الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السردية الوطنية لمئوية الدولة العراقية – العراق الملكي 1941 -1958 ثم الحكم الجمهوري (الجزء 2 من 2)

فراس ناجي
باحث و ناشط مدني

(Firas Naji)

2021 / 3 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


تناول الجزء السابق من هذه المقالة نشوء إقليم العراق العثماني وتأسيس الدولة العراقية لحد الغزو البريطاني الثاني في 1941 كجوانب أساسية لسردية وطنية بديلة تهدف لبناء الذاكرة العراقية التاريخية من أجل إعادة التأسيس لهوية وطنية جامعة، إذ يمكن أن يساعد ذلك في العبور من مرحلة التصارع المكوناتي منذ 2003 الى مرحلة التكامل والتعايش السلمي، خاصة مع انبثاق الاحتجاجات الشعبية الشبابية في تشرين الأول 2019. ويكمّل هذا الجزء الثاني والأخير من المقالة جوانب أساسية اخرى لهذه السردية الوطنية البديلة.

العراق الملكي (1941-1958) نضوج الحركة الوطنية في المعارضة

يرى الكثير من المثقفين والباحثين العراقيين والأجانب أن المجتمع العراقي منقسم عمودياً إلى عرب سنة وعرب شيعة وكرد بهويات راسخة وأجندات متنافسة، فلا يمكن تحقيق التوافق بينهم إلا عبر المحاصصة لأحزاب وقوى سياسية تمثل هذه المكونات في العملية السياسية مثلما يجري في العراق منذ 2003. غير أن تاريخ العراق في الاربعينات والخمسينات يشير إلى أن الاختلاط الاجتماعي بين فئات وأطياف المجتمع العراقي والتفاعل بين القوى السياسية وما نتج عن ذلك من تلاقح فكري على مدى الفضاء الوطني العراقي، كل هذا أدّى الى هيمنة هوية وطنية عراقية متحررة من سيطرة القوى الأجنبية ومن تلاعب السلطة الحاكمة على أساس التآخي العربي الكردي والإعتراف المتبادل بالحقوق القومية لكلا الشريكين في الوطن الواحد، ضمن هوية عراقية جامعة لوطن العرب والكرد وباقي القوميات المتآخية تكون فيها السيادة للدولة العراقية الواحدة التي تعمل لصالح جميع أبناء المجتمع المتساوين على أساس المواطنة بحقوقها وواجباتها.

كان العراق بعد الحرب العالمية الثانية يمر في مرحلة تحول اجتماعي واقتصادي وسياسي، ما أدى في النهاية الى الاصطدام بين القوى التي كانت تقود عملية التغيير ضد قوى "الحرس القديم" التي استماتت في التشبث في السلطة ومنع عجلة التغيير من الدوران، فكان انتصار قوى التغيير في 14 تموز 1958 الذي مثل محطة فارقة بين نظامين ورؤيتين متقاطعتين للعراق من الأوجه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. من هنا تتبنى هذه المقالة مفهوم الثورة لعملية التغيير في 14 تموز 1958، لأن الانقلاب العسكري كان فقط أداة التغيير بينما ساهمت قوى التغيير بكل مجاميعها في التحضير للثورة فكرياً وثقافياً وسياسياً، وكذلك شاركت هذه القوى في بناء النظام السياسي البديل بعد انتصار الثورة.

