنا أصْلي بَرّي
أنا بَروي بذوري، بَثْبَت بجْذوري
ورا حَدسي بجري
غريزتي فيِّ أنثويّة، مُستمَدِّة، مُستعِدِّة
شرسة، ثريَّة...
بَس بلا شك، مِش ولا بُدّ
ولا حدا راح ييجي ينجّيني."

هذا الاقتباس يأخذنا إلى أقوى ما يُميِّز هذه الأغنية، ألا وهو التغنّي بالتِحام المرأة بالطبيعة التي اغترَبَ عنها الرَّجُل. فالطبيعة (بمفهوميها الكوني والإنساني) التي وضعها الرَّجُل كنقيض للثقافة وقَرَنَها بالوحشية والعشوائية واللاعقلانية وجعَلَها موضوعاً للسيطرة والاستغلال، هي التي تتغنّى المرأة بانتمائها إليها والتصاقها بها حَدَّ التلاحُم... وكأنَّ المرأة تستفز الرَّجُل حين تقول له: "أنا أصْلي بَرّي" ثم تتبع ذلك بالتفاخر بشراسة طبعها وعنفوان غريزتها وبحَدسها الأنثوي الذي يأبى الخضوع لمنطق العقل الأرسطوطالي. وإذ يفتخر الرَّجُل بابتعاده عن الطبيعة وعن الحالة الطبيعية، وبإخضاع الطبيعة لمنطقه الاستغلالي، فإنَّ المرأة تفتخر بثبات جذورها الضاربة في عمق الأرض، وبتشارُكها مع الطبيعة في الخِصب والخَلق والبعث وفوْرة الحياة.

هذا الالتحام بالطبيعة يُعيد الفنانات الفلسطينيات الخمس إلى الحضارة الكنعانية الأمومية قبل حوالي 5000 عام، حضارة الإلهة الأم عشتار، ملكة السماء التي انبثقَ الكونُ من رحمها، إلهة الحُبِّ والخِصب والخَلق والبعث والحياة، الإلهة التي علَّمت المرأة أن تبذُر القمح في الأرض وكشَفت لها سِرَّ النار وعلَّمتها كيف تصنع الجرار من الصّلصال... عشتار التي قالت عن نفسها:

"أنا الأوَّل وأنا الآخر
أنا البَغي وأنا القِدّيسة
أنا الزوجة وأنا العذراء
أنا الأمُّ وأنا الابنة
أنا العاقر وكُثُرٌ هُم أبنائي
أنا في عُرسٍ كبير ولم أتخذ زوجاً
أنا القابلة ولم أُنجب أحداً
وأنا سُلوَة أتعاب حَمْلي."

إنها عشتار التي جمعت إحدى التراتيل البابلية كل خصائص جمالها وجلالها في هذه الأبيات:

"لكِ الحَمدُ يا أرهبَ الإلهات جميعاً
لكِ الجلال يا سيِّدة البشر وأعظم الآلهة
مُوَشَّحةٌ بالحُبِّ والمُتعة
تفيض طاقةً وسحراً وشهوَة
شفاهُها عذبة وفي فَمِها الحياة
ظُهورُها ينشُر الفرَح والابتهاج
بيَدِها مَصائر الأشياء جميعاً
نظراتها فيها الفرح
وفيها القُوَّة والعَظَمة
إلهةٌ حامية وروحٌ حارسة."

لا شكَّ أنَّ هذه الأغنية النسائية عشتارية الروح والخِصال والرسالة، عشتارية السِّحر والطاقة والكبرياء والفرح، وليس أدلّ على عشتاريَّتها من هذا المقطع البسيط الساحر من الأغنية:

"خريفي ندى
وشتائي دفا
وربيعي شِفا
وصيفى بَدا."

وكأنَّ هذا المقطع يلخِّص بثماني كلمات أسطورة عشتار التي أَرسَلت زوجها وحبيبها "تمّوز" إلى العالم السُّفلي الذي يحكمُه الإله "مُوت"، ثم ندِمَت على فِعلتها هذه فخاطرَت بالنزول إلى العالم السُّفلي لإنقاذ تمّوز وتحريره من قبضة الموت، وحين تفلحُ في مُهمَّتها بعد لأيٍ فتستعيد حبيبها وعشيرها تمّوز من العالم السُّفلي وتصعد معه إلى الحياة من جديد، تنبعث الحياة في الأرض ربيعاً فوّاراً مُفعَماً بالأزهار والثمار والمراعي الخضراء، ثم لا يلبثُ تمّوز أن يعود إلى غياهب العالم السُّفلي فيختفي ربيع الحُبِّ والخصب والحياة ويعُمُّ الخريف الأرضَ بأشجاره العارية وألوانه الحزينة ولياليه الطويلة، فتلحَق به عشتار في الشتاء، ووسط البرد والمطر والزمهرير تتمكن من إنقاذه والصُّعود به إلى الحياة في أوائل الربيع، وهكذا تتعاقب الأحداث بين الحياة والموت كلَّ عام، وهكذا يُفسِّر أهل كنعان وسومَر وبابل تعاقُبَ الفصول ما بين حصاد الصيف، ومَوات الخريف، وسُبات الشتاء، وحياة الحُبِّ والخصب والجمال في ربيع الأزهار والأنوار... كلُّ هذا مَحكومٌ بالمَسيرة الدَّورية الأبدية للإلهة الأم عشتار التي " تفيضُ طاقةً وسحراً وشهوة".

