الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التفكير العلمي والتفكير الخرافي ح٢------------------------

انور سلطان

2021 / 4 / 24
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لأن المعرفة الحقيقية بطبيعتها استجابة ذهنية ادراكية، ولأنه لا استجابة ذهنية ادراكية الا استجابة حسية، فلا معرفة حقيقية غير المعرفة الحسية. ولذلك فالزعم بوجود شيء غير حسي هو زعم بوجود شيء لا يمكن للعقل ادراكه ومعرفته أصلا.
ولأن دلالة الشيء على غيره ناشئة من الارتباط اللازم بينهما، ولأنه لا يدرك ولا يعرف إلا الارتباط والتلازم الحسي، كأي حقيقة حسية أخرى، فلا دليل حقيقي إلا الدليل الحسي، ولا مدلول عليه إلا المدلول عليه الحسي. والدليل الحسي هو وحده الدليل العقلي. وسمي بالعقلي لأنه متى وجد الملزوم دل العقل على وجود لازمه. وما تسمى بالأدلة العقلية بخلاف الدليل الحسي هي أدلة زائفة، وقبل ذلك مغالطة في مفهوم الحقيقة تجعلها تلتبس بالخيال وتساوي بين الحقيقة والخيال.

التفكير الخرافي يساوي بين الحقيقة والخيال

المعرفة العقلية، أي ما يوجد في العقل من صور عقلية، قسمان. معرفة حقيقية ناشئة عن حقيقة موضوعية بتأثير تلك الحقيقة حسيا في الذهن. ومعرفة غير حقيقية، وهي الخيالات والخرافات التي يولدها العقل من معارفه الحقيقية. وسميت كلا المعرفتين بالمعقولات، لأنها صور عقلية. وكانت هذه التسمية مدخلا لمغالطة كبيرة ساوت تماما بين الحقيقة والخرافة.

لأن المعقولات بعضها له وجود واقعي، وبعضها لا وجود واقعي له، فقد قالوا بأن المعقولات يمكن أن توجد فعلا ويمكن ألا توجد فعلا. ومن هنا تسنى لتلك العقلية أن تطلق اسما اصطلاحيا آخر على المعقولات، بما فيها الخيالات، وقالت أن المعقولات ممكنة الوجود. وأصبح عندها إمكان الوجود العقلي يعني إمكان الوجود الفعلي. أي أن الخيال يمكن أن يكون حقيقة لأنه ممكن عقلا. فيمكن أن تتخيل أي شيء اثباتا أو نفيا، دون أن تثبت الشيء وتنفيه في نفس الوقت. سواء كان الشيء المتخيل ذات أو عرض أو علاقة أو حدث. وسمي إمكان التخيل بالإمكان العقلي. والإمكان العقلي كان مدخلا لتبرير الخرافة.

فلم يعد الواقع هو الأساس، بل الإمكان العقلي، وهو في حقيقته الخيال المحض. فلا شيء يبرر أن يكون الواقع الحسي على ما هو عليه، لأنه ممكن عقلا أن يكون خلاف ذلك. ولا شيء يمنع أن يكون ما ليس واقع واقعا لأنه ممكن عقلا. وأصبحت الخرافة حقيقة بهذه الطريقة في التفكير المتكئة على توصيف لفظي مغالط يساوي تماما بين الواقع الخارجي والخيال الذهني في إمكان الوجود الفعلي. فيمكنك أن تتخيل الواقع وأحداثه على غير ما هو عليه. وأن ذلك ممكن فعلا. فيمكن لنملة أن تصبح بقرة، ولحجرة أن تصبح عنزة. وأن يوجد أي شيء لم يكن موجودا في طرفة عين. وأن ينعدم أي شيء أيضا، سواء كان الشيء ذاتا أو صفة، مثل صفة الاحراق في النار، وقابلية الاحتراق لما هو قابل للاحتراق. أو أن تنفي وجود الكون برمته.

فما الذي لا يمكن أن يوجد فعلا، أو مستحيل الوجود، بعد ذلك؟

هو ما لا يمكن تخيله. وما لا يمكن تخيله هو اثبات وجود شيء ونفيه في نفس الوقت (التنافي الآني). والاثبات والنفي في نفس الوقت عرف بالتناقض. فالممتنع أو المستحيل عقلا (خيالا)، وبالتالي ممتنع واقعا، هو حدوث التناقض، وهو وجود الشيء وعدم وجوده في نفس الوقت. تخيل أي شيء فذاك ممكن واقعا، وغير الممكن واقعا هو ما لا تستطيع تخيله أساسا، وهو أن تتخيل وجود الشي ونفي وجوده (نقضيه) في نفس الوقت.

