الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمد عابد الجابري، المحنة والنكبة بداية أزمة المثقف العربي

ربيع العايب
كاتب وباحث

(Rabie Laib)

2021 / 4 / 4
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يعد المفكر المغربي "محمد عابد الجابري"، أحد أبرز المفكرين العرب، الذين بحثوا في مشكلة الثقافة والمثقفين في الوطن العربي والإسلامي، فكانت له عدة كتب في هذا المجال من بينها: "المثقفون في الحضارة العربية محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد"، "المسألة الثقافية"، "التراث والحداثة"...، يتجسد لنا تصور "الجابري" عن أزمة المثقفين العرب، في كتابه: "المثقفون في الحضارة العربية محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد"، إذ يتساءل في مطلع الكتاب، عن مفهوم المثقف فيلحظ عدم وجود مرجعية لهذا المفهوم في الثقافة العربية، ومن ثمة يحاول بناء تلك المرجعية عن طريق التأصيل الثقافي للمفاهيم الحديثة. بعد ذلك يحيل الجابري القارئ، إلى المثقفين في القرون الوسطى الأوروبية، وكذا سلطة العلم العربي في أوروبا، وظهور المثقفين في الإسلام، ثم ينتهي إلى نتيجة وهي ضرورة إعادة كتابة التاريخ العربي، لهذا أورد الجابري السؤال الآتي: هل يصح أن نطلق اسم المثقف على منتجي الأفكار في عصورنا الوسطى؟ إذا ما عرفنا الملابسات النظرية و التاريخية، التي رافقت تشكل التسمية في تاريخ الغرب؟" (اللطيف، 1999، صفحة 143) فكان الجواب أن مصطلح المثقف مصطلح غربي الأصل، أُدرج في الثقافة العربية، للتعبير عن العاملين في ميدان الفكر و الثقافة من النخب العربية.
فضلا عن ذلك، توصل "الجابري" بعد مراجعة تاريخ العرب والمسلمين، إلى تحديد خصائص وصفات المثقف في العصر الإسلامي الوسيط من فلاسفة الإسلام الذين عرفتهم الحضارة العربية الإسلامية، وفق السمات التالية: "المثقف يعمل بفكره، وهو ينتمي إلى الخاصة، كما ينتمي إلى الوسط الحضاري، مرجعيته المركزية تتحدد في العقيدة، يفكر من خلالها، ويحتمي بها، إضافة إلى كل ذلك، يستطيع تحويل العقيدة إلى رأي. إنه في نهاية التحليل، يمارس العمل السياسي، والعمل الفكري، بتوسط العقيدة" (اللطيف، 1999، صفحة 145). فحوى هذا أن المثقفين في العصر الإسلامي الوسيط، الذين يمثلون صفوة المجتمع ونخبته، وخاصة الناس، يتشكل غالبيتهم من الحضر أو المدينة، وفكرهم يستمد مرجعيته من العقيدة الدينية، فهي بالنسبة إليهم المنفذ الذي ينفذون من خلاله إلى مشكلات و قضايا مجتمعهم ومختلف السلوكيات التي تطبعها. إذاك أضحت هي منطلقهم في التفكير، ومصدر آرائهم السياسية والفكرية والأدبية فشمل البحث شرائح مختلفة من الكتاب والفلاسفة والشعراء والنقاد والمؤرخين والمفسرين والأصوليين والمتصوفة، كابن المقفع وابن رشد وابن الهيثم وابن حنبل والغزالي وابن عربي والمتنبي والجاحظ...وغيرهم.
