الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا لا أومن بالسحر (4) علاقة السحر بالدين والعلم واللغة

بلحسن سيد علي
كاتب ومفكر

(Bellahsene Sid Ali)

2021 / 4 / 19
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


في هذه المقالة عزيزي القارئ سنحاول أن نبين بأن السحر بما أنه من نتاج الوعي البشري، وبما أنه قد ارتبط بالدين والطب في كثير من الحضارات كما شهدنا من قبل، فإن أصله الأول وتطوره مرتبط لحد كبير بهما، وبأن تطور السحر عبر العصور كان مقرونا دائما بتطور العلم والدين السائد في تلك الحقبة، فقد كانوا مجالات متشابكة ومترابطة في صيرورة تطور الفكر البشري، واعتبر بعض العلماء بأن السحر هو نقطة تقاطع بين العلم والدين، وقبل أن أدلف إلى جوهر المقالة علي أن أعلمك سيدي القارئ بأني سأعتمد في براهيني على علماء غربيين قد أفنوا سنوات من أعمارهم للبحث في هذا الموضوع، منهم من شد الرحال يجوب العالم ليكتشف أسرار السحر وحقائقه، فلهذا وإن كان كلامي الذي سأسوقه عليك صعب الفهم عصي الهضم، أو غير مألوف عندك فلتتأنى ولتعلم أن هذه هي طرق البحوث العلمية في تحليل مثل هذه الظواهر وتبيان حقائقها، وبأن الأسماء المذكورة هي أسماء لعلماء بارزين كل في ميدانه، فهذه فرصتك لكي تخرج من قوقعة العلماء المسلمين أو علماء الدين لتنظر فيما عند الغرب من علم وتحقيق، ولو وجدنا عند علماءنا ولو عشر ما وجدناه عندهم، لما تطرقنا لما قدموه في هذه الرسالة فاصبر علينا ولك أن تحكم فيما سنأتيك به لاحقا.
يقول المؤرخ وعالم النفس الأمريكي إدوارد لي ثورندايك في كتابه تاريخ السحر والعلم التجريبي: " أرى أن السحر والعلم التجريبي ارتبطا ببعضهما في تطورهما، وأن السحرة ربما كانوا أول من أجرى التجارب، وأن تاريخي السحر والعلم التجريبي يمكن فهمهما على نحو أفضل بدراستهما معا"، في حين أنه أقر بأن العلاقة تمتد لتضرب بجذورها في زمن الحضارات القديمة، ويمكننا أن نبرهن على صدق هذه العبارة حين نسترجع سيرة أحد كبار العلماء المسلمين وهو الكندي، الذي يسمى عن البعض بفيلسوف العرب نظرا لأنه أول الفلاسفة المتجولين المسلمين، اشتهر بكتبه في الفلك والكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات، وفي الوقت نفسه أشتهر عند البعض الآخر بأنه كبير السحرة في عصره، ولو عدت إلى زمن جابر بن حيان وعلمت أنه أول من استعمل التجريب بمنهجية علمية ثم علمت أن كثير من العلماء المسلمين يعتبرونه ساحرا، ولو أردت أن أسرد لك عدد العلماء الذين اتهموا بممارسة السحر لاهتمامهم بالكيمياء التي كانت تسمى بالخمياء أو السيمياء، وعلم الفلك الذي هو الآخر كان يسمى بعلم التنجيم لما أغفلت واحدا من العلماء، وقد علمت بأن المصريين القدماء كانوا السباقين في علم الكيمياء واستعملوا معارفهم باسم السحر والشعوذة، ولو عدت إلى المخطوطات السحرية لوجدتها تحوي كما هائلا من السحر الطبيعي كما يسمونه وسنتكلم عن هذا الموضوع بتفصيل أكبر في المقالات