الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التفكير العلمي والتفكير الخرافي ح١---

انور سلطان

2021 / 4 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


مقدمة

من أهم القضايا الفكرية هي مسألة الفصل أو التمييز بين الحقيقة والخرافة. حتى يومنا هذا، وفي عصر التقدم العلمي وانحسار الخرافة، هناك منطقة تشابك بينهما تجعل الخرافة تلتبس بالحقيقة.
كثيرا ما يقع العقل في الخطأ، لكن تحول الخطأ إلى قيد على العقل نفسه هو المشكلة. والخرافة هي خطأ الإنسان القديم في التفكير عندما حاول أن يفسر الطبيعة (ما يهم هنا هو الخرافة التفسيرية). وتصبح الخرافة قيدا على التفكير عندما تمنع أي فكرة تخالفها. وأساليب المنع تبدأ بالعنف النفسي عبر الحط من أي تساؤل وتشكك واعتراض والحط من صاحبه وتنتهي بممارسة العنف البدني. ومن أشكال العنف النفسي الترهيب من غضب وعقاب كائن خرافي.
ما يساهم في بقاء الخرافة ثلاثة عوامل رئيسية. الأول هو الالتباس المفهومي بينها وبين الحقيقة، والثاني هو التعود على الخرافة نتيجة التنشئة الاجتماعية، والثالث الارهاب النفسي الملازم لها، والذي يغرس في الطفل عند تنشئته أثناء تلقينه للخرافة. فإذا اجتمع الرعب والتعود أصبح للخرافة سطوة كبيرة على التفكير، وتشله كليا. وإذا لم يميز العقل بين الحقيقة والخرافة تمييزا قاطعا، فإن هيمنتها على العقل تصبح تامة، وينظر لها كحقيقة مطلقة، غير قابلة للتشكيك. وهذا يعني أن قوتها لا تقوم على أساس موضوعي صلب، بل على أساس نفسي، وعلى مغالطة فكرية عن طبيعة ومفهوم الحقيقة. والأساس النفسي لا يستهان به. إن التعود على الفكرة والرعب المصاحب لها وكونها إرث من الأجداد عوامل قوة نفسية كبيرة.
والالتباس المفهومي الحاصل بين الحقيقة والخرافة، ليس بسبب أن الخرافة فيها شيء من الحقيقة، بل ناتج عن الالتباس في مفهوم الحقيقة نفسه. وهو مفهوم صنعه قديما حراس الخرافة، وما يزال حتى الآن. وضمن في الفلسفة والمنطق ونظرية المعرفة.
وعليه فإن محل الخلاف الرئيسي بين التفكير العلمي والتفكير الخرافي هو في مفهوم الحقيقة ومفهوم الدليل الحقيقي. ولا يكمن الخلاف في عدم كفاية الأدلة على الخرافة. متى ما تحددت الخرافة، فقد ثبت بطلانها ذاتيا. وما هو باطل في ذاته لا يحتاج إبطاله إلى دليل من خارجه. وطلب دليل على صحته تناقض. ولأن الخرافة خرافة ووهم واه، فلا تكتفي العقلية الخرافية بالدعاوى العريضة والأدلة الزائفة، بل تشفعها بأهمية خرافتها للأخلاق والاستقرار النفسي الذي يجلبه معنى الحياة المستمد من الخرافة.


