الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حيلة كانط .... أخلاق الفطرة

رماز هاني كوسه

2021 / 3 / 20
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الطفل الرضيع عندما يجوع لماذا يبكي و لا يضحك ؟ من أخبر هذا الرضيع بأن البكاء سيدفع الاخرين لإطعامه رغم أن عمره لا يتجاوز يوما واحدا و لا خبرة أو تجارب مع الجوع يمتلكها هذا الرضيع تجعله يقرر أن البكاء هو الاستجابة الطبيعية للإحساس بالجوع . كلا السلوكين البكاء و الضحك عند الرضيع هما فعلان اراديان و ليسا رد فعل غير ارادي (كما يحدث عندما نسحب يدنا بسرعة اذا لامست شيئا حادا او حارا ). فبكاء الرضيع هو فعل ارادي يقوم به الرضيع نتيجة اتخاذه لقرار عقلي نتيجة لإحساسه بالجوع . و بالتالي فإن هذا الرضيع رغم عدم امتلاكه لأي تجارب سابقة فهو يملك أفكارا عقلية يستطيع أن يتخذ بموجبها قرارات معينة . من الطرح السابق نستطيع ان نفهم بشكل مبسط ما أراده الفيلسوف الألماني كانط من كتابه (نقد "العقل المحض") . كانط ببساطة يسأل ( هل نملك أفكارا عقلية بعيدا عن التجربة المادية المرتبطة بالحواس ) و هو ما يقصده بالعقل المحض أي العقل المجرد عن التجربة و المؤثرات الخارجية . و بعد أن يثبت كانط امتلاكنا للعقل المحض الموجود لدينا بالفطرة بعيدا عن التجارب والخبرة المكتسبة منها ينتقل لموضع آخر و هو الأخلاق و يثبت لنا بأننا نمتلك الأخلاق بالفطرة . أي أننا نولد و فطرة الاخلاق موجودة فينا دون التأثر بالعوامل و التجارب التي نتعرض لها . فهل نحن اشخاص اخلاقيون بالفطرة ؟
يقول كانط نعم نحن أخلاقيون بالفطرة منذ ولادتنا . و أن الأخلاق مزروعة فينا منذ البداية قبل أن نتعرض لأي تجربة او تأثير من العالم و الحواس . .هل كان كانط محقا في قوله بوجود الأخلاق الفطرية مثلما كن محقا بقوله بوجود العقل المحض الفطري ؟
لنعد الى مثال الطفل الرضيع و لندعه يبلغ من العمر عاما أو عامين أو حتى بعمر المدرسة مثلا . و يحتك بشكل أكبر بالبشر لنرى هل فعلا يمتلك اخلاقا بالفطرة (سبب اختيارنا للطفل كمثال هو أن الانسان في مرحلة الطفولة المبكرة يكون عديم التجربة و غير متأثر بالعالم الخارجي ... أي يكون نقيا و هو ما نريده تماما لمعرفة امتلاكه عقلا فطريا و أخلاقا فطرية بعيدا عن التجربة التي يملكها البالغ ) . معظمنا شاهد طفلا صغيرا يحمله أبواه في السوق او في الحدائق الخ . هذا الطفلا اذا شاهد شيئا يؤكل نراه يمد يده مباشرة لأخذه و أكله سواء كان هذا الطعام موجود لدى أحد الباعة او كان قطعة حلوى بيد طفل آخر . طفلنا الصغير لا يرى أي مانع من أن يأخذ طعاما لا يخصه و يتناوله . نفس الامر نراه يتكرر إذا رأى لعبة مثلا . هنا يتدخل الأهل و يمنعون الطفل من القيام بفعلته (وهي أخذ ما لا يحق له ) و يزجرونه و يفهمونه أنه أخطا بالتصرف . فأين هي الأخلاق الفطرية عند هذا الطفل لتمنعه من أخذ لعبة طفل آخر و حرمانه منها أو أخذ طعامه ؟ إذا قلنا بصغر سن الطفل بعمر عام واحد أو عامين للتمييز بين الصحيح و الخطأ فلنذهب إلى طفل المدرسة و نراه يأخذ غداء زميله في الصف إذا لم تكن امه قد زودته بوجبة غداء خاصة . بل و أكثر من ذلك ممكن أن نراه يأخذ قطعة الحلوى من غداء زميله في الصف بدلا من التفاحة التي أعطته إياها أمه . هنا طفلنا يملك غداؤه الخاص و مع ذلك لا يرى مانع من اخذ قطعة الحلوى (الألذ و الأشهى) من زميله . فأين هي الأخلاق الفطرية التي تحدث عنها كانط و التي تمنع طفلنا المؤهل لدخول المدرسة و تعلم الألف باء من سرقة غداء زميله ؟ طبعا في حال لم يقم الأهل أو المدرسون بتوجيه الطفل بأن ما يقوم به خاطئ و يمنعونه من تكراره سنرى هذا الطفل يتحول الى إنسان بالغ لا يمانع في سرقة غيره للحصول على ما يريد . من المثال السابق نرى أن الاخلاق غير موجودة بالفطرة بل نكتسبها عن طريق التعلم من تجاربنا و احتكاكنا مع باقي افراد المجتمع و لو أهملنا تعليم الطفل مبادئ الاخلاق سنراه يتحول الى بالغ بلا أخلاق بأفضل الأحوال إن لم نصنع منه مجرما . و هذا يتناقض كليا مع طرح كانط عن الأخلاق بكونها فطرية و الحقيقة أن البرهان على عدم فطرية الاخلاق نستطيع أن نوضحه من خلال فكرة طرحها فيلسوف سابق لكانط و هو سبينوزا الذي يقول بأننا نولد و نكون محكومون منذ ولادتنا بغريزة البقاء و هي الغريزة الوحيدة التي توجه تصرفاتنا بالدرجة الأولى و ترافقنا إلى الموت و بالتالي نحن غير أحرار في تصرفاتنا و محكومون بتلك الغريزة . و بحكم تأثير غريزة البقاء نستطيع أن ننفي وجود الأخلاق الفطرية . فعندما نتعرض سواء كنا أطفالا او بالغين لأي موقف يهدد بقاءنا أو يساعد على تعزيزه نتصرف مباشرة بما يتناسب مع غريزتنا و يدعم بقاءنا بغض النظر عن الموقف الأخلاقي هنا . و هو ما يفسر تصرف الطفل عندما يمد يده ليأخذ كعكة من بائع الكعك من تلقاء نفسه مسببا الإحراج لأبويه و هو مشهد رآه معظمنا . فالطفل هنا يتصرف وفقا لغريزته و يحصل على الطعام الذي هو أساس بقائه . و بالتالي كلام سبينوزا عن غريزة البقاء ينفى ما يقوله كانط عن تمتعنا بالأخلاق الفطرية . فهل كان كانط غير مطلع على ما قاله سبينوزا بهذا الشأن ولم يستطيع اخضاع الموضوع لمحاكمة عقلية قبل القول بوجود الأخلاق الفطرية .
لا يكتفي كانط بذلك بل يستنتج من موقفه الأخلاقي و قوله بفطرية الأخلاق فكرة خلود الانسان و ضرورة وجود حياة أخرى بعد الموت . تمتعنا بالأخلاق الفطرية (و هو يقصد تحديدا أخلاق الخير ) يتناقض مع واقع العالم المليء بالشر من قبل الانسان فاين ذهبت الأخلاق الفطرية هنا و أين دورها . اذا لا بد لميزان العدالة ان يستقيم و أن تنتصر اخلاق الفطرة و يكون هناك جزاء و عقاب في النهاية لمرتكبي الشر في العالم . إن لم يكن في هذه الحياة ففي الحياة الأخرى بعد الموت و هو ما يشير لوجود حياة أخرى بعد الموت و انطلاقا من وجود حياة بعد الموت فذلك يعني يعني عدم فناء الانسان بل خلوده بعد الموت في العالم الآخر . و هذا ما يقود كانط لإقامة الدليل على وجود الله فهو المسؤول عن العقاب و الجزاء و هو ما سيحقق العدالة و ينتصر للأخلاق في النهاية .
في الحقيقة من المستبعد أن يقع كانط في مغالطة كهذه و هو صاحب الفكر الحاد و الذي قدمه لها في نقد "العقل المحض" فهل كان له غاية أخرى من طرح فكرة الأخلاق الفطرية ؟ دافع كانط لتقديم هذا الطرح هو موقفه من الدين و رجاله الذين كانوا يحاولون اثبات أمور لاهوتية و من ضمنها وجود الله بمحاكمات عقلية مادية . العقل يدرس الظواهر المادية الموجودة بهذا العامل و الخاضعة لقوانينه و من الخطأ أن نجعل العقل يدرس أمورا غيبية لا تخضع لقوانين العالم المادي و هنا المغالطة الكبيرة التي يقع بها رجال الدين أي ببساطة كانط يريد أن يقول أن العقل و الدين لا يتفقان لكنه لم يصرح بذلك مباشرة بسب طبيعة مجتمعه و الظروف السياسية في بروسيا حينها و التي كانت تميل للوقوف بصف الدين و المؤسسة الدينية بشكل كبير . فاختار تجنب المواجهة المباشرة و لجأ بدلا من ذلك لأسلوب غير مباشر بإثبات وجود الله و الخلود و الحساب في الاخرة انطلاقا من فكرة ضعيفة لا يمكن لها أن تصمد أمام النقد العقلي و هي فكرة وجود الاخلاق الفطرية لدى الانسان و التي استنتج من وجودها خلود الانسان و وجود الله في النهاية . نستطيع القول أنه زود المتدينين بفكرة فلسفية ضعيفة ليستخدموها في الدفاع عن إيمانهم الغيبي في وجه الطروحات الفلسفية القوية الأخرى و التي لا تستطيع فكرة الأخلاق الفطرية أن تصمد امامها . فكانط هنا كمن قام بإعطاء القارئ المتدين سيفا و طلب منه أن يذهب و يقاتل به جيشا من المدرعات و الدبابات و يهزمهم و هو أمر مستحيل بالطبع . و هنا تكمن الحيلة التي لجأ إليها كانط في موضوع الأخلاق الفطرية و الدفاع عنها فبطرحه لهذه الفكرة يكون قد انتصر لموقفه المبدئي بكون العقل و الدين لا يتفقان و بعدم جواز استخدام العقل للبرهان على صحة الدين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو: فكرة وقف دائم لإطلاق النار في قطاع غزة غير مطروحة ق


.. استقبال حجاج بيت الله الحرام في مكة المكرمة




.. أسرى غزة يقتلون في سجون الاحتلال وانتهاكات غير مسبوقة بحقهم


.. سرايا القدس تبث مشاهد لإعداد وتجهيز قذائف صاروخية




.. الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد يترشح لانتخابات الرئ