القادمة، وهذا الذي أدى بأحد الدارسين للسحر بأن يقول بأنه "بمنزلة الأخت الغير شرعية للعلم قائم على قانونين مغلوطين أولهما قانون العدوى، أي أن الأشياء التي كانت في وقت ما على اتصال مع بعضها تظل تربطها علاقة حتى لو فصلت بينها المسافات، أما الثاني فهو قانون التشابه الذي يذهب إلى أن النتائج تشبه مسبباتها، لكن إذا ما ثبت يوما أن السحر صحيح وفعال فهو ليس سحر وإنما علم" وأنا بحسب دراستي سأضيف لهذين القانونين اثنين آخرين وهما: قانون التزامنية ومعناه أنه إذا حدث أمرين في الوقت نفسه فإنهما سيضلان يحدثان دائما وحدوثهما في الوقت نفسه أمر حتمي، والثاني قانون التعاقب وفحواه أنه إذا تعاقب أمران أو حدثان فإنهما سيضلان يتعاقبان دائما وهذا التعاقب هو حتمي (هذا القانون هو توأم مبدأ السببية إلا أن الثاني له برهانه العقلي أما الأول فلا) وكل هذه القوانين الأربعة لم تزل عقول البشر التي لم تنهل من بحر علوم العصر تعتقد بها، وهو الذي منح السحر قوامه العلمية الزائفة، ولهذا كان تجريب السحرة دائما زائفا ولم يقدهم إلى نتائج علمية صحيحة لكنه أدى في نفس الوقت إلى إنتاج العديد من المبادئ العلمية الجديدة الغير سحرية في نهاية المطاف، ثم بحلول القرن الثامن عشر وتطور العلوم انفصل السحر إلى حد كبير عن المساعي العلمية، إلا أن ذلك لم يؤدي إلى اختفاء السحر وحلول العلم مكانه، وهذا ليس لأن العلم لم يستطع هدم خرافة السحر بل لأن العلم لم يضع هذا الهدف من أولوياته، وإنما كانت مباحثه تصب معظمها في تفسير كيفية عمل الكون، وحتى الذين حاولوا أن يقفوا في وجه السحر ويثبتون بطلانه علميا قوبلوا باستهجان ورفض، حتى من الوسط العلمي وذلك لسببان في رأيي الأول هو الاعتقاد بأن السحر هو جزء من الدين، والثاني بأنه جزء من القدرات الخارقة للبشر، وهناك سبب ثالث وهو أقل قيمة من السببين الأولين وهو أن السحر يعد مهنة تجلب الأموال وما كان التخلي عنها بأمر يسيرا سواء من السحرة أو من يدعون أن لهم قدرة إبطال السحر، أما عن السببين الأول والثاني فإننا سنفصل فيهما القول كل في وقته فلا تستعجل بنا سيدي القارئ، وإني على علم بأن أسئلة كثيرة قد توافدت إلى ذهنك فلا تقلق فإني أعدك بأن ستجد الإجابة عنها فيما هو آت فلا تستعجل بنا وهذا من فضلك.
إذا كان للسحر علاقة وثيقة بالعلم التجريبي وتطوره فإن علاقته بالدين أوثق وأغور، وهذا لأن الدين أقدم من العلم وبالتالي فإن المشكل المطروح هنا هو: من الأقدم الدين أم السحر؟؟ قد شهدنا من القرآن بأن السحر كان موجودا في زمن نوح عليه السلام، وكذلك شهدنا من خلال قصة السحر بأن إنسان ما قبل التاريخ أيضا قد مارس السحر لكن هذا لا يكفي لإثبات بأن السحر أقدم من الدين، فقد وضع جيمس فريزر عالم الأنثربولوجيا الاسكتلندي الكبير مرجعه الكلاسيكي "الغصن الذهبي" والذي يقع في ثلاثة عشر مجلدا نموذجه الثلاثي لتفسير تطور الفكر الإنساني من السحر إلى الدين إلى العلم، فقد أدى به البحث في المجتمعات البشرية إلى أن