أولا: المعرفة الحقيقية
الحقيقة:
هناك واقع حقيقي. أو وجود حقيقي. وأدمغتنا جزء من هذا الواقع. لكن كل الوجود ماعدا الذهن فهو، بالنسبة للذهن، يشكل واقع خارجي عن الذهن. الواقع الخارجي هو الحقيقة الموضوعية التي تشكل المعرفة الذهنية. والمعرفة الذهنية بالحقيقة الموضوعية هي المعرفة الحقيقية. ويمكن وصفها بالحقيقة الذهنية.
إذن، هناك حقيقة موضوعية، وهناك معرفة الذهن بتلك الحقيقة، نسميها المعرفة الحقيقية أو المعرفة الموضوعية أو الحقيقة الذهنية.
فما الذي يميز الحقيقة عن الخرافة، والمعرفة الحقيقية عن المعرفة الخرافية؟
الذي يميز الحقيقة عن الخرافة هو أن الحقيقة لها وجود خارجي. بينما الخرافة مجرد خيال يعتقد صاحبه بأن له وجود خارجي. الخرافة خيال خاص.
كما أن طريقة حدوث المعرفة الذهنية بالحقيقة الموضوعية تميز الحقيقة عن الخيال والخرافة، وتجعلنا ندرك الحقيقة الموضوعية بأنها حقيقة موضوعية.
كيف نعرف بالحقيقة الموضوعية؟
لماذا نحن متأكدون من الحقائق الحسية الظاهرة، ولا نحتاج إلى براهين على وجودها. ويقف في المقام الأول معرفتنا بذواتنا؟ لأنها معرفة من حيث حدوثها مستقلة عن عقولنا، تحدث في الذهن رغما عنه، وليس بإرادته، ولا باصطناعه لها، وتحدث بتأثير الحقيقة الحسية الخارجية.
إذن هناك ركنان للمعرفة الحقيقية الحسية: حقيقة حسية خارجية مستقلة، استجابة ذهنية غير إرادية للتأثير الحسي الصادر من الحقيقة الموضوعية. تحدث المعرفة الحسية عن طريق استجابة دماغية إدراكية مستقلة عن إرادة الذات العارفة. فليس للعارف إرادة في حدوث المعرفة الحقيقية، وتحدث بتأثير حقيقة حسية خارجية مستقلة.
المعرفة الحقيقية الحسية هي استجابة ذهنية لا إرادية، سوى توجيه الانتباه، للمثيرات الحسية الصادرة عن حقيقة موضوعية.
هناك تقابل دائما بين المعرفة الحقيقية الحسية والحقيقة الخارجية الحسية. لان المعرفة الحقيقة هي معرفة بحقيقة خارجية.
وعندما نعطي لفظا للحقيقة الذهنية فان الحقيقة الذهنية تعتبر هي مفهوم أو معنى اللفظ، والحقيقة الخارجية مصداقه. ويمكن القول -على سبيل المجاز- أن المعرفة الحقيقية هي صورة ذهنية منطبعة عن حقيقة خارجية بتأثر تلك الحقيقة. والانطباع لا يقصد به أنه انطباع آلي بل استجابة إدراكية كيفية. والكيفية لا تعني عدم الموضوعية ولا تعني عدم استقلالية الحقيقة الخارجية. بل هي كيفية تشكل الموضوع الخارجي في الذهن.
ومعنى أن المعرفة الحقيقية ناتجة عن استجابة ذهنية للحقيقة الموضوعية أنها انفعال الذهن بالحقيقة الموضوعية، وليست افتعال الذهن لصور ذهنية مجردة ثم يدعي صاحبها أن لها مقابل موضوعي خارجي.
المعرفة الحقيقية تحدث للذهن، ولا يحدثها الذهن من تلقاء نفسه بنفسه.
شرط موضوعية المعرفة، الذي يجعلها معرفة بحقيقة موضوعية خارجية، هو أن تكون ناتجة عن الحقيقة الموضوعية نفسها. أي تحدث في الذهن دون إرادة منه. ولأن المعرفة الذهنية هي في جوهرها استجابة إدراكية حسية، ولأنه لا يمكن لأي حقيقة غير حسية أن تحدث استجابة إدراكية حسية، فلا معرفة حقيقية غير المعرفة بالحقيقة الحسية.
جوهر أو طبيعة المعرفة الحقيقية هو كونها استجابة دماغية حسية إدراكية لا إرادية لحقيقة خارجية. هذا ما يشكل المعرفة الذهنية الحقيقية، ويشكل اليقين بالوجود الخارجي. سواء كان وجود ذات، أو عرض، أو علاقة، أو حدوث حدث.
المعرفة الحقيقية هي الناشئة عن حقيقية خارجية. بغض النظر عن كونها معرفة بالحقيقية الخارجية كما هي في ذاتها أو معرفة بظاهرها. والمعرفة غير الحقيقية هي الناشئة عن تخيلات الذهن عندما يتخذ من المعرفة الحقيقية مادة يصطنع أو يبتدع منها تخيلاته.
وقد حسم العلم طبيعة المعرفة الذهنية بأنها طبيعة كهربية دماغية.
الحقيقة الحسية، والتأثير الحسي المستقل، والاستجابة الحسية الذهنية، هي أسس موضوعية المعرفة. تجعل المعرفة معرفة حقيقية، أي معرفة بحقيقة موضوعية خارجية مستقلة. وهو ما يميزها عن الخيال والخرافة.
المعرفة خاصية دماغية. ولا معرفة بلا دماغ. فإن كانت حادثة عن حقيقة خارجية مستقلة فهي المعرفة الحقيقية. ولا تحدث المعرفة الحقيقية إلا عن حقيقية حسية. وإن كانت خيال فهي معرفة خيالية، وإن صاحبها اعتقاد بأنها ليست مجرد خيال بل حقيقة خارجية فهي معرفة خرافية، وكلاهما معرفة غير حقيقية، يولدهما الدماغ من المعرفة الحقيقية.
المحسوس هو المعقول الحقيقي. والتخيلات والخرافات هي معقولات غير حقيقية. وتسمى معقولات لأنها صور في العقل يبتدعها باشتقاقها من المعقولات الحقيقية. واللامعقول هو التناقض (التنافي الآني) والوجود من عدم. ويسمى لا معقول لعجز العقل حتى عن تخيله. وهذا أساس الاستحالة العقلية. فالاستحالة العقلية عجز تام عن التخيل. والوجود من عدم كما أنه لا يمكن حتى تخيله بحذ ذاته، كذلك يتضمن تناقضا. لأن الوجود من عدم، وعكسه، يعني وجود لحظة كان فيها الشيء موجودا وغير موجود في نفس الوقت. انتقال الشيء من العدم للوجود، أو من الوجود للعدم، لا بد أن يمر بلحظة وجود ولاوجود في نفس الوقت. وهذا تناقض.