ولكن هذا يعني إمكان نفي الكائن الخرافي الذي يعتقدون بوجوده، ويجعلونه سببا للإيجاد من عدم وتفسير الظواهر الطبيعية. بينما ابتدعوا مغالطاتهم لتثبت وجوده أصلا. ولمنع إمكان نفي الخرافة الأساسية ابتدعوا اصطلاحا جديدا وهو اصطلاح واجب الوجود. وواجب الوجود عندهم هو ما نفيه يوقع تناقضا عقليا. أي يوقع في تسلسل الاسباب أو الدور في الأسباب. أما الدور فهو مجرد افتراض لا يقول به أحد. أما التسلسل فلا يوقع تناقضا عقليا. إذ ليس نفيا واثباتا في نفس الوقت. كما أن العقل يمكنه تخيل وتقبل تسلسل مستمر للأحداث في الماضي كما يتقبل ويتخيل تسلسلا مستمرا للأحداث في المستقبل. وتمحلوا في اثبات أن التسلسل اللانهائي يوقع تناقضا.

ما لا يستطيع العقل تخيله فعلا أمرين فقط. الأول هو العدم المطلق. والثاني هو وجود الشي وعدم وجوده في نفس الوقت (حدوث التناقض). كما أن القول بحدوث شيء من عدم مطلق أو انعدامه عدما مطلقا يتضمن تناقضا، إذ لا بد أن يمر بلحظة وجود وعدم وجود في نفس الوقت. وعليه فإن واجب الوجود الحقيقي هو المادة. والقانون الذي ينص على أن المادة والطاقة لا تنفى ولا تستحدث من عدم، يؤكد حقيقة واقعية وعقلية. والحقيقة العقلية ليست إلا الحقيقة الواقعية المدركة بالحس. فلا حقيقة عقلية إلا أصلها الواقع، والعكس غير صحيح، وهو أساس التفكير الخرافي.
ولا يجب أن نخلط بين العدم الجزئي والعدم المطلق. العدم المطلق هو انعدام المادة وفنائها، وهذا مستحيل تخيله. والعدم الجزئي هو تحلل جزئيات الوجود المركبة من غيرها الى ما تركبت منه. فينعدم وجودها كمركبات من غيرها عند التحلل وتظهر عناصرها المكونة لها. ولا تنعدم المادة انعداما مطلقا.


العدم المادي المطلق لا يتصوره العقل، لذلك لا يتساءل العقل عن سبب الوجود. والتساؤل هو تساؤل مفتعل فرضته محاولة ايجاد دليل على وجود الكائن الخرافي. والدليل على وجوده عندهم هو حاجة الكون في تغيره أو وجوده لسبب يغيره أو يوجده. ولان الكون متغير، والتغير لا يحدث إلا بإرادة، ولأن الكون مفتقر للإرادة الذاتية، فلا بد أن هناك إرادة خارجة عنه هي سبب تغيره. لقد اعتبروا القوة المحركة قوة مريدة. والارادة لا توجد إلا في كائن واع. ولم يخطر ببالهم أن القوة في الكون هي قوة مادية وجزء لا يتجزأ من المادة. بل لا مادة بغير القوة. المادة قوة. والقوة مادة. ونظروا للكون في تغيره كنظرتهم لرمي انسان لحجر، وقاسوا الوجود على حوادث جزئية إرادية للإنسان والحيوان لا تخرج أصلا عن قوى المادة وتستغلها وتستفيد منها. والجهل بالقوى المادية وأنها جزء لا يتجزأ من المادة، ولا مادة إلا بها، أعان على انتشار هذه الغلط. والتمسك به في عصر العلم مغالطة.

واذا نظرنا الى دليلهم نجده قياس منطقي. وهو قياس قائم على افتراضات خاطئة، وليس على حقائق مدركة حسيا (ضرورية)، أي ليس أساسه استقراء. وهذا جوهر الدليل الزائف. القياس الصحيح لا ينتج إلا ما يقوله الحس، لأن مادته يجب أن تكون حقيقة حسية (ضرورة). أي هو تحصيل حاصل للحس. وعندما تجد قياسا مقدماته غير مثبتة بالاستقراء، بل بافتراضات خيالية، فلا يعني صحة نتيجته صوريا صحتها واقعيا. فالصورة ستكون صحيحة متى ما افترضت صحة المقدمات والتزمت بشروط القياس المنتج.