وإذا كانت كاتبتا كلمات أغنية "أنا أصْلي بَرّي" – يُسُر حمد وميساء ضَو – قد صاغتا هذه العبارات دون وعي منهُما بعشتاريَّتها وكنعانيَّتها، فإنَّ ذلك يُعزز من مصداقيَّتهما ويَزيدُهُما أصالة وعراقة، فهو إنما يبرهن على مدى تغلغُل الموروث الكنعاني الأمومي في اللاواعي الجَمعي لبناتِ فلسطين وأبنائها. وفي هذا السياق فإننا نعتقد أن عبارة "بْرَقصِة حَيِّة" (برقصَة الأفعى) التي وردت في هذه الأغنية لم تأتِ كزلَّة لسانٍ أو خاطرة عشوائية عابرة، وإنما هي في رأينا شاهدٌ حيٌّ على تغلغُل الموروث الكنعاني الأمومي العريق في أعماق اللاوعي الجَمعي والتركيب النفسي للنساء في فلسطين. فالأفعى التي أرعبَت الإنسان بغرابتها وفتْكِ لدغاتها، هي نفسُها التي سَحَرته بجمال حركتها وخلبَت لُبَّه بثوبها الحريريِّ الناعم المُزخرف الذي تخلعُهُ وتستبدله كلَّ عام... هذه الأفعى المُرعبة الساحرة التي تختفي عن الأنظار في الخريف والشتاء ثم تنبثق من باطن الأرض في أواخر الربيع، شُحِنَت برمزية البعث وتجدُّد الحياة في حضارات الشرق القديم، وبسُمّها الفتّاك وجمالها الساحر ورمزيَّتها المشحونة بالبعث والتجدُّد والخلود، أصبحت الأفعى (الحَيّة) قرينةً للإلهة الأنثى الأمّ عشتار "أرهَب الإلهات جميعاً " وأكثرهنَّ طاقةً وسحراً وجمالاً، تُلازمها وتمثلها وتنوبُ عنها وتكون دوْماً حاضرة معها في أشهَر تماثيلها.

إن هذا التعاون الدافئ المتناغم بين أكثر من فنانة تغني كل واحدة منهنَّ بطريقتها وترقص بأسلوبها الخاص، لهوَ في ذاته تجسيد لتعدُّد صور عشتار في الثقافة الكنعانية/البابلية/ السومرية، فنحن لا نكاد نُدركها في صورةٍ ما حتى نراها تتحوَّل إلى صورة أخرى، وما أن نقبض عليها في هيئةٍ حتى تنقلب إلى نقيضها، فهي الأنثى الفوَّارة ذات الغريزة المُلتهبة، وهي المُقاتلة الشرسة القادرة على حماية نفسها والدفاع عن استقلاليَّتها، وهي الفنانة المُبدعة المتألقة الباحثة عن الجمال والكمال، وهي المرأة الحُبلى التي لا يمنعها حملها عن الرقص فرحاً واحتفاءً بالحياة، وهي المرأة الحكيمة والصَّديقة المُخلصة والأمُّ العاشقة والبنت التي تخطو بأمل وثقة نحو المستقبل. هذا الغِنى التعدُّدي يتجلى في المشاهد التصويرية وفي كلمات الأغنية عبر النَّص كلِّه، وبالأخصِّ في اللازمة "عيُوني بْظَهري، وأنا بَلوي بخَصري"... هذه "العيون في الظهر" هي وسيلة بالغة الذكاء والعُذوبة للتعبير عن شُمولية الوعي، وفي نفس الوقت للتعبير عن الحاجة إلى الحذر الشديد في عالم ذكوري عدائي.

وبناءً عليه، نحن أيضاً "عاجبنا كيف صايْرة تِحكي" كما تقول الأغنية. نحن أيضاً "عاجبنا كثير" أنكِ أصبحتِ قادرة على الكلام بكل هذه الجُرأة وهذا الوضوح، وأنكِ أصبحتِ قادرة على اختراق حاجز الصمت، وعلى البَوْح والشَّكوى والاحتجاج على الاستبداد والظلم... وأنكِ أصبحتِ قادرة على الرقص والغناء بكلِّ هذه الكبرياء، وبكلِّ هذه الرَّوعة وهذا الرُّقيّ.

(كُنِبَ بمساعدة الطالبة غدير محاجنة)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قانون الإجهاض الجديد في ولاية فلوريدا يدخل حيز التنفيذ


.. لهذا قُتلت لاندي جويبورو التي نافست على لقب ملكة جمال الإكوا




.. الدول العربية الأسوأ على مؤشر المرأة والسلام والأمن


.. إحدى الطالبات التي عرفت عن نفسها باسم نانسي س




.. الطالبة التي عرفت عن نفسها باسم سيلين ز