الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقاطُ القوة تتحول إلى نقاطٍ للضعف: على هامش الرأسمالية العالمية المعاصرة

محمد عبد الشفيع عيسى

2021 / 4 / 5
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


نعم لا بأس أن نعيد و نزيد حول أهم موضوع في العلم الاجتماعي المعاصر، والذي يمثل الوحدة الأساسية للبحث أينما يممت وجهك في جنبات هذا العلم، ذلكم هو النظام العالمي، الاقتصادي، بتعبير أكثر تحديدا. وما النظام الاقتصادي العالمي، في تبسيط نرجو ألا يكون مُخِلاّ، سوى النظام الرأسمالي العالمي، في التحليل الأخير؛ وإن شئت فقلْ: الرأسمالية العالمية. ونأمل في هذا المقال الموجز ان نطرح ماهيتها، بالتعبير الفلسفي، ثم نشوءها وتطورها عبر التاريخ الاجتماعي أو الإنساني في العصر الحديث.
يمكن تعريف الرأسمالية، من وجهة نظرنا، باعتبارها ذلك النظام الاقتصادي و الاجتماعي القائم بصفة أساسية في عالمنا و عصرنا، على الملكية الخاصة الكبيرة لوسائل الإنتاج الحديثة و على الانفصال بين عنصريّ العمل ورأس المال. ولقد تحولت الرأسمالية من مجرد نظام اقتصادي اجتماعي إلى نظام عالمي، و كانت نشأت أصلا في أوربا الشمالية و الغربية وإلى حدّ ما الجنوبية، مع بدايات العصر الحديث في القرنين السابع عشر والثامن عشر اعتمادا على التجارة فالزراعة، ثم نضجت مع الصناعة، و انتقلت بالهجرة إلى أمريكا الشمالية و خاصة في القرن التاسع عشر و العشرين، ثم إلى شطر من شرق آسيا مؤخرا.
ولكن الرأسمالية كنظام عالمي توسعت طوال العصر الحديث خارج حدودها "المركزية" لتمارس "الاستعمار" من خلال علاقة السيطرة/ التبعية إزاء القارات الثلاثة: إفريقيا و آسيا و امريكا اللاتينية. و بدأت أمريكا الجنوبية الفكاك من الاستعمار مبكرا مع حلول الثلث الأول للقرن التاسع عشر تقريبا، ثم لحقت بها بلدان آسيا و إفريقيا تباعا خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1945-...).
بقيت بلدان القارات الثلاثة –المستعمرات سابقا- في حالة نوع من التبعية المقنّعة لدول المركز الرأسمالي العالمي المتمحور أساسا حول الولايات المتحدة الأمريكية (التي تحولت إلى قوة عالمية بعد الحرب) و أوربا الغربية، طوال ثلاثة أرباع القرن الأخيرة.
وقد قام (النظام الاشتراكي) بقيادة الاتحاد السوفيتي، والصين جزئيا بمعنى معين، انطلاقا من الثورة الروسية عام 1917، وامتدادا إلى أوربا الشرقية بعد 1945 والصين بعد ديسمبر 1949، ثم بعض من شرق آسيا (فييتنام ...) و دولة لاتينية واحدة (كوبا)، بحيث تحول، بدوره، إلى نظام عالمي، حتى انتهائه بانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1990. ومن ثم انفرد القطب الغربي بالقيادة للنظام العالمي، مع بروز الولايات المتحدة بوصفها "القوة العظمى الوحيدة".
بذلك كله تأكدت قوة التأثير الساحقة للدول الغربية بالقيادة الأمريكية. وقد تكيف النظام الرأسمالي العالمي ذاك مع واقع استقلال بلدان القارات الثلاثة –المستعمرة سابقا- ومع تبعات حركة التحرر الوطني فيها بعد 1945 على امتداد سبعة أو ثمانية عقود زمنية تالية، و تكيف كذلك مع المنافسة الضارية للمعسكر الاشتراكي حتى انهيار. كما تكيف خاصة مع تحولات الثورات التكنولوجية المتعاقبة، بنجاح مشهود. واستطاعت الرأسمالية العالمية بهذا التكيف المعقد أن تحقق انتقالا باهرا في عالم ما بعد الحرب (العالمية الثانية) بحيث عملت على تجاوز أزماتها المتلاحقة، الناشئة داخليا وفي المحيط العالمي، في ظروف بالغة الدقة. ظل الغرب الرأسمالي على هذا النحو يمارس قيادته"الخشنة" للنظام الدولي، بمهماز التقدم التكنولوجي، وبالتدخلات العسكرية التي وصلت إلى حدود الحروب المسلحة خاضتها أمريكا خاصة، على امتداد الأركان الأربعة للمعمورة، سعيا إلى إخضاع الجميع. ومن أعظم جوانب التكيف ممارسة ما نسمّيه قوة "تدخل الدولة"؛ إذ مارست الحكومات الغربية وظيفتها الاقتصادية والاجتماعية باقتدار نسبي، وفق ما يسمى بالمقترب "الكينزي"، منذ أزمة الكساد العالمي الكبير (1929-33) حتى اندلاع أزمة النفط في منتصف السبعينات. تلك كانت فترة سيادة الرأسمالية في نسختها (الليبرالية الطيبة) إن صح التعبير، وخاصة من خلال ما يطلق عليه "دولة الرفاهة" عبر التوسع في الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية الأساسية (لا سيما الصحة والتعليم و الرعاية أو الحماية الاجتماعية على تنوعها) وعلى هياكل "البنية التحتية". ولكن مالبثت الرأسمالية العالمية أن تخلت عن (طيبتها) لتسفر عن وجهها المعتاد في إطار من (ليبرالية جديدة) لقبّها البعض بالمتوحشة، منذ منتصف السبعينات كما ذكرنا.