طبيعة المعرفة العقلية الحقيقية هي أنها في جوهرها إحساس مادي ذهني. ومبدأ حدوثها هو الاستجابة الذهنية الحسية الادراكية اللاإرادية للمثيرات الحسية الصادرة عن الحقيقة الحسية الخارجية.
واختصارا: المعرفة الحقيقية إحساس ذهني. وطريقها استجابة ذهنية حسية.
المعرفة نفسها حادثة حسية، وهي جزء لا يتجزأ من الحس وحوادثه، غير أنها حادثة ذات طابع خاص وهي أنها حادثة تحصل في الدماغ. والدماغ نفسه جزء لا يتجزأ من الواقع الحسي.
لا توجد معرفة حقيقية غير حسية. ولا توجد طريقة لحدوث المعرفة الحقيقية سوى الاستجابة الدماغية الحسية. والزعم بوجود حقيقة غير حسية، والتصديق بذلك الزعم، خرافة ناتجة عن خيال جامح.
ما هو غير حسي لا يمكن معرفته. لأنه يخالف طبيعة المعرفة وكونها إحساس دماغي ناتج عن استجابة حسية إدراكية دماغية لاإرادية لحقيقة حسية خارجية. والزعم بوجود شيء لا حسي هدم للحد الموضوعي الفاصل بين الخرافة والحقيقة. وسوف يكون معيار الحقيقة هو التصديق والاعتقاد بوجود الشيء. سواء تصديق الشخص لخيالاته الخرافية الخاصة، أو الثقة بصدق اعتقادات الأجداد، أو الثقة بصدق شخص آخر وخيالاته الخرافية وما يخبر عنه من خرافات أو ما يخبر به عن نفسه بأن له قدرات معرفية خاصة تجعله يعرف ما لا يستطيع غيره معرفته عن طريق الحس العادي.