يرى الجابري أن المثقف لابد أن يظهر نتيجة خلاف، سواء أكان خلاف ديني أو سياسي أو فلسفي. وهو يمكن ما يسميه “متكلماً” أي ذا رأي، لذلك يستعرض الجابري الخلافات الكبرى في الحضارة العربية الإسلامية، التي أفرزت فيما بعد مثقفين، كالخلاف في كقضية مقتل عثمان، والإمامة، وقضية الجَبْر، وقضية الإيمان زيادته أو نقصانه، قضية خلق القرآن، وتكفير مرتكب الكبيرة...وغيره، بناء عليه، يرى "الجابري" أنه يمكننا تسمية كل من "أحمد بن حنبل"، و"ابن رشد" بالمثقفيّنِ. وما يستوقفنا هنا، هو ما تعرض له الرجلان من ظلم واضطهاد، من قبل السلطة الدينية أو السلطة السياسية، اللتان خلقتا أزمة جعلت التاريخ الإسلامي ينطوي على محنة فكرية وثقافية عصفت بأدوار أولئك المثقفين، "فمحنة الفقيه أحمد ابن حنبل، والنكبة التي تعرض لها الفيلسوف ابن رشد، تطرحان معا إشكاليات هامة في تاريخ الفكر الإسلامي...،هي إشكالية الدين والسياسة" (اللطيف، 1999، صفحة 148)، من ذاك يستعرض الجابري محنة الإمام ابن حنبل وقضية خلق القرآن، ويحللها بمنهجية واستقصاء علمي محاولاً كشف اللغز عن ظهور هذه المحنة، فيستنتج بالشواهد التاريخية والتحليل المنطقي أنها لم تكن قضية دينية، بل سياسية كذلك، وبالنسبة لقضية ابن رشد وخلافه مع "أبي يعقوب المنصور"، حاول الجابري كشف السر الذي أدى إلى هذا الخلاف، مبيناً أنه أيضًا لم يكن دينياً، بل سياسياً. هكذا إذن، نلفت النظر إلى أن أزمة المثقفين العرب حسب" الجابري"، ترجع إلى العصر الوسيط، إذ يشكل جدل الديني والسياسي، أحد أبرز الأسباب والعوائق الكبرى، لما عاناه مثقفو تلك الحقبة من ظلم واضطهاد، فقد أُحرقت كتبهم، وكُممت أفواههم و صُودرت حريتهم.
أما حاضرا، يرتبط مفهوم المثقف بالثقافة، فهو من يفكر في إطار ثقافة معينة، وهذا الإطار هو الذي يحدد جنسيته الثقافية، يقول "الجابري": "هناك في العصر الحاضر قاعدة عرفية، تتحدد بموجبها الجنسية الثقافية لكل مثقف، هذه القاعدة تقتضي بأن المثقف لا ينسب إلى ثقافة معينة، إلا إذا كان يفكر داخلها، والتفكير داخل ثقافة معينة، لا يعني التفكير في قضاياها، بل التفكير بواسطتها" (عرار، 2016) وعلى هذا الأساس، فإنه إذا صادفت المثقف مشكلة ما، أعاقته عن تأدية دوره، فإن الخلل كامن فيه وسبب ذلك، المنظومة الثقافية التي يستلهم منها فكره فينظر من خلالها، وجلي بالذكر أن "الجابري" نظر إلى أزمة المثقف العربي، من منظار مشكلة الأصالة والحداثة، فأعتبر أن المشكلة، تبدأ من وعي المثقف بالانشطار الذي يعيشه داخل نفسه، نتيجة تصادم سلطتين مرجعيتين في فكره، هذه الازدواجية من شأنها، أن تخلق حالة من التوتر والاضطراب الفكري داخل المثقف، وما يؤكد هذا في نظر "الجابري"، أن المثقف ثقافة عربية محضة والمثقف ثقافة أروبية خالصة، لا يشعر أي منهما بهذه الإشكالية، أو على الأقل لا تقلقهما، بحجم القلق الذي يعاني منه المثقف مزدوج الثقافة (الجابري، 1984، صفحة 56). ويُعبر "الجابري" عن هذه الحالة بعبارة "تداخل الأزمنة الثقافية" في فكر المثقف العربي، وهذا التداخل على صعيدين، احدهما معرفي والآخر إيديولوجي، فعلى صعيد الأول، ما زال مثقفُنا منذ العصر الأموي، يستهلك معارف قديمة من التراث، ويتداولها