الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثورة الثقافية الرابعة

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2021 / 4 / 23
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


قبل القرن العشرين لم يظهر مصطلح (الثقافة والمثقف) كما نعهده الآن بمعنى المعرفة والعلم، لأن هذا المعنى كان حكرا على رجال الدين فحسب، فهم من لهم سلطة العلم ونفوذ المعرفة الاجتماعي وبدعم كامل من السلطات القرووسطية التي كانت تستعين بهم في حكم الدولة على الشريعة الإسلامية..

ظهر المصطلح لدينا في القرن العشرين على أيدي مجموعة مثقفين كبار كسلامة موسى وشبلي شميل وطه حسين وأحمد لطفي السيد وغيرهم من دعاة التحرر الفكري والشك العقلاني، وكان في ظهوره إيذانا باندلاع أشهر مواجهة (شاملة) بين النخب المسلمة والعربية بين طرفين ، الأول يحتله الشيوخ ورجال الدين وبعض الأدباء والمفكرين المحافظين، والثاني يحتله الفلاسفة والمفكرين الليبراليين واليسار بالإضافة إلى ناشطين السياسة وحقوق الإنسان والعمال، وبالإمكان وصف الصراع الفكري الحالي على أنه امتدادا لتلك المواجهة الأولى التي تنتج يوميا عصفا ذهنيا شديدا بالمسلم دفعته للانقلاب على موروثه الديني إما على شكل إلحاد وخروج من الدين، أو على شكل تحرر كامل من قيود المذهبية الإسلامية والتفكير من خارج صندوق الموروث، وكلا المظهرين الانقلابيين هما اللذان يقضان مضاجع الكهنة ورجال الدين في المنطقة بأسرها..

تم تعريف الثقافة على أنها المعرفة التي تقوم على عوامل اللغة والمجتمع، ولأن الدين نتاج لهذه العوامل فالعارف به مثقف بالأساس..لكنه ولأن هذين العاملين يشملان أيضا جوانب العلم النظري والتجريبي والفني أصبح لقب المثقف ينطبق على أي شخص متدين أو غير متدين، ناقد أو مدافع..ولأن مدلول اللفظ يعني (العلم) فقد أحدث لنا أعظم ثورة معرفية في العصر الحديث حيث ولأول مرة يُلغى احتكار العلم وتتقلص قدرات ومعارف رجل الدين لصالح المفكرين والفنانين وناشطي السياسة، ويتضائل بالتالي نفوذ رجل الدين أمام أي مثقف معترف به أمام القانون والمجتمع، وتلك الإشكالية التي لم ينتبه لها كثير من الشيوخ في مجتمعاتنا الذين لا زالوا يفكرون بعقلية أجدادهم وأئمتهم منذ قرون وقبل ظهور مصطلح الثقافة ، وبالتالي قبل الثورة المعرفية التي أحدثها المثقفون في شتى قطاعات العلم.

فالظاهرة الثقافية ليست حكرا فقط على أعمال التصنيف والتجريب بل دخلت مجال الأدب والتمثيل بأشكاله الفنية والتعبيرية كالسينما والدراما والمسرح والموسيقى والرسم..إلخ، فقد حصل هؤلاء الفنانون على سطوة معرفية واجتماعية كبيرة ضد رجل الدين جعلت ممثلا محدود العلم الديني (كعادل إمام) هو ثورة فنية بحد ذاته ضد رجال الدين، فلقد تحرك هذا الفنان من بواعثه النفسية وقدراته البسيطة على كشف الخداع والكذب والعنف الكامن في نفوس الجماعات، ولأن هذه القدرات والبواعث موجودة لدى كل شخص تقريبا منهم من ينكرها ومنهم من يعلنها أصبح عادل إمام نجما كبيرا نجح في تصوير الخيال الشعبي المكبوت عن الأحزاب الدينية في عز سطوتهم..