القياس نوعان. قياس مثبتة مقدماته بالاستقراء. وقياس غير مثبتة مقدماته بالاستقراء، بل هي افتراضات أو مسلمات (مصادرات). في الأول إذا التزمت بشروط القياس الصحيحة كان القياس منتجا، وكانت نتيجته تحصيل حاصل. وإلا فهو خاطئ. أما الثاني فهو مرفوض من الأساس في معرفة الطبيعة والواقع المادي، ويمكن استخدامه في الأمور الانسانية والآراء المتعلقة بجوانب الحياة الانسانية على شرط صحة مقدماته. وفرق بين اثبات وقائع واثبات وجهات نظر في شؤون الحياة. فالوقائع لا تثبت بأقيسة بمقدمات غير مثبتة أصلا. فما بالك بإثبات حقائق علمية وكونية.

والخرافات التفسيرية قائمة على دليل زائف. وهو القياس الخاطيء من حيث مادته. وتعتبر أن صحة صورته تعني صحة نتيجته. فمادته قائمة على افتراض أو معرفة خاطئة (كاذبة). فما لم يظهر سببه المباشر، اعتبر سببه إرادة خارجة عنه. وطالما هناك إرادة مسببة فهناك كائن واع.

العوامل الفكرية لنشوء الخرافة هي اعتبار الخيالات ممكنة واقعا، والجهل بالطبيعة، والاستدلال الزائف أو الخاطيء. إلى جانب العوامل النفسية.

الحقيقة المدركة هي كل ما يدرك حسيا مباشرة إما بذاته أو يدرك وجوده بإثاره الذاتية. في الحقيقة المدركة هناك ادراك حسي مباشر اما للشيء بذاته أو ادراك مباشر لآثاره الحسية. وبدون الادراك الحسي المباشر لاثار الشيء المادي الذي لا يقع تحت الحس المباشر بذاته فلا يمكن التعرف على وجود الشيء الحسي. والاحساس المباشر قد يكون بالحواس المجردة، أو بأجهزة الرصد الحسي.

الخرافة هي الاعتقاد بوجود ما لم يدرك مباشرة بذاته أو يدرك وجوده بادراك صفاته الذاتية مباشرة.
الخرافة مجرد خيال يعتقد صاحبه أنه حقيقة خارجية. وما يجعله يعتقد ذلك هو توهمه ان الخرافة سبب لظاهره مشاهدة ولا يشاهد سببها (وخفاء سببها الطبيعي يعتبره دليل على عدم وجوده)، أو لأنه واثق في خبر غيره ويسلم بصدقه.

من مغالطات العقلية الخرافية عند تعريفها للحقيقة أنها انطلقت من المدركات الذهنية ولم تنطلق من الواقع. واعتبرت ان كل ما يمكن تصوره وتخيله يمكن وجوده. وبهذا هدمت أساس التفرقة الموضوعية بين الحقيقة والخيال. وجعلت أساس التفرقة جهلها بالطبيعة وأسبابها فيما يتعلق بتفسير الظواهر الطبيعية، واعتبرت سببها ارادة واعية، وبنت على ذلك قياسا فاسدا. والأساس الثاني هو صدق المخبر بخصوص الخرافات الأخرى. وهنا أصبحت الثقة في صدق المخبر هي أساس التفريق وليس مضمون الخبر. ولهذا ينكر المخرفون على بعضهم بعضا لأن أساس التفريق أصبح ذاتيا وليس موضوعيا وهو طبيعة الخرافة نفسها.

ومن مغالطاتها اعتبار صدق مصدر الخبر شرط كاف لصدق الخبر. فتكفي الثقة بصدق مصدر الخبر لاعتباره حقيقة غير قابلة للنقاش (قد يكون المصدر الأجداد، أو شخص حاضر أو تاريخي، مثل رجال الدين والكهنة والعرافين).الثقة بصدق المخبر ليست شرطا كافيا لصدق خبره. بل هناك شرط لازم إن توفر يبحث بعدها في صدق المخبر، وإلا اعتبر ذلك دليلا على كذبه. وهذا الشرط اللازم هو واقعية الخبر. ومن باب أولى ألا يكون خرافة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها


.. كاهنات في الكنيسة الكاثوليكية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الدكتور قطب سانو يوضح في سؤال مباشر أسباب فوضى الدعاوى في ال


.. تعمير- هل العمارة الإسلامية تصميم محدد أم مفهوم؟ .. المعماري




.. تعمير- معماري/ عصام صفي الدين يوضح متى ظهر وازدهر فن العمارة