جميع المجتمعات قد تطورت من السحر إلى الدين ثم إلى العلم، وهذا لا يعني بأنه يلغي الدين ولكنه يقصد بأن تفكير البشر سيصير في النهاية علمي أكثر منه ديني، ولهذا نجد أن المرحلة الأولى ألا وهي السحر لا تزال باقية بالرغم من أننا في عصر العلم، لأن جذورها في الفكر البشري عميقة ولا يمكن التخلي عنها بسهولة، وهذا الكلام الذي سقناه عليك قد توصل إليه الفيلسوف العظيم هيجل حين أراد أن يدرس كيفية تشكل وتطور الفكر الديني عند البشر، فقد ابتكر هو أيضا ثلاثة مراحل أولها الأديان التي كانت فيها الطبيعة مشبعة بالأرواح، وثانيها أديان الآلهة الممجدة الفردية فوق الدنيوية، وأخيرا وثالثها المسيحية التي اعتبرها مزيجا من المرحلتين الأخيرتين، وهذه المراحل ليست غايتنا من هذا الكلام وإنما اعتباره بأن السحر كان أقدم أشكال الدين وأكثرها بدائية وبساطة، وهذا يعني بأن الإنسان أول ما لجأ إليه لتفسير الظواهر الطبيعية والتحكم فيها هو التفكير السحري المربوط بالقوانين التي سقناها عليك سابقا، ثم جاء الدين لكي يساعده شيئا فشيئا لتطوير فكره، وفي الأخير كان العلم هو الغاية النهائية للفكر البشري الذي به يمكنه الوصول إلى علة الكون الأولى وهو الله ومعرفة كيفية تدبيره لخلقه (من المنظور التوحيدي).
وكذلك اعتبر الفيلسوف البريطاني هربت سبنسر بأن السحر ما هو إلا نموذجا بدائيا للدين يقوم على العلاقات المتجانسة وعبادة الأسلاف، ولكنه كممارسة قابل للتكييف مع تطور الدين، بحيث يستطيع الدين والسحر التعايش معا، وهذا هو سبب انتشاره إلى اليوم تماما كما كان قابلا للتكيف مع تطور العلوم.
اعتبر الأنثروبولوجي إدوارد بيرنت تايلور بأن السحر يعد موضوعا أساسيا في بحوث الأنثروبولوجيا أو علم الإنسان الذي يدرس سلوك الإنسان ككائن اجتماعي، بحيث اعتبر أن السحر كان في أول الأمر يمثل فكرة الإحيائية، والتي ترجع كل الظواهر الغامضة إلى قوى روحية وتعتبر بأن لكل شيء روح، وكان هذا الفكر عند كل الشعوب التي تحتل مراتب دنيا على مقياس الوعي البشري، ثم تطور الدين كفكرة مستقلة عن مفهوم الروح البشرية، ثم تطور الدين من الشرك والتعددية إلى التوحيد، وهذا النموذج يشبه لحد ما نموذج هيجل، لكن الذي أضافه تايلور هو أضافته لمصطلح "الباقيات" للإشارة إلى العناصر الثقافية البدائية التي استطاعت البقاء على قيد الحياة في العالم المعاصر، وللسحر جزء كبير من هذه الباقيات، كما أضاف أيضا مصطلح العلم الزائف لوصف الممارسات السحرية التي تستند إلى العلاقة السببية بين الأشياء وتستغلها، لكنها في نهاية المطاف كانت فاسدة وفاشلة لأن افتراضاتها وتفسيراتها البدائية عن السبب والنتيجة كانت خاطئة، ولقد بينا بعض القوانين التي جعلت منها كذلك فيما سبق.