اجتماعياً، شهد العراق تحولات عديدة أهمها الزيادة المطردة في المدارس الحديثة واعداد المتعلمين خاصة في مراكز المدن والاقضية الرئيسية وانخراط أكبر للشيعة والكرد في الفضاء الوطني. كما نشأ وبدأ في النضوج جيل جديد تربى على وعي وطني يتمحور حول التخلص من السيطرة البريطانية ويعدّ النخبة الحاكمة وخاصة نوري السعيد وعبد الاله عملاء لبريطانيا ضد مصالح العراق الوطنية. كذلك انقسم المجتمع العراقي اقتصادياً الى طبقتين رئيسيتين: الأقلية وهم الطبقة المستفيدة من النظام والتي تزداد ثراءً من النخبة الحاكمة ورؤساء العشائر وكبار رأسماليي البلد، والأغلبية من سواد الشعب والذي كان يزداد فقراً والفاقد للخدمات والإمتيازات على الرغم من تطور أجهزة الدولة، وإزدياد الدخل الوطني وزيادة عدد المتعلمين. فقد أدى هذا الانقسام الجيلي والطبقي الى انقسام سياسي حاد وصراع طاحن بين النخبة الحاكمة للنظام الملكي والأحزاب المعارضة اليسارية المتعاطفة مع عامة الشعب مثل الحزب الشيوعي وحزب الشعب والحزب الوطني الديمقراطي، ثم انظّمت الى هذه المعارضة الأحزاب القومية العربية والكردية بسبب قمع النظام الملكي لها، حيث تبنت هذه الأحزاب مبادئ التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية بالإضافة الى مبادئها القومية.

من المهم التأكيد هنا على أن هذا الانقسام السياسي كان افقياً وعابراً للطوائف والقوميات، فلم يكن السنة العرب يمثلون سوى 15% من الإدارة العليا لحزب نوري السعيد (حزب الإتحاد الدستوري) في 1949، بينما كان تمثيل الشيعة العرب 50% والكرد 26%. وكذلك كان الكرد وأقليات المجتمع العراقي ممثلين بصورة كبيرة في الأحزاب اليسارية وخاصة الحزب الشيوعي العراقي، فيما كان الشيعة ممثلين بقوة في قيادة الأحزاب العروبية مثل حزب البعث وحزب الاستقلال.

كان الصدام السياسي بين الطرفين تدريجياً لكن متصاعداً، فكانت احتجاجات عمال السكك في 1945 وكاوورباغي في 1946 وعمال ميناء البصرة والنفط في 1948 و1952 و1953 وكذلك احتجاجات الطلبة في وثبة 1948 وإنتفاضة 1952 والإحتجاج على العدوان الثلاثي على مصر في 1956. ولعل أبلغ توصيف لوضع المجتمع العراقي في تلك الفترة عكسه الإنتاج الثقافي الآتي من رحم هذا المجتمع نفسه كقصيدة الجواهري العصماء "أخي جعفر" التي رثى فيها أخيه طالب الحقوق القادم من دمشق ليُقتل عند مشاركته في واقعة الجسر (والذي سمَي لاحقاً بجسر الشهداء) في وثبة 1948، وفيلم "سعيد أفندي" عن قصة "شجار" لأدمون صبري، من إخراج كاميران حسني وبطولة يوسف العاني الذي أنتج عام 1957 والذي صوّر الحالة البائسة لمتعلمي الطبقة المتضررة في ذلك الوقت.

لقد أدّى الاستقطاب السياسي الحاد الى تقارب أحزاب المعارضة وتعاونها في العمل المشترك من أجل التغيير السياسي وإقصاء النخبة الحاكمة عن السلطة لتنفيذ ولو القاسم المشترك من برامج الأحزاب السياسية المعارضة. ولم يكن هذا بالأمر التلقائي أو من السهولة بمكان بسبب التقاطع الأيديولوجي بين الأحزاب المعارضة، وانما حدث بصورة تدريجية، ونتيجة تأكّد أحزاب المعارضة من انغلاق جميع الطرق الممكنة للتغيير السياسي عبر الوسائل السلمية والديمقراطية.

فقد تعاونت أحزاب المعارضة على الأرض من خلال الاحتجاجات الشعبية المتتالية ثم في تحالف الجبهة الوطنية في إنتخابات 1954، بالإضافة الى التحالف بين حزب الاستقلال والوطني الديمقراطي وبدعم من بقية الأحزاب المعارضة في 1956 لتأسيس حزب المؤتمر الوطني. وأخيراً وبعد هذه المحاولات الحثيثة تأسست جبهة الإتحاد الوطني السرية في آذار 1957 من أحزاب الاستقلال والوطني الديمقراطي والشيوعي والبعث العربي الإشتراكي، إذ استمرت الجبهة حتى ثورة 14 تموز وتم من خلالها تحديد مطالب الجبهة السياسية وتبني السياسات المطلوبة لمعالجة القضايا الداخلية والإقليمية والدولية، كما قامت الجبهة بالتنسيق مع اللجنة العليا للضباط الأحرار في التخطيط والتنفيذ للثورة.

رافق هذا التعاون والعمل المشترك بين الأحزاب السياسية المعارضة عملية تكوين أجندة مشتركة لبرنامج سياسي مضاد لسياسات النخبة الحاكمة يهدف الى كشف أخطاءها أمام الشعب ويعمل على هدم شرعية نظامها السياسي من أجل تغيير ليس فقط سياسات النخبة الحاكمة، بل التغيير الجذري لنظام الحكم ومجتمعه السياسي. فقد تضمنت عملية صيرورة البرنامج المشترك للجبهة تفاعلاً سياسياً وتلاقحاً أيديولوجياً بين الأحزاب والحركات السياسية المعارضة، فقام مثقفو القوى السياسية بدور طليعي في كسب وإقناع الجمهور بالأفكار الساندة للبرنامج المشترك.

وفيما إن البيان التأسيسي لجبهة الاتحاد الوطني لم يتضمن جميع المبادئ الأساسية لبرنامج الجبهة المشترك بل كان مركزاً على مهاجمة حكومة نوري السعيد والخروج من حلف بغداد وإلغاء الاحكام العرفية القمعية في البلاد، إلا أن مبادئ البرنامج المشترك للجبهة تجلّت في برنامج حكومة الثورة وميثاق الجبهة الذي توافقت عليه القوى السياسية بعد نجاح الثورة. فقد تضمنت مبادئ ميثاق الجبهة مفهوم جديد للهوية الوطنية العراقية يرتكز على شراكة العرب والكرد في الوطن العراقي مع إقرار حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية، بالإضافة الى مبادئ للعدالة الاجتماعية مثل الغاء الاقطاع وتطبيق الإصلاح الزراعي وتحسين الخدمات لعموم الشعب، ومبادئ سياسية مثل الابتعاد عن هيمنة الغرب وانتهاج سياسية الحياد الإيجابي وتعزيز الحريات السياسية والحياة الديمقراطية في العراق. وفي هذا السياق ستركز هذه المقالة على صيرورة المفهوم الجديد للهوية الوطنية العراقية الجامعة والتفاعل الفكري والتلاقح الأيديولوجي الذي صاحب ذلك بين القوى السياسية المعارضة لحكم النخبة في العهد الملكي.

لقد حصلت تطورات كبيرة بالنسبة للقضية الكردية في العراق بعد سقوط الحكم الوطني العروبي في 1941، فمن جهة ازداد تفاعل الكرد الاجتماعي والسياسي مع بقية العراقيين خاصة من خلال تصاعد تواجدهم في العاصمة بغداد، ومن جهة أخرى ثار البرزانيون في 1943-1945 وتبع ذلك مساهمة الملا مصطفى البرزاني في تأسيس "جمهورية كردستان الديمقراطية" في مهاباد/ايرن التي سقطت تحت ضربات الجيش الإيراني في 1946. فتم تأسيس الحزب الديمقراطي الكردي (وهو النسخة الأولية للحزب الديمقراطي الكردستاني) في 1946، ودعا في برنامجه الى نظام إتحادي في العراق على أساس الأخوة العربية الكردية والكفاح المشترك ضد الإستعمار وحلفائه المحليين. كما ساهم الحزب الديمقراطي الكردي بقوة في إحتجاجات الوثبة في 1948 واشترك في لجنتها التنسيقية، فيما صدرت في بغداد بعد الوثبة أول مجلة سياسية باللغتين العربية والكردية (نزار) قامت بالترويج لشعار الأخوة العربية الكردية ومفهوم العراق كوطن للقوميتين الرئيسيتين العرب والكرد. غير أن الدور الطليعي لليسار العراقي كان هو العامل الحاسم في انتشار مفهوم الشراكة في الوطن بين العرب والكرد والإعتراف بالحقوق القومية للكرد في العراق عبر التنظير والترويج والدفاع عن هذا المفهوم من خلال نتاجهم الفكري والثقافي.

ويعدّ كتاب عزيز شريف "المسألة الكردية" الذي نشر في 1950 الأكثر تأثيراً وريادةً في الفضاء الثقافي والسياسي في العراق بالنسبة لقضية الحقوق القومية للكرد، إذ دعا فيه الى الإعتراف بحرية تقرير المصير لكرد العراق عبر الاتحاد الاختياري مع العراق لكن مع حرية الإنفصال وتأليف دولة مستقلة. ثم تتابع بعد ذلك توافق بقية الأحزاب العراقية المعارضة كالحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال العروبي على مفهوم الشراكة في الوطن مع الكرد والاعتراف بالحقوق القومية الكردية، فيما صاحب ذلك تحول في مواقف الأحزاب اليسارية باتجاه الإعتراف بالعراق كجزء من الامة العربية التي تسعى الى وحدتها القومية.

وهكذا أصبح مفهوم الهوية الوطنية العراقية موضوعاً فارقا بين رؤيتين: الرؤية الرسمية للنظام السياسي الملكي الذي فرضته بريطانيا على العراق بهويته العربية وعدّ الكرد كأحد الأقليات، مقابل رؤية حركة المعارضة السياسية للنظام الملكي والتي تبنت الشراكة في الوطن بين العرب والكرد والاعتراف بالحقوق القومية لكلا الشعبين. ولعل أبلغ دلالة على هذا الانقسام هو تبني حزب المؤتمر الوطني – وهو حزب موحّد يضم حزب الاستقلال العروبي والوطني الديمقراطي اليساري – لمفهوم شراكة العرب والكرد في الوطن، في حين إن وزير داخلية حكومة نوري السعيد الذي منع تأسيس هذا الحزب على أساس تبنيه لهذا المفهوم كان كردياً وهو سعيد القزاز.

لقد كانت عملية تأسيس جبهة الاتحاد الوطني وصيرورة برنامجها السياسي المشترك بمثابة بناء الكتلة التاريخية – حسب تعبير المفكر الإيطالي الماركسي غرامشي – المضادة لنظام الحكم الملكي الآيل الى السقوط والتي كسبت الى جانبها جمهوراً عريضاً من المجتمع، وبضمنهم تنظيم الضباط الاحرار في الجيش العراقي، وذلك عبر هيمنتها الثقافية على الفضاء الوطني المعارض. فما أن سقط النظام الملكي في ثورة 14 تموز التي بادر اليها تنظيم الضباط الاحرار وساندتها جبهة الاتحاد الوطني، حتى تمثلت أحزاب الجبهة كأغلبية في الحكومة العراقية للجمهورية الفتية، بينما لم يتمثل في هذه الحكومة سوى ثلاثة عسكريين (ولو بأعلى المناصب القيادية). وكذلك تبنت سياسيات النظام الجمهوري الجديد البرنامج المشترك للأحزاب الوطنية المعارضة للنظام الملكي والتي أصبحت مهيمنة ثقافياً على كل من الدولة والمجتمع المدني بعد الثورة وبمن فيهم البعثيون، حيث نوّه سعدون حمادي في مقاله الافتتاحي في جريدة الجمهورية البعثية في أيلول 1958 إلى أن حركة القومية العربية تسعى الى تدعيم الإخوة العربية الكردية وأن يكون الكرد "شركاء بالفعل لا بالإسم وبالحقيقة لا باللفظ".