ولهذا السبب أصبح مدلول (مثقف) بذيئا في عرف الإسلاميين والجماعات والشيوخ، فهم لا يطمئنون لأي شخص يقال عنه مثقف كي لا ينازعهم سلطاتهم المعرفية خصوصا من فئة الفنانين الذين حصلوا على الغضبة الشعبية في أعقاب تصوير الوسط الفني بالمنحرف والزاني أخلاقيا، وهي نفس الصورة التي كان يصدرها رجل الدين قديما عن الفلاسفة ومعارضي الكهنوت السياسي بأنهم زنادقة متحللين من كل القيم الإنسانية، في شعور أعادوا به أزمة أسلافهم الذين شهدوا ظهور المصطلح بدايات القرن العشرين، وعانوا من أصحابه أمرّ المعاناه، مما يعني أن حدود وعي هؤلاء الكهنة ما زالت محدودة لم تفطن للتغير الهائل الذي طرأ على الكون حتى أصبح أي نداء لإقامة الخلافة والشريعة في عُرف الثقافة هو تهوّر وانهيار حضاري وأخلاقي بدلا من وضعيتها القديمة التي كانت تعني الرخاء والبناء..

في الحقيقة أعتبر أن ظهور مصطلح الثقافة والمثقفين هو في رأيي (الثورة المعرفية الرابعة) للعنصر البشري، فالأولى كانت نتيجة لاكتشاف النار مما أهله للسيطرة والتحكم في قوى الطبيعة ، والثانية كانت نتيجة لاكتشافه المعادن وحسن استخدامه لأدوات الحجر مما نقل السلوك البشري في التعامل مع المواد من مجرد الرؤية والتعايش لحدود التوظيف والمنفعة وهي الفترة التي شهدت رخاءا اقتصاديا كبيرا لديه وظهور الزراعة والصناعة، أما الثالثة فكانت لممارسته الفلسفة مع اليونان في الألف الأول قبل الميلاد وهي الحقبة الزمنية التي أنهت معظم الأديان البدائية التي ظهرت في العصر الحجري وعصور المعادن، وظلت تأثيرتها قوية على الذهن البشري في خلخلة وحلحلة أي فكر عنيف وغير منتج أو يدعو للخرافة والوهم..

الآن وصلنا للثورة المعرفية الرابعة التي أعدها نتاجا طبيعيا للثالثة المذكورة، فظهور الثقافة والمثقفين ما زال في طور التأسيس والبدايات لإنهاء ما يسمى (احتكار الدين) فمع ظهور الفلاسفة قديما وتكلمهم في الدين كانت العامة تخشى حضورهم من عدة جوانب أهما عمق أفكارهم وصعوبتها من ناحية وعزلتهم من ناحية أخرى، وهي الأسباب التي لم تؤد إلى الآن للقضاء على الجهل والخرافة..بل عززت الأسطورة مع ضعف هؤلاء الفلاسفة نوعا ما بظهور أديان جديدة وخرافات شعبية كالتي ذكرها "جون ستوسل" في كتابه "خرافات وأكاذيب وغباء محض" بينما الثقافة انتبهت لهذه العزلة الفلسفية والضعف الاجتماعي والسياسي للفلاسفة وشرعت في تقديم منتجاتهم بصور متعددة (سياسية واجتماعية ودينية) وهو الذي أدى لظهور حركات اليسار والليبرالية العالمية التي اختلفت فيما بينها اختلافا كبيرا لكنها اتفقت على موقف واحد من التدين الشعبي والأساطير.

كان ظهور المثقفين في الغرب وبدء إحلال مصطلح الثقافة بدلا من الفلسفة هو ثورة في حد ذاته نقلت العلم والعقلانية من طور النظرية إلى طور التطبيق، وهو الذي أنشأ لاحقا تيار الماركسية والبراجماتية والليبرالية كمثال ، فلم يعد التنظير للعلمانية وفصل الدولة عن رجال الدين أمرا متعسرا بل أصبح في الإمكان بعدما فطن العامة والجمهور للبديل العلمي المقابل للكهنة ، وعدم أهلية أي منظمة أو جماعة أو فئة باحتكار الدين، وهي المعاني التي انتقلت للعرب والمسلمين في القرن 20 بحركة معرفية ظلت نشطة حتى السبعينات مع بدء نشاط الوهابيين والحركات الجهادية التي نجحت في تشويه المثقفين وإلصاق كل التهم القديمة للفلاسفة بهم ..وقد ظهر ذلك جليا في صورة المثقف المتعجرف صاحب النظارة الكبيرة والملابس الرثة القبيحة والسلوك الفوضوي والأخلاق السيئة، حتى أن السينما والدراما كانت تروج لهذه الصورة السيئة عن المثقف في وقت كانت تروج صورة (الحكيم والعاقل) عن المتدين بشكل عام.