في المقابل اعتبر العالم الأنثروبولوجي الألماني اليسوعي فيلهلم شميدت أن أكثر أشكال الدين بدائية كان في حقيقة الأمر توحيديا، وهو بهذا قد قلب مفهومي سبنسر وتايلور عن التطور من الإحيائية إلى التوحيد رأسا على عقب، وقال بأن العبادة الأولى لإله أعلى، وكذلك ذهب مرسيل موس إلى أن الدافع الديني تطور قبل السحر، فقد كان الدين أحد أشكال التعبير عن المجتمع، ثم نشأ السحر عندما قرر الأفراد اتخاذ الطقوس والمفاهيم المرتبطة بالقدسية وربطها لأنفسهم، وفي الحقيقة يمكن استعمال كلا النموذجين في تفسير تطور الفكر البشري سواء اعتبرنا بأن الدين هو منزل من السماء وليس من اختراع البشر أم لا، أما السحر فهو بالعكس من اختراع البشر ومنسوب لقوى غامضة، وبهذا يصبح كل من السحر والدين بنيتين رمزيتين قبل أن يكونا مرحلتين ثقافتين.
والذي يعزز هذه الفكرة هو علاقة جانب كبير من السحر باللغة أيضا، فقد اكتشف سانتالي تامبيا بأن الممارسات السحرية هي أعمال شعائرية وليست علما تطبيقيا، فلم يعتبر السحر بأنه علما سيئا وإنما فنا بلاغيا يعتمد على مزيج من الكلام والأداء، الذي بمجرد تأديته يحدث تغييرا في الحالة، وكذلك اكتشف مالينوفسكي بعيدا عن فلسفة فيتغنشتاين اللغوية علاقة السحر باللغة، فقد انتبه إلى دور اللغة في الممارسات السحرية بينما كان يحاول ترجمة الصيغ السحرية التي يستخدمها سكان جزر تروبرياند، فقد كان سكان الجزيرة يؤمنون بقوى الكلمات السحرية.
وهذا الذي جعل السحر مربوطا بتطور ثلاث عناصر رئيسية في الفكر البشري وهي الدين والعلم واللغة، ودفع البعض إلى رفض الفكرة القائلة بأنه علم زائف أو مرحلة بدائية من مراحل تطور الفكر البشري، وأن السحر هو الجزء الغامض الذي يؤتي مفعوله بعيدا عن كل هذه التفسيرات، وخاصة بعد فشل العلم في تبيان زيف السحر وكذلك الدين الذي اعتبره ماكس فيبر سلاح قوي للتحرر من وهم السحر، خاصة المذهب البروتستانتي الذي يدعم العقلانية العلمية، وحاول جاهدا التخلص من العقيدة السحرية للكاثوليكية.
ولم يزل الصراع قائما إلى اليوم وما كتبنا هذه المقالات عزيزي القارئ إلا لنبين رأينا وما وصل إليه بحثنا مستغلين كل ما استجد من العلم والبحوث التي سبقتنا، مضيفينا إليها بحثنا الديني لنخرج لك بما أنت تقرأه شيئا فشيئا.
كانت هذه المقالة التي تبين علاقة الدين والعلم واللغة بالسحر، وتفهم الغاية منها حين نفصل الكلام عن السحر وكيفية اشتغاله، وكان لابد من معرفة هذه المقدمات حتى تكون معنا في نفس السياق حين نسوق عليك النهايات في المقالات التالية فلتبق معنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعقيب
على سالم ( 2021 / 4 / 19 - 01:52 )
من المؤكد ان تحليلك الاسلامى سليم , المؤسف ان القله القليله فى عالمنا الاسلامى عندهم الشجاعه الكافيه لقول الحقيقه مهما كانت النتائج بعكس الغالبيه المؤدلجه السلبيه

اخر الافلام

.. حماس.. تناقض في خطاب الجناحين السياسي والعسكري ينعكس سلبا عل


.. حزب الله.. إسرائيل لم تقض على نصف قادتنا




.. وفد أمريكي يجري مباحثات في نيامي بشأن سحب القوات الأمريكية م


.. شاهد: شبلان من نمور سومطرة في حديقة حيوان برلين يخضعان لأول




.. إيران تتحدث عن قواعد اشتباك جديدة مع إسرائيل.. فهل توقف الأم