على أنها جديدة، أيا كان مصدرها، سواء كان عربيا أو غربيا، أما على الصعيد الإيديولوجي فمازال يعيش صراعا داخليا – في فكره – بين ماضيه وحاضره (الجابري، تكوين العقل العربي، 1985، صفحة 45). وقد أدى تداخل الأزمنة الثقافية في فكر المثقف العربي حسب "الجابري"، إلى بروز ظاهرة مقلقة في الفكر العربي المعاصر، هي القفز على صعيد المواقف حول القضايا الرئيسية في الفكر العربي، إذ نجد أن المثقفين يهْجُرون أو يرْحَلون باستمرار، من مواقفهم إزاء قضايا عديدة كقضية: "الوحدة"، "الاشتراكية"، "الديمقراطية"، "الإسلام"، "العروبة"، " العلمانية"، ولا نجدهم يرسون على مواقف واحدة وهذه الظاهرة سماها "الجابري" « ظاهرة المثقفين الرحـــل» (الجابري، الديموقراطية وحقوق الانسان، 1997، صفحة 40)، نأخذ مثالا في سياق توضيح المفهوم نستدل من خلاله على كيفية تداول مفهوم "الديمقراطية" في أوساط النخب العربية المثقفة، حيث يتحدد هذا المفهوم كغيره من المفاهيم النهضوية في الفكر العربي الحديث والمعاصر، انطلاقا من منظومتين مرجعيتين: المرجعية التراثية والمرجعية النهضوية، الفئة الأولى أو من يُـطلق عليهم بالسلفيين، بحثوا في التراث الإسلامي القديم، عمّا يوازي الديمقراطية وأصبحت بذلك تعني الشورى، و يمثل هذه الفئة النخبة التقليدية، أما الفئة الثانية ففهمت الديمقراطية على أنها ذلك التطور الذي وصلت إليه أوروبا من خلال النضال من أجلها –الديمقراطية- أكثر من ثلاث قرون، و يمثل هذه الفئة النخبة العصرية (الجابري، تكوين العقل العربي، 1985، صفحة 45).
من هنا، يرى "الجابري" أن المفاهيم المتداولة في الفكر العربي المعاصر، ليست ثابتة على معنى واحد، وإنما هي خاضعة لإيديولوجيات النخب المثقفة في العالم العربي، فكل نخبة تحاول صياغة المفاهيم، انطلاقا من مرجعيتها الثقافية التي تتأثر بها سواء كانت تراثية أو نهضوية، و هذا ما يسميه "الجابري" بـ « السفر عبر الزمن الثقافي العربي» (الجابري، الديموقراطية وحقوق الانسان، 1997، صفحة 73) أي الانتقال من ثقافة إلى ثقافة أخرى، ومن هذا الإطار، يضع "الجابري" يده على سبب آخر، من أسباب أزمة المثقفين العرب، وهو أن كل نخبة عبّرت عن جزء واحد ووحيد فقط من الواقع العربي وأهملت الجزء الآخر وتجاهلته، يقول في هذا الصدد: "إن النخبة العصرية عبّرت عن تطلعات وفكر فئة معينة من المجتمع، وأهملت في المقابل ما يسمى بالنخبة التقليدية، وما تستقطبه من فئات عريضة من المجتمع" (الجابري، الديموقراطية وحقوق الانسان، 1997، صفحة 73) فغياب التفاعل بين المثقفين والجماهير الشعبية، جعل الهوة تتسع بينهما، حتى أصبح المثقف معزولا عن الواقع الذي يعيش فيه، وبالتالي أصبح منطلقه في التغير إيديولوجيا وليس واقعيا. وهكذا فالمطلوب هو، قيام كتلة تاريخية تنبني على المصلحة الموضوعية الواحدة، تحرك جميع التيارات التي تنجح في التأثير على الجماهير الشعبية وهي مطالبة صريحة بالتخلي عن الإيديولوجيات المتعددة، والسعي المتواصل لخدمة المصلحة العامة بكل موضوعية، قصد استمالة الجماهير الشعبية.
وفي نقده للعقل العربي، يرى "الجابري"، أن غياب النقد أو الروح النقدية في نشاط العقل العربي المعاصر، يجعل المثقفين اليوم يتوهمون اكتساب الحقيقة، على عكس أجدادهم أي العلماء القدامى، الذين إذا أدلوا برأي ختموه بالقول "الله اعلم" أو "المسألة فيها قولان"، أما اليوم، فإن التعقيب الذي حل محل تواضع العلماء القدامى، يكتسي صيغة التأكيد كالقول: "هذا أعلم"، وهذا نوع من الطوباوية التي تفشـت في ظل غياب النقد الذاتي، وعدم الاعتراف بالخطأ (الجابري، تكوين العقل العربي، 1985، الصفحات 45-46). لعل مرحلة التطورات التي يعيشها العالم العربي _ وهي مرحلة انتقالية من حالـة الركود والجمـود التي كان يعيشها في ظل الهيمنة الاستعمارية إلى حالة التطور والازدهار، ودخوله ضمن النظام العالمي الجديد، القائم على العولمة والانفتاح على الآخر_ جعلت من مثقفيه، يعيشون ازدواجية ثقافية من الناحية المعرفية، أثرت سلبا على إنتاجهم الفكري، ومشاريعهم النهضوية، وتأثرا بالوضع الاجتماعي، تولدت إيديولوجيات مختلفة، وهما جانبا الإشكالية التي وقع فيها المثقفون، ويدلل "الجابري" على ذلك بأن "هناك إذا جانبان في الإشكالية التي نحن بصددها، جانب إيديولوجي يعكس الوضع الاجتماعي وجانب معرفي يعكس الازدواجية الثقافية، التي تفرضها علينا مرحلة التطور التي نجتازها" (الجابري، الانتلجنسيا في الوطن المغرب العربي، 1984، صفحة 56)، يُفهم من هذا الطرح، أن مرحلة التطور هذه حتى وإن كانت شاقة وصعبة، فهي لا تمثل حتمية ثقافية، إذ المطلوب هو تحليل أسسها الإيديولوجية والمعرفية، لإزالة الانفعالات الّلاعقلانية الصادرة عنها، وبالتالي فتح الطريق لتجاوزها.
وعموما، نحاول أن نُجمل مقاربة "محمد عابد الجابري" حول أزمة المثقفين العرب المعاصرين، في النقاط التالية:
 أسباب الأزمة خارجي بالدرجة الأولى، يتمثل في مشكلة السلطة الدينية والسياسية، وهي قائمة منذ العصر الوسيط حتى أيامنا هذه.
 سبب المشكلة ثقافي في الأساس، ناتج عن تداخل الأزمنة الثقافية في فكر المثقف العربي، إذّاك نجد المثقف الواحد يفكر بمرجعيتين ثقافيتين تراثية و نهضوية في آن معا.
 غياب التفاعل والحوار بين النخب المثقفة والمجتمع، يزيد من حجم المأزق الذي وقع فيه المثقف.
 غياب الروح النقدية للعقل العربي، تنتج عنه أوهام طوباوية في الاعتقاد بمعرفة الحقيقة.
 المرحلة الانتقالية التي يعيشها العالم العربي على جميع المستويات، خاصة الثقافية منها، لها جانب إيجابي خاصة في زيادة وعينِا بالمشكلة قصد الخروج منها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صفقة الاتحاد الأوروبي مع لبنان..ما خلفياتها؟| المسائية


.. بايدن يشدد على إرساء -النظام- في مواجهة الاحتجاجات الجامعية




.. أمريكا.. طلاب يجتمعون أمام منزل رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شف


.. الجيش الإسرائيلي: 12 عسكريا أصيبوا في قطاع غزة خلال الساعات




.. الخارجية الأمريكية: هناك مقترح على الطاولة وعلى حماس قبوله ل