ثانيا: الدليل الحقيقي
ما هو الدليل وما الذي يشكل جوهر الدليل ويجعل الدليل دليلا؟
الدلالة هي دلالة شيء على وجود شيء آخر. ولا يدل شيء على وجود غيره إلا إذا وجد ارتباط حسي بينهما. والارتباط الحسي هو حقيقة حسية خارجية كأي حقيقة حسية أخرى. وإدراكه يحدث كاستجابة ذهنية حسية لا إرادية. وذلك ما يجعل الدليل الحسي حقيقة موضوعية مستقلة كأي حقيقة حسية أخرى. الارتباط الحسي هو ما يجعل الدليل دليلا. هو جوهر الدلالة. ولا دلالة بدونه.
والارتباط الحسي إما ارتباط سببي أو ارتباط غير سببي. الارتباط السببي مثل ارتباط إضاءة المصباح الكهربي بمرور تيار كهربي فيه. والارتباط غير السببي مثل الكلام والانسان. وهو ارتباط بين صفة وموصوف أو ارتباط بين جوهر وعرض، سواء كان العرض عرضا خاصا أو عاما. فسماع كلام دليل على وجود انسان. أو سماع صوت شخص معين دليل على وجود ذلك الشخص. من وجود الارتباط الحسي تنشأ الدلالة. ويصبح لدينا دال ومدلول. والارتباط يسمى التلازم. هناك تلازم بين اضاءة المصباح ومرور التيار الكهربي. التيار الكهربي لازم لإضاءة المصباح، واضاءة المصباح ملزوم للتيار الكهربي. والدلالة هي دلالة الملزوم على لازمه. وفي التلازم السببي تكون الدلالة قطعية. بينما في التلازم غير السببي قد تكون الدلالة قطعية أو احتمالية. سماع صوت شخص معين لا يدل على وجوده قطعا، بل احتمالا. فقد يكون الصوت مسجلا، أو مقلدا، أو تشابه في الأصوات.
الدليل لا يسمى دليل إلا لأنه موضوعي مستقل عن العقل، يدركه العقل من الواقع الخارجي، عندما يدرك علاقة التلازم القطعي أو الاحتمالي بين اللازم وملزومه. ولا يتوفر شرط الموضوعية الا في المحسوسات. أي لا يظهر التلازم ويدركه العقل رغما عنه إلا في المحسوسات. ولذلك فالدليل الموضوعي بطبيعته دليل حسي. وهو وحده الدليل العقلي، وهو عقلي من حيث أن التلازم يدل العقل رغما عنه على معرفة وجود اللازم (المدلول) متى وجد ملزومه (داله). وعندما نقول بالعقل عرفنا كذا وكذا، انما نعني بالتلازم الموضوعي (الحسي) عرفنا ...

