الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقض مفهوم السببية لدى الغزالي

هيبت بافي حلبجة

2021 / 5 / 4
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


حينما نتحدث عن الإمام الغزالي يتبادر إلى ذهننا مؤلفه الشهير ، تهافت الفلاسفة ، ويتبادر إلى ذهننا أبن رشد ومؤلفه الشهير ، تهافت التهافت . وإذا ما تحدثنا عن مفهوم السببية لدى الإمام الغزالي ، تبادر إلى ذهننا مؤلفه الشهير ، إحياء علوم الدين ، ومؤلفه مقاصد الفلاسفة ورد أبن رشد عليه في هذه القضية ، إضافة إلى إطروحات كل من ديفيد هيوم ومالبرانش وأبن سينا والفارابي .
المقدمة الأولى : في مؤلفه إحياء علوم الدين ، يمايز الإمام أبو حامد الغزالي مابين مفهوم السبب ومفهوم الفاعل ، حيث يرتبط السبب بالأشياء ويرتبط الفاعل بالإله ، وإذا كانت الأسباب طبيعية مابين الأشياء وتحولاتها ، إلا إنها ليست هي الفاعل الحقيقي في موضوع العلاقة مابين السبب والمسبب . ولتوضيح هذه الفكرة ، يضرب حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي هذا المثال ، فيقول : لو إنك أخذت قلماٌ ودونت به ، وسئل طفلاٌ من الذي يكتب لقال إن هذا القلم هو الذي يكتب ، ولو سألت آخراٌ لقال إن هذه اليد هي التي تكتب ، ولو سألت رجلاٌ لقال إن هذا الإنسان هو الذي يكتب ، ولو سألت رجل علم حقيقي لقال إن الإله هو الذي يكتب . وهكذا فإن الفاعل هو الإله حتى لو كان السبب طبيعي مابين الأشياء . وهذا يفترض جملة من الأمور . الأمر الأول إن الإله موجود حقيقة وهو الذي خلق الكون والوجود ، أي إن الخلق ومضمونه ثابتتان في العلاقة مابين الإله والأشياء . الأمر الثاني إنتفاء أية إمكانية لمفهوم وحدة الوجود ، فوجودك حقيقي ومنفصل إنفصال مطلق عن الوجود الإلهي ، كما إن وجودك منفصل إنفصال مطلق عن وجود الإمام الغزالي ، فثمت وجود أول ، وجود ثاني ، وجود مليون ، وجود بعدد الأشياء . الأمر الثالث إن الإله هو سبب الشر كما هو سبب الخير . الأمر الرابع إن السبب لايمكن أن يتحقق إلا بإرادة الفاعل .
المقدمة الثانية : لكي ندرك مضمون المقدمة الأولى بشكل أوضح ، لابد من التساؤل التالي ، ماهي العلاقة الفعلية مابين السبب والمسبب بفتح الباء الأولى ، هل هي علاقة حتمية ، هل هي ضرورية ، هل هي ذاتية ، هل هي طبائعية ، تقول الأشاعرة إنها ليست ذاتية ، فلو كانت لكان السبب هو بمثابة إله ، ولتعددت الآلهات . وإذا كانت طبائعية لكانت حتمية وضرورية ، وهذا حسبهم لايتوافق مع الآية ، يانار كوني برداٌ وسلاماٌ على إبراهيم ، أي إن السبب يؤثر في المسبب على سبيل العادة وليس على سبيل الضرورة والحتمية ، وهذا ماذهب إليه أيضاٌ الإمام الغزالي . لذلك فإن توافر السبب لايعني بالضرورة والحتمية والطبائعية والذاتية إن النتيجة سوف تتحقق ، إنما هي قد وقد لا ، ومن هنا التمايز مابين السبب والفاعل .
المقدمة الثالثة : لابد أن نرى المقدمتين السابقتين من خلال منظور آخر ، فإذا أعتقد الكثير من الفلاسفة بمبدأ السببية ، في صورتها الأكثر شهرة ، إن لكل حادث محدث ، إن لكل حادث سبب ، فإن بعضهم لم يرق له ذلك ، وتم طرح التساؤل التالي ، هل مبدأ السببية ضرورة عقلية ، على غرار مبدأ عدم التناقض مثلاٌ ، أي هل هو مبدأ عقلي بالضرورة في تأصيله وفي حيثياته . يعتقد أبن رشد وأبن سينا والفارابي إن هذا المبدأ عقلي بالضرورة ، في حين ذهب ديفيد هيوم إننا نحصل على السببية من خلال العادة والتجاور والتعاقب والتكرار ، في حين إن الإمام الغزالي فصل مابين السببية في الخاص ، ومابين السببية في العام . في المجال الأول أي السببية في الخاص يكون سين هو السبب الحقيقي والفاعل الأصلي في ولادة جيم ، أي يكون هذا هو السبب القطعي والنهائي لذاك ، الأمر الذي يرفضه الإمام الغزالي ، ويؤكد إن هذا لايمكن أن يكون سبباٌ لذاك لوجود الفاعل الحقيقي والخالق الأوحد الذي هو الإله ، وفي المجال الثاني أي السببية في العام لايكون هذا سبباٌ لذاك ، إنما هذا مع ذاك ، في مفهوم عام ، إن لكل حادث سبب ، على سبيل العادة والإقتران ، وليس على سبيل الضرورة العقلية ، فلو كانت النار حