الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في رثاء الراحلة نوال السعداوي

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)

2021 / 4 / 1
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات


قد يكون أكثر ما يُعَرِّفُ الراحلة المجتهدة نوال السعداوي في مخيلة القارئ العربي على امتداد رحلتها الاجتهادية الطويلة هو تحولها إلى ما قد يشبه النافذة الأولى التي أطل منها العرب على أوليات العلم المستحدث والمنشق في زمن ليس ببعيد عن الفلسفة، وأعني هنا دراسة خبايا النفس البشرية وآليات عملها سواء تم ذلك تحت مظلة ما يدعى بعلم النفس أو علم السلوك أو فيزيولوجيا الجهاز العصبي Neurophysiology.
وكتابات الراحلة نوال السعداوي مثلت ما يشبه حجر الزاوية في تكشف القارئ العربي منذ كتاباتها المبكرة لنموذج معرفي واستقرائي جديد في فهم النفس الإنسانية يغاير ويتفارق عن المفاهيم السائدة والموروثة من عصور سابقة يُغْرِقُ معظمها في أخاديد البدائية القروسطية بأشكالها القبلية والدينية، بالتوازي مع ارتقائها عن المفاهيم الرائجة منذ منتصف القرن العشرين في العالم العربي لاستيراد «مبالغات وشطحات» سيغموند فرويد التي لا أساس علمياً لها من الناحية التشريحية أو الوظيفية بحسب اكتشافات علم الأعصاب المعاصر؛ حيث كانت الراحلة المجتهدة نوال السعداوي أول من أسهم في تعريف القارئ العربي على رؤى وتصورات «إريك فروم» و«فلهم رايخ» التي كانت أكثر واقعية وإنسانية و منهجية في مقاربتها وتصوراتها لآليات عمل النفس الإنسانية بشكل يبعدها عن نموذج «الحيوان الجنسي البربري المتوحش» الذي حكم تصور فرويد عن الكائن البشري عموماً.
وقد يكون أحد أهم إسهامات الراحلة نوال السعداوي الفكرية تعريف القارئ العربي بمنظومة «آليات الدفاع النفسي» بشكل علمي وممنهج يمكن فيه للإنسان امتلاك مفاتيح التفاعل والتآثر الفاعل المنعتق من حياض الإنسان المنفعل السلبي الذي لا حول له ولا قوة في فهم ما يعتمل في عقله ووجدانه، و ذلك عبر الاتكاء على أدوات ومفاتيح الدفاع النفسي وخاصة ما ركزت عليه برهافة رفيعة فيما يتعلق بقدرات «التصعيد» كبديل عن فعل «الكبت» لتحويل معاناة المقهورات والمقهورين والمظلومات والمظلومين إلى طاقة «بناءة» بدل تحولها إلى طاقة «هدامة» تأكل الإنسان من داخله وجدانياً وعقلياً وعاطفياً. وبمعنى أكثر تبسيطاً كانت الراحلة تقدم تفسيراً علمياً ممنهجاً لوعي «الصبر والمصابرة والاجتهاد والكفاح» الذي يمثل أداة بني البشر الوحيدة في الدفاع عن حقهم الطبيعي في الحياة وحق من يخلفهم فيها من بعدهم من ذريتهم.
ومن ناحية أخرى فقد يستقيم القول بأن الراحلة نوال السعداوي مثلت نموذجاً ناصعاً عن المثقف العضوي الملتزم بالدفاع عن الفئات المستضعفة المظلومة المقهورة في المجتمع الذي يعيش في كنفه، وهو ما تجلى في دفاعها الاستثنائي في شجاعته ووضوحه وتبئيره عن المرأة التي تكالبت عليها كل حبائل المجتمعات الذكورية القروسطية، وعسف الإفقار والتهميش والقمع الذي مارسته نظم الاستبداد العربية على كل من تغولت على حيواتهم رجالاً ونساء، على الرغم من أن الحيف كان أصعب وأمرَّ على النساء لمعاناتهم المزدوجة من ظلم وقهر الاستبداد، ومفاعيل التخلف والبدائية الهمجية الموروثة من عصور مظلمة غابرة في صيرورة المجتمعات العربية.
وهي أيضاً الراحلة نوال السعداوي نموذج فريد في الحفاظ على «طهرانيتها المعرفية» كمثقفة عضوية مجتهدة بحسب تصور أنطونيو غرامشي لذلك النموذج من المثقفين، وذلك بالحرص الذي لا تغاير فيه لعدم التحول إلى «مثقف طَبَّالً» يمالئ وسائل الإعلام لضمان استمرار تسليط أضوائها وعدسات كاميراتها عليه لمعرفتها المسبقة بأن ذلك «المثقف الطبال» مستعد دائماً لقول ما تريده وسائل الإعلام منه قوله في «اتفاق خسيس مضمر بين الطرفين» لا يجاهر به أي منهما، ولا ينتج عنه إلا تمترس وتوطد لهيمنة الأقوياء المهيمنين على مفاصل الإعلام والثروة والسلطة في المجتمع على حساب كل الفئات المستضعفة و المفقرة المنهوبة فيه.
وفي حقل عملها الطبي كانت الراحلة نوال السعداوي نموذجاً ناصعاً للطبيب «الحكيم» الذي لا بد أن يبذل كل عصارة عقله ومعرفته وطاقاته الجسدية لخدمة مريضه وتخفيف آلامه ومعاناته، دون «الاستسهال المخزي» الذي يمارسه بعض أفراد الجسد الطبي بغض النظر عن الحقائق المرة التي تشير بشكل يفقأ العين إلى أن الكثير من الاعتلالات الجسدية والنفسية في أبدان المرضى في المجتمع هي ناتج مباشر لعوار في آلية عمل المجتمع وعلائق الأمور فيه، و هو ما لا بد للطبيب «الحقِّ» من الإشارة إليه بالبنان المشرئب دون مواربة أو مخاتلة أو تلط وراء الأستار الخلبية والتبريرات التلفيقية لتسويغ تقصيره في «الدفاع المقدس» عن صحة مرضاه، وحقهم الطبيعي في حياة صحية وكريمة.
ويحق لكل عاقل حصيف أن يتفق أو يختلف مع الإرث الاجتهادي والمعرفي الذي تركته الراحلة نوال السعداوي، ولكن ذلك لا يعفيه أبداً من واجب العرفان لدأبها المعرفي، وثباتها على الحق البين وفق منظارها الاجتهادي الفكري والعلمي، وعدم تبدلها عن مواقفها المبدئية في الانزياح الدائم للدفاع عن الفئات المستضعفة المظلومة المقهورة المهمشة في المجتمع، وهو ما قد يستقيم اعتباره ميزان القياس الأول لفرز المثقف المجتهد الحق عن غيره في حياته العابرة أو بعد رحيله عنها.
والعزاء لعائلة الراحلة نوال السعداوي وكل محبيها وقرائها الذين «أدمنوا» متابعة نتاجها الثري على امتداد عقود طويلة، هو أن كينونة نوال السعداوي وليدة المجتمع المصري العظيم الذي ما برح المستبدون ينكلون به بأشكال وتلاوين مختلفة ومتباينة في حدتها على امتداد ما يقارب سبعة آلاف من السنين، دون أن يجهض ذلك قدرة «مصر الوَلَّادة» باستعارة من الشاعر المناضل الراحل أحمد فؤاد نجم من إنجاب سيدات مناضلات مجتهدات صابرات مصابرات مثل نوال السعداوي التي لا بد أنها رحلت وهي تستبشر بمن سوف يأتي من بعدها من بنات وأبناء مجتمعها ليستلم من يدها الذاوية راية الاجتهاد العلمي والمعرفي، ويبني على إرثها التاريخي ويطوره ويعيد إنتاجه بصورة أكثر نضجاً وحداثة بشكل يثبت للأجيال القادمة بأن المجتمعات الحية ترفض الاندثار ما دام فيها مجتهدون من نموذج الراحلة نوال السعداوي.

*****

للاستماع إلى التسجيل الصوتي لمداخلة مصعب قاسم عزاوي يمكن مراجعة الرابط التالي على موقع دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع في لندن:

https://ar.academy.house








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رواية النصف الحي


.. زواج القاصرات كابوس يلاحق النساء والفتيات




.. خيرات فصل الربيع تخفف من معاناة نساء كوباني


.. ناشطة حقوقية العمل على تغيير العقليات والسياسات بات ضرورة مل




.. أول مسابقة ملكة جمال في العالم لنساء الذكاء الاصطناعي