هذا يعني أن المستقبل لن يكون صراعا بين الثقافة واللاثقافة، بل مواجهة بين ثقافات مركبة وعميقة وواسعة وبين أخرى بسيطة ومحدودة..والثانية لن تكون حكرا على رجل الدين وأنصاره بل ستطال أي مثقف يتأثر بهم أو يستعمل نفس أدواتهم في التفكير دون إعمال العقل النقدي في اكتشاف عيوبها المنهجية، وهذه التي كانت – ولا تزال – أحد أكثر الطرق الخادعة لاستمالة بعض المثقفين لرجل الدين، فبدلا من أن يعترض المثقف على احتكار العلم الديني وعلى التكفير نراه يمارس تلك الأشياء على خصومه..وهنا اللبس الذي يحدث أحيانا في الوسط الثقافي حيث يتبنى بعض منتسبيه خطابا كهنوتيا أو طائفيا أو عنصريا باسم الثقافة، بينما هو متأثر حتى أخمص قدميه بمنتجات ورموز التدين الشائع ، وأعجب من هؤلاء إصرارهم الغريب على انتهاج التكفير والتعصب الطائفي ثم نقد رجال الدين لنفس الجريمة..!

العلاقات الاجتماعية توسعت بشكل هائل بحيث لم تعد تعطي الفرصة على كتمان الحقائق أو قهر أصحابها بوسائل قرووسطية كالتكفير والاغتيال المعنوي بوسائل حديثة كاللجان الموجهة أو من يسمون (بالذباب الألكتروني) على مواقع السوشال ميديا، فتلك اللجان هي الإسقاط المعاصر لحالة القطيع الشعوبي الذي يتعصب لرموزه دون النظر في أهلية وحجية موقفه، وقد عانت البشرية من ذلك القطيع الشعوبي طوال العصور القديمة والوسطى ، وتعاني منها الآن بشكل كبير بعد انتشار هجمات التدين العنيف والهمجي على الحضارة الإنسانية المعاصر، وإن كانت للعلمانية دور في تحجيم وحصار تلك الهجمات إلا أنها ما زالت موجودة بأشكال ونسب مختلفة وتلقى دعما من قوى كبرى لها مصالح في تفشي نزعات العنف عند الخصوم، وأشهر نموذج لهذا التوظيف هو إحياء الولايات المتحدة للأصولية الإسلامية ودعمها للإرهاب والقتل الديني بهدف القضاء على الإتحاد السوفيتي، وحاليا للقضاء على إيران والصين وروسيا وسوريا بنفس الطريقة.

ومعنى توسع العلاقات الاجتماعية هنا أن منتجاتها الثقافية تتراكم بشكل كبير، ولا تندثر كما يظن البعض، فالمنتج المعرفي سيظل معرفيا لحين استدعاءه..مثلما نستدعي الآن بعض أفكار فلاسفة اليونان حول علاقة الدين بالدولة، أو الإنسان بمحيطه الكوني والاجتماعي، أو طريقة تصور المواد والأشياء..برغم سكون تلك الأفكار عدة قرون متصلة لأسباب سياسية خاصة بملوكٍ أهانوا تلك الأفكار ورأوها مروقا عن الدين الصحيح، مما يعني أن الإنسان عندما يثور على هذا الدين الذي كان في مخيلة الملوك سيضطر فورا لاستدعاء أفكار خصومه، مثلما يستدعي المصريون في هذه اللحظات كافة أفكار خصوم الإخوان منذ الثلاثينات وإلى اليوم وهم من أهملوها في السابق لأسباب تخص ضحالة معارفهم ووعيهم المحدود.