وعلى الرغم من أن الريف العراقي كان لا يزال متأخراً نسبة الى المدن، مع عدم نضج الثقافة السياسية لعموم المجتمع وخاصة بالنسبة الى العملية الديمقراطية، وبقاء تأثير سلطة الدين والعشيرة على جمهور غير قليل في المجتمع العراقي، إلا أن النظام العام للمجتمع العراقي كان قد انجز في تموز 1958 محطة مهمة في عملية التحول نحو المجتمع الحديث، حيث سيادة الوعي الوطني وتطور الوعي السياسي على أساس الرؤى السياسية وهيمنة ثقافية لهوية وطنية جامعة على مجمل الأرض العراقية وبرنامج وطني للعدالة الاجتماعية والتحرر الوطني ضد الهيمنة الغربية.

العراق الجمهوري، رؤية وطنية مهيمنة لكن بشرعية قاصرة

لا نحتاج الى الدخول في تفاصيل الأحداث المعروفة حول تصاعد الصراع بعد أيام قلائل من انتصار الثورة ما بين القوى السياسية المؤلفة لجبهة الاتحاد الوطني وكذلك ما بين الضباط الاحرار أنفسهم، بحيث استمر هذا الصراع المحتدم وتبادل السيطرة على السلطة طوال العقدين الأولين بعد الثورة، لينتهي الى الحكم الفردي بعد 1979 وبالتالي الى تأسيس نظام المحاصصة المكوناتي الحالي على يد الغزو الأمريكي في 2003.

لكن ما ينبغي أن نتناوله هنا هو تقييم ما انجزته عملية التغيير نحو النظام الجمهوري وهل كان لهذا النظام مقومات النجاح أم كان محكوماً بالفشل لخلل بنيوي فيه كما فشل النظام السياسي الملكي الذي فرضته بريطانيا عند تأسيس الدولة العراقية؟

كان الدعم الشعبي الواسع للنظام الجمهوري واضحاً في صبيحة يوم الثورة على عكس التخلي عن النظام السابق حتى من قبل حرسه الملكي، حيث يمكن اعتبار ذلك من أهم مقومات النجاح للنظام الجديد والذي وفرته له أحزاب جبهة الاتحاد الوطني. كذلك لم يختطف الضباط الانقلابيون الثورة مثلما فعل مرادفيهم في مصر عبر تأسيس مجلس عسكري لقيادة الثورة كأعلى سلطة في النظام الجديد، بل أبقت ثورة تموز على هيكلية حكومية ضمن الدولة العراقية تتألف من مجلس الوزراء بصلاحيات تشريعية وتنفيذية ومجلس الحكم للمصادقة على التشريعات الجديدة. وعلى الرغم من تركز السلطة في يد رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة (عبد الكريم قاسم)، فقد كانت الأغلبية العظمى لمجلس الوزراء من السياسيين أو التكنوقراط والمرتبطين بقوة بأحزاب الجبهة، خاصة في الأشهر الأولى من العهد الجديد.

هناك دلائل عديدة على أن دعم أحزاب جبهة الاتحاد الوطني للعهد الجمهوري الناشئ وبرنامجه الوطني - الذي كان يستند على برنامج الجبهة نفسها - لم يكن انتهازياً أو ظرفياً، بل كان مبدئياً ويمثل الرؤية السياسية التي هيمنت على معظم العهد الجمهوري وخاصة العقدين الاولين منه. فجميع أحزاب الجبهة كالحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب البعث والحزب الديمقراطي الكردستاني كانت قد تبنت ميثاق الجبهة في آب 1958 الذي تضمن أن العراق جزء من الأمة العربية التي تسعى للوحدة القومية، والشراكة العربية-الكردية في الوطن والاقرار بالحقوق القومية لكرد العراق، بالإضافة الى المبادئ الأخرى في البرنامج الوطني الذي سارت عليه حكومة الثورة.

لقد أكّد الشيوعيون عبر عامر عبد الله – أحد قيادييهم في ذلك الوقت – أن مسيرة الدول العربية نحو الوحدة هي حركة تاريخية ناشئة من "وجود الخصائص القومية الأصيلة للأمة الواحدة"، وأن قضية توحيد الأمة العربية ليست حكراً لأيديولوجية أو حزب معين بل هي "حركة كل الطبقات والفئات والأحزاب في الوطن العربي الكبير". ومن اللافت أن ذلك كان بعد تصاعد النزاع بين الشيوعيين والعروبيين حول الاتحاد الفوري مع الجمهورية العربية المتحدة وتحوله الى أزمة سياسية عميقة بعد الحكم بالإعدام على عبد السلام عارف في شباط 1959. وفي نفس الوقت لم يكن جميع العروبيين مساندين لفكرة الاتحاد الفوري مع العربية المتحدة التي تبناها حزب البعث بقوة، فكتب عبد الرحمن البزاز يدافع عن فكرة الاتحاد الفيدرالي العربي وليس الوحدة الاندماجية الكاملة.

أما القوميون الكرد، فقد شددوا على "عدم وجود أي تيار إنفصالي في صفوف الحركة القومية الكردية بقدر ما يتعلق الأمر بعراقنا العزيز"، وإن الإنفصال عن العراق "حركة إجرامية" تهدد بأشد العواقب المصالح الحقيقية للشعبين الكردي والعربي وأهدافهما المشتركة في التحرر والانعتاق. كذلك لم يكونوا معارضين لفكرة الوحدة مع العربية المتحدة بصورة مبدئية، بل اقترحوا أن تكون كردستان العراق عضواً فيدرالياً في أي وحدة اندماجية أو تتمتع بالحكم الذاتي إذا كان الاتحاد فيدرالياً.

لقد تأكد هذا الاجماع المبدئي بين القوى السياسية للجبهة حول البرنامج الوطني الجمهوري حتى بعد سقوط الجمهورية الأولى وتولي العروبيين زمام السلطة في الجمهوريات التالية. فقد أعلن علي صالح السعدي – زعيم حزب البعث ووزير الداخلية بعد انقلاب شباط 1963 – أن هناك علاقة تاريخية طويلة "للشعب العراقي المؤلف من العرب والأكراد"، وأشار إلى أنه "لا يمكن إلا أن نؤمن بحرية تقرير المصير الذي يعطي الحق لكل شعب مستكمل شروطه القومية أن يوحد ذاته". ودخل جلال طالباني كممثل للكرد في الوفد العراقي للمفاوضات حول مشروع الوحدة الثلاثية مع مصر وسوريا في نيسان 1963.

لقد اعترفت جميع الدساتير العراقية المؤقتة للجمهورية العراقية بالحقوق القومية لكرد العراق ضمن الوحدة العراقية، فيما أصدر نظام البعث في 1970 بيان آذار الذي عدّ عيد النوروز عيداً وطنياً، وجعل اللغة الكردية لغة التعليم ولغة رسمية مع اللغة العربية في المناطق الكردية، واتخاذ الإجراءات اللازمة لتطبيق الحكم الذاتي فيها.

وعلى الرغم من الحملات العسكرية لقمع التمردات المتلاحقة للقوميين الكرد منذ 1961 وعدم جدية اجراءات الحكومات الجمهورية المتعاقبة في تلبية استحقاقات الكرد القومية، وفي نفس الوقت عدم الجدية في السعي للوحدة العربية، إلا أن هذا الاجماع المبدئي لقوى الجبهة على مفهوم الشراكة في الوطن وأحقية استحقاقات الكرد والعرب القومية كان يمثل ثقافة مهيمنة بالمفهوم الغرامشي (نسبة الى المفكر الإيطالي الماركسي غرامشي) في الفضاء الوطني العراقي بحيث لم يستطع أي من هذه القوى التجاوز عليه. ولم يقتصر هذا الاجماع السياسي المبدئي على موضوع الشراكة في الوطن بين الكرد والعرب بل تعداه أيضاً الى موضوعات تعزيز بناء الدولة والإصلاح الزراعي والتحول نحو الاشتراكية وحقوق المرأة وسياسة التحرر الوطني والحياد الإيجابي، حيث تبين ذلك في فترات التقارب بين هذه القوى في الجبهة الوطنية والقومية التقدمية 1973 -1978.

لم يكن الخلاف (الدامي) بين قوى جبهة الاتحاد الوطني المساندة للنظام الجمهوري العراقي مبدئياً أو أيديولوجياً كما يحاجج البعض، بل كان صراعاً سياسياً حزبياً وفئوياً على الزعامة واحتكار السلطة من قبل قوى سياسية إدعّت إمتلاكها للشرعية الثورية وحق الوصاية على النظام. فقد نصّب عبد الكريم قاسم نفسه كرئيس وزراء الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة عبر انقلاب عسكري وظل يحكم في ظل الاحكام العرفية، كذلك نصّب جميع قادة الحكم الجمهوري بعده لغاية 2003 أنفسهم كرؤساء لمجلس قيادة الثورة – وهو مؤسسة مغلقة وغير شرعية – عبر انقلابات عسكرية أو بالتخلص من منافسيهم ضمن المجموعة الحاكمة.

وعلى الرغم من الاستقطاب السياسي والانقسام المجتمعي في تلك الفترة، إلا أن الانقسام العمودي القومي أو الطائفي في المجتمع العراقي كان قد انحسر الى الهامش بعد تأسيس الجمهورية بدلالة أن الأحزاب المؤثرة في العملية السياسية كانت عابرة للقومية والدين والطائفة، بينما كانت الحركات الدينية أو الطائفية – مثل الحزب الإسلامي (الاخوان المسلمين) وحزب الدعوة الإسلامية اللذان تأسسا في نفس تلك الفترة – لها تأثير هامشي على المجتمع وأثر ضعيف على الخطاب الوطني.

لكن السقوط الصادم للقومية العربية في حرب 1967 وصعود تأثير الدين إقليمياً عبر الثورة الإيرانية في 1979 وحركة الجهاد في أفغانستان، وكذلك تزايد القمع السياسي وتراجع سلطة الدولة وتدهور المجتمع المدني في فترة الحرب العراقية الإيرانية، كل هذا أدى إلى تصاعد التأثير الديني والطائفي في المجتمع العراقي وهبوط تأثير القوى السياسية العلمانية. لقد اضطر نظام صدام حسين – الذي كان قد بدأ في التخلي عن خطابه العروبي العلماني منذ عقد الثمانينات – إلى مسايرة صعود المد الديني في أنحاء العراق من خلال حملته الايمانية لاحتواء هذا المد عبر دمج المؤسسات الدينية بمؤسسات نظامه الاستبدادية ومن ثم الاستحواذ على شرعيتها المقبولة عند المجتمع.

غير أن هذه الإجراءات والمنظومات تدمرت بفعل الحرب في 2003 ما مكّن القوى والحركات الدينية الشيعية والسنية الفاعلة على الأرض أن تملأ هذا الفراغ، ليتصدر الدين والطائفة الخطاب الوطني العراقي بعد 2003، خاصة مع ترسخ نظام المحاصصة المكوناتي الذي أسسه الاحتلال الأمريكي بعد سقوط نظام صدام حسين.

خاتمة

تمثل هذه السردية الوطنية البديلة حكاية المسيرة التاريخية للعراقيين الذين يحملون الإرث الغني لبلاد وادي الرافدين باتجاه الدخول في العصر الحديث وتأسيس دولتهم المعاصرة وبناء مجتمعهم التعددي وبالتالي تحقيق الاستقرار المنشود للتنمية والازدهار. وقد أظهرت هذه المقالة – بأجزائها الأربعة- أن العراق هو وطن متكون بالفعل لشعب عريق متعدد ومتعايش، وذلك عبر التركيز على الإنتاج الثقافي للمجتمع العراقي والقوى الفاعلة في هذا المجتمع، عوضاً عن التناول التقليدي لتاريخ الدولة العراقية الذي غالباً ما يغفل القوى المجتمعية ويركز على تأثير القوى الخارجية والزعماء المستبدين.

يمكن استشفاف ثلاث ثيمات رئيسية في هذه السردية:

أولاً، إن إقليم العراق العثماني كان قد مثّل العمق الجغرافي والتاريخي لمفهوم العراق الحديث الذي شكّل الأساس للدولة العراقية، بحيث كان لتطور الوعي السياسي والوطني للعراقيين قبل الاحتلال البريطاني أثره الكبير في تسارع تحديث المجتمع ونضوج مؤسسات الدولة العراقية بعد تأسيسها.

وثانيا،ً إن الشعب العراقي مجبول على مواصلة التحرر الوطني من الغزاة وسيطرة القوى الخارجية، حيث كان ذلك عبر حركة الجهاد في 1914 وثورة العشرين ثم انهاء الانتداب البريطاني، فمقاومة الغزو البريطاني الثاني، ثم الى سلسلة الاحتجاجات الشعبية بعد الحرب العالمية الثانية حتى أنجزت ثورة 14 تموز هذا الاستحقاق الوطني في 1958. فيما أدّى التصارع على السلطة والحكم الفردي الى تقويض سيادة الدولة العراقية وما نشهده اليوم من تداعيات.

وثالثاً، إن ثقافة التعايش متأصلة في المجتمع العراقي ما دفع بقواه المجتمعية الى محاولة تأسيس نظام سياسي مبني على أساس الشراكة في الوطن كبديل عن النظام الأحادي الذي فرضه المستعمر البريطاني عند تأسيس الدولة العراقية، وذلك عبر توافق القوى الفاعلة في المجتمع العراقي على تطوير رؤية سياسية مشتركة ثم تحويل هذه الرؤية الى وعي جمعي للجماهير العريضة في المجتمع من خلال العمل الثقافي والفكري. لقد أنجزت الحقبة الجمهورية خلال عقديها الأولين عبر هذه الرؤية السياسية المشتركة دولة مؤسساتية ذات سيادة وجيش قوي، قادرة على فرض القانون وتطوير الخدمات لمجتمعها وحماية استقلالها. غير أن القصور في شرعية المجتمع السياسي للنظام الجمهوري بعد ثورة تموز 1958 واستمرار احتكار السلطة من قبل حزب البعث ممثلاً بمجلس قيادة الثورة مع قمع المعارضين، أدّى الى ما نعرفه من المآسي والكوارث التي دفع ثمنها العراقيين جميعاً.

ومن الدروس المهمة التي يمكن استخلاصها من هذه السردية لدعم عملية التغيير السياسي التي تتولاها حالياً ثورة تشرين هو بناء برنامج وطني مشترك يستند على التفاعل الفكري والثقافي فيما بين القوى الوطنية الداعمة للثورة، وكذلك إصلاح المجتمع السياسي للدولة لتمثيل قوى المجتمع الفاعلة الحقيقية والحريصة على النهوض بالوطن بدلاً من أحزاب الفساد والعمالة للأجنبي المسيطرة حالياً على التمثيل البرلماني.

إن هذه السردية الوطنية هي إحدى الحكايات الجماعية للعراقيين والتي تحتاج الى مدّها بالتفاصيل وتطعيمها بكتابة الحكايات الشخصية المكملة لها وإضافة أبعاد ملحمية وحتى أسطورية اليها لتشكل ذاكرة جمعية للأجيال القادمة عن الشعب العراقي التعددي والأصيل. وهنا نستذكر كلمات الشاعر الكبير محمود درويش "من يكتب حكايته يرث أرض الكلام، ويملك المعنى تماماً"، حيث يمكن أن ندرك دورنا كمجتمع ثقافي بمفكريه وأدبائه وباحثيه في بناء رؤيتنا الوطنية لتعزيز الروابط بين مجتمعنا ووحدتنا الوطنية وانتماءنا الى أرضنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما الذي تستهدفه الطائرات الحربية الإسرائيلية في ضاحية بيروت


.. مسيرة بمدينة نيويورك الأمريكية في ذكرى مرور عام على حرب إسرا




.. مشاهد تظهر حركة نزوح واسعة من مخيم -صبرا وشاتيلا- بعد الغارا


.. مشاهد توثق موجة نزوح كثيفة من مخيم صبرا وشاتيلا بعد الغارات




.. سقوط أكثر من 25 غارة إسرائيلية ليلية على الضاحية الجنوبية لب