ولم يقتصر الأمر على التوحش في الداخل، ولكن الرأسمالية العالمية، التي كانت أنشأت بناء كاملا من المنظمات الاقتصادية والمالية والنقدية العالمية، بقيادة "البنك الدولي" و "صندوق النقد الدولي"، قد تذرعت بهذه جميعا من أجل فرض صيغة "الليبرالية الجديدة" –الملقبة بالمتوحشة- على امتداد العالم، وخاصة في القارات الثلاثة المستعمرة سابقا (أو "العالم الثالث"السابق"). وكانت أزمات الاستدانة في البلدان (النامية) وما يصاحبها من الركود الاقتصادي و مظاهره المختلفة، بمثابة "فرصة" لممارسة النفوذ الطاغي لدول العالم الرأسمالي المركزي ومنظماته الدولية المهيمنة. و تخلّل كل ذلك عمل دؤؤب لصبغ الفكر الاقتصادي والاجتماعي في العالم بصبغته تلك (الجديدة-المتوحشة) انطلاقا من فرض إيديولوجيا "اللبرلة" في كل الميادين (تحول القطاع العام إلى الخاص-خفض الإنفاق الحكومي- انخفاض نصيب الأجور من الدخل القومي..إلخ). و أصبحت هذه عقيدة يدين بها النظام العالمي ومنظماته النافذة، شرطا لمدّ يد المساعدة إلى البلدان النامية المدينة، وخاصة الكتلة العريضة من إفريقيا وآسيا وأمريكا الاتينية التي وقعت في براثن الأزمة المزمنة، ولم يُسمح لها بالتحول إلى "دول صناعية جديدة" مثل البعض في الشرق الأقصى السائر على الأنموذج الياباني ثم المتحول كمراكز فرعية أو "ملاحق" للمنظومة الرأسمالية العالمية( كوريا الجنوبية...). تلك حالة أغلب البلدان العربية، التي حرمت من "جنة" التقدم الاقتصادي والتكنولوجي التي قادتها الشركات عابرة الجنسيات بالاستثمار الأجنبي المباشر وغيره. كل ذلك لتظل البلدان العربية، حتى الغنية منها بالمال والبترول والغاز، بمثابة "حديقة خلفية للغرب"، وفريسة لاختلال التوازن الاستراتيجي مقابل "إسرائيل".
هنالك تفاعلت جملة ظروف داخل النظام الرأسمالي العالمي عبر العقدين الأخيرين بالذات (2000-2020)، وكان من شأن هذه الظروف أن أدت إلى إبطاء سير النظام الاقتصادي في الغرب والعالم، إلى حد أن انكشفت ثغراته القاتلة إبان "أزمة كورونا" الأخيرة كما هو معروف.
هنالك تحولت نقاط القوة إلى نقاط للضعف. وياليتنا نستطيع في هذا الحيز المخصص للمقال أن نعرج على هذه النقاط بقدر من التفصيل المناسب، فلا نملك إلا الإشارة إليها، ومن بينها على سبيل المثال: 1-الضعف المتزايد لنموذج "دولة الرفاهة" في أوربا والولايات المتحدة، كما في اليابان في حدود معينة، وذلك بفعل الاتجاه العام إلى تقليص الإنفاق الاجتماعي و خاصة في المجالين الصحي والتعليمي، والسعي إلى تطبيق "وصايا" النظرية الاقتصادية الأصولية" حسب ما يسمّى "توافق واشنطون" و "ما بعد توافق واشنطون" فيما يتصل بالحرص الزائد على توازن الموازنات العامة. ويرتبط بذلك، اعتبار أن زيادة النفقات الاجتماعية العامة هي التي تقف وراء عجز الموازنات الحكومية، ومن ثم إحداث التمويل التضخمي وارتفاع معدلات التضخم، وفق تحليل " الاقتصاديين النقديين الجدد" بزعامة ميلتون فريدمان. 2- تعاظم الوزن النسبي للقطاع الخدمي على حساب الصناعة التحويلية إلى حدّ ربما كان (أكثر من الضروري) مما قد يؤدي إلى اختلال في بنيان الاقتصاد القومي مستقبلا. 3- إن التقدم التكنولوجي في "القطاعات الطليعية" و أبرزها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات يتم في غير توازن مع التقدم المطلوب في التكنولوجيا الحيوية وتقنيات الطب والتداوي، وخاصة في مواجهة الأمراض والأوبئة، كما يتجلّى في تداعيات أزمة (كوفيد 19). 3- ضعف مشروع الوحدة الأوربية، ، كما يتبين جليا من خلال "الخروج البريطاني"-بريكست. ونضيف : الهزال البادي في بنية السياسات المالية والنقدية، وما تحمله من تحيز لإيديولوجيا "الليبرالية الجديدة"، و خاصة في "منطقة اليورو" التي تعاني من عدم التوازن الهيكلي بين أعضائها؛ وهذا ما قام بتفصيله "جوزيف استجلتز" في كتابه العمدة المترجم حديثا (اليورو: كيف تهدد العملة الموحدة مستقبل اوربا؟). وما تزال الأيام والليالي حُبْلَى بما يصعب التنبؤ به تماما في اللحظة الراهنة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. على خلفية احتجاجات داعمة لفلسطين.. مواجهات بين الشرطة وطلاب


.. الاحتجاجات ضد -القانون الروسي-.. بوريل ينتقد عنف الشرطة ضد ا




.. قصة مبنى هاميلتون التاريخي الذي سيطر عليه الطلبة المحتجون في


.. الشرطة تمنع متظاهرين من الوصول إلى تقسيم في تركيا.. ما القصة




.. الشرطة الفرنسية تطلق غازاً مسيلاً للدموع على متظاهرين متضامن