والتفاعل بين المثقفين كاف بنظري لإحداث قفزة في الوعي الشعبي والنخبوي شريطة حياد السلطة وعدم الانحياز في هذا التفاعل الذي يجري على أشكال متعددة منها المناظرات والمؤتمرات واللقاءات، فنتيجة هذه الأشكال ظهور مصنفات فكرية تنقل ليس فقط الجيل المعاصر ولكنها تنقل الأجيال القادمة على شكل قفزات في الوعي والإدراك العام يصبح معها العقل متطورا وطرق التفكير متقدمة، وبالتالي تصبح أي طريقة تفكير لا تناسب العصر ولا ترضي طموحات الإنسان الحالي في مزيد من العدالة والمساواه والعلم والحقوق هي طريقة متخلفة رجعية، فإذا حاولت تلك الطريقة فرض نفسها بالقوة يجري اعتبارها إرهابا يجب التصدي له، وفي ظني أن بعض المجتمعات الغربية المتطورة وصلت لتلك المرحلة العصرية، فبدأت تنظر لطرق التفكير الدينية المتشددة على أنها ليست رأيا يستدعي الحوار، بل تمردا يستدعي المواجهة.

لكن ما يعطل هذه القفزة هي أشياء لا تخص رجال الدين فقط أو استبداد الحكام، بل هي من الوسط الثقافي نفسه الذي أشرت منذ قليل إلى أحد أمراضه في العُزلة وتقعير الكلام والتعالي على الناس مما يضع المثقف فورا في (شكل طبقي) أي ينظر العامة للمثقف كتعبير طبقي عن فئة من المنعزلين أو الذين يحتاجون لرعاية حسب وجهة نظره، أو لهداية حسب وجهة نظر شيخه، فنكون قد انتقلنا لنظرة فوقية من الطرفين هي الأساس في الصراع العنيف بين الفئتين قبل أن تحسمه السلطة لأحد الأطراف، أو تظل السلطة محايدة وتترك الفوز لأكثرهم قوة وإقناعا..إنما التاريخ للأسف لا يؤكد الخيار الأخير بل ينفيه، فما من سلطة تعارك فيها المثقف ورجل الدين إلا وانحازت السلطة لأحدهما..وفي الغالب كان الانحياز يحدث لرجل الدين قبل أن تفطن أوروبا لأهمية فصل الدين عن الدولة لإنهاء ذلك الوضع والانتفاع المتبادل بين الاثنين على حساب العقل والمصلحة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الثقافة تعني التحسين الفكري
ابراهيم الثلجي ( 2021 / 4 / 23 - 12:12 )
اخي سامح اسمح لي بالمداخلة لنلج الى المعنى الصحيح لكلمة ثقافة بالرغم من ان المفهوم العام لدى الناس يؤدي الغرض
لكن لو سلكنا الدرب خلف المفهوم الذكي للمعنى فسيكون ذلك ايجابيا
فالثقافة اتية من التثقيف اي التعديل وجعل الامور في نطاقها السليم والمفيد
اما اليوم اختلط الحال على الناس فصار الرقص الشرقي ثقافة وغرزة ابودومة مكان ثقافي واسقاط النساء والممثلات ثقافة وافلام الخليع المخرج خالد يوسف بضحاياها ثقافة
ليقال هذا الشخص مثقف يجب الا يستحق هذا اللقب الا اذا اظهر اعمال اصلاحية في المجتمع شعارا واداء
حديد التسليح الملتوي عند تعديله للاستقامة يسمى تثقيف الحديد وعند ثنيه حسب غرض الاستعمال كذلك
لنفهم جليا ان التثقيف هو تكييف المادة والسلوك على حد سواء لبناء الجديد الايجابي المفيد او تعديل الماضي الرجعي غير المفيد الى مفيد
وهنا يحصل التلامس مع الارشاد والوعظ الذي طالما تناوله المشتغلين بالدين الذين من عندهم ياتي (التطعيج او التعديل والاستقامة) فالادب الغربي العالمي هناك ادباء اعتمدوا هذا الاسلوب في انتاجهم مثل تولستوي وهناك من اعتمد التحريف والرواية والبرباغندا الكاذبة للترويج الاسود مثل هوليود

اخر الافلام

.. 93- Al-Baqarah


.. 94- Al-Baqarah




.. 95-Al-Baqarah


.. 98-Al-Baqarah




.. -من غزة| -أبيع غذاء الروح