السببية العلمية
الحقيقة الحسية من حيث ظهورها للحس قسمان، ظاهرة وغير ظاهرة. والظاهرة ندركها بالحس المباشرة المجرد أو بواسطة أجهزة. وغير الظاهرة إما أن لها آثار حسية ظاهرة أو لا. فإن كان لها آثار ظاهرة أمكن الاستدلال على وجودها بآثارها الظاهرة. مثل الاستدلال على الذرة ومكوناتها بعدة آثار لها منها الكهرباء. إن الأثر الظاهر، وهو حقيقة حسية، والمرتبط بحقيقة حسية غير ظاهرة يشكل أساس الدلالة الحقيقية الموضوعية، ويجعل الأثر الملزوم دليلا على وجود لازمه. وهذا يحترم مبدأ حدوث المعرفة. سواء كانت معرفة بشيء أو بعلاقة التلازم الحسي. فالمعرفة بالأثر الظاهر هي استجابة حسية ذهنية، وهي ملزوم حسي ظاهر للازم حسي غير ظاهر. والسؤال ليس وجود ذلك الشيء الحسي أو التفسير الحسي بل عن ماهية حقيقته الحسية. وهي مسألة قابلة للبحث العلمي، بداية بفرص الفروض واستمرارا إلى وضع النظريات. وتصبح كيفيته أو ماهيته قابلة للتحقق التجريبي.
قانون السببية العلمي يستند إلى علاقة التلازم الحسي التي تكون فيها الحقيقة الظاهرة للحس ملزومة لحقيقة غير ظاهرة للحس. والأخيرة لازمة للأولى وسببها غير الظاهر. بدون التلازم فلا دلالة ولا دليل، ولا سببية حقيقية.
فحوى قانون السببية العلمية هو أن لكل ظاهرة طبيعية سبب طبيعي ملازم لها.
بدون التلازم الطبيعي (الحسي) لا توجد دلالة حقيقية. ولا يمكن التحقق من صحة الفرضيات والنظريات العلمية واثباتها.
السببية العلمية تؤكد أن هناك سببا طبيعيا للظاهرة يمكن اكتشافه عبر الاستقراء. والاستقراء يمر بخطوات عرفت بخطوات البحث العلمي.
السببية الخرافية
فحوى قانون السببية الخرافية هو أن لكل حادث محدث. فما لم يظهر له سبب طبيعي، فسببه غير طبيعي، وهو كائن واع.
وهو قانون يستند على مسلمة خاطئة، وهي أن كل ظاهرة لا سبب طبيعي ظاهر (أو معروف) لها، فإن سببها كائن واع.
السببية الخرافية تؤكد على وجود سبب معروف سلفا لكل ظاهرة لا سبب طبيعي لها، وهو كائن واع (أو أكثر) وكل شعب، أو كل قبيلة في شعب معين، أعطت اسما لذلك الكائن أو الكائنات الواعية المتخيلة.
وقد توصلت العقلية الخرافية إلى ذلك التأكيد عبر قياس تشبيهي خاطئ. وهو تشبيه الظاهرة الطبيعية بالفعل الإرادي للإنسان.
وقانون السببية الخرافية لا يمكن استخدامه إلا بطريقة قياسية. لا كما يستخدم قانون السببية العلمية بإجراء الاستقراء الحسي عبر خطوات البحث العلمي. (والاستقراء هو أصل المعرفة بما فيها نتائج القياس الصحيح). فعند تفسير ظاهرة غامضة، يقال: لكل حادث محدث، والظاهرة الفلانية حادثة، ولا سبب طبيعي ظاهر لها، فسببها إذن كائن واع خفي. وخطأ هذا القياس المنطقي يعود إلى أن مقدماته لم تعرف وتثبت بالاستقراء بل مثبتة بقياس تشبيهي خاطئ. وهو تشبيه الظاهرة الطبيعية بالفعل الارادي للإنسان. (اعتبار الظاهرة الطبيعية حدث كالفعل الارادي للإنسان)، وهو تشبيه قائم على مصادرة، وهي الزعم أن عدم ظهور أو معرفة السبب الطبيعي يعني عدم وجوده، وعدم وجود السبب الطبيعي يعني بالضرورة وجود سبب غير طبيعي.
والمقدمة تتضمن النتيجة. فالمحدث الفاعل هو الكائن الواعي.
أي قياس منطقي لم تعرف أو تثبت مقدماته بالاستقراء الحسي فهو قياس باطل.
لو افترضنا عدم معرفة الاسباب الطبيعية النهائية لأي ظاهرة، أو للكون، فلا يعني ذلك وجود سبب غير طبيعي.
إذا تتبعنا الخرافة نجد أنها كانت تحل محل كثير من التفسيرات العلمية. وبتقدم العلم بدأت تنحسر إلى إن انحصرت عند المعتقدين بها في المسائل التي لم يجب عليها العلم بعد. والخرافة التي تفسر الرعد والبرق هي ذات الخرافة التي تفسر الوجود والحياة. وخطأها فيما انحسرت عنه هو نفس خطأها فيما لم تنحسر عنه عند المعتقدين بها. ولكن المعتقدين بها لا يتعظون ويظلون متشبثين بها إلى آخر لحظة.
الظواهر الطبيعية تختلف جذريا عن الفعل الإرادي للإنسان. لا يمكن أن يتحرك جماد من مكانه على الأرض دون سبب، إما طبيعي مثل تحرك أوراق الاشجار بفعل الريح، أو بسبب إرادي مثل نقل الانسان لجماد من مكان لآخر. وهذه معرفة حسية (استقرائية) للإنسان في كل زمان ومكان. لكن الانسان القديم عمم قانون السببية على الظواهر الطبيعية بشكل خاطئ بطريقة القياس التشبيهي الخاطئ، فما لم ير له سببا طبيعيا اعتقد بعدم وجود السبب الطبيعي وقال بوجود سبب غير طبيعي وهو الارادة، ونسبها لكائن خفي قياسا على أفعال الانسان.
الفعل الارادي للإنسان هو نفسه سبب مادي. وهناك مباشرة بين الانسان وفعله والمادة. والفعل الانساني شيء حسي وجزء من الحدث والواقع الحسي. إنه بذاته حدث حسي وينتج عنه نتيجة حسية (ففي حدث نقل انسان لحجر. فالإنسان محسوس، والنقل فعل محسوس، والحجر محسوس. وكله حس في حس). فالصلة الحسية والتلازم الحسي قائم لا ينفصم. والتلازم الحسي بين فعل الانسان المحسوس وما عرف أنه من فعل الإنسان هو الذي يشكل الدلالة الحسية. فما عرف أنه بفعل إرادة الإنسان، ولا يمكن أن يحدث في الطبيعة بقوانين الطبيعة، يصبح دليلا على أن الإنسان هو الذي فعله.
كما أن فعل الانسان لا يخرج عن قوى الطبيعة بحال من الاحوال. الذي يميزه هو الإرادة فقط. وهو استخدام لقوى الطبيعة. أو بتعبير آخر، الإرادة الانسانية لا تخرج عن قوى الطبيعة، وتستخدم قوى الطبيعية فقط. ولا يصح القول بإرادة خارقة للطبيعة قياسا على إرادة هي جزء لا يتجزأ من الطبيعة. حتى الإرادة الانسانية ملتبسة بالحس كونها صادرة عن عقل الانسان. والعقل أساسه مادي بحت. أنه مجموع القدرات الدماغية التي تظهر في شكل وعي نطلق عليه العقل. لا إرادة بلا وعي، ولا وعي بلا دماغ. الوعي نشاط الدماغ، والدماغ مادة. ونشاطه مادي من جنسه. ونسبة الوعي إلى شيء غير مادي، أو اعتباره جوهر لا مادي قائم بذاته، خرافة من الخرافات.
الطبيعة نفسها وقوانينها تستخدم للدلالة على ما هو إرادي من غيره. وما هو إرادي جزء لا يتجزأ من الواقع الحسي. ولهذا أمكن التفريق بين الحدث الطبيعي والفعل الإرادي. وما لم يعرف أساسا أنه فعل إرادي، ولا تنطبق عليه صفاته، فهو على أصله حدث طبيعي. ولا يصح أن ننسب مالم يعرف أساسا أنه فعل إرادي، وهو ما ينطبق على كل ظواهر الطبيعة، لكائن واع مريد بحجة أننا لم نعرف سببه الطبيعي.
وختاما:
لأنه لا استجابة ذهنية إدراكية سوى الاستجابة الحسية، فلا معرفة حقيقية غير المعرفة الحسية. ولا يمكن اثبات وجود حقائق موضوعية غير حسية. ولا يوجد، ولا يمكن أن يوجد، دليل حسي على حقائق غير حسية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح


.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة




.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا


.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س




.. كل يوم - د. أحمد كريمة: انتحال صفة الإفتاء من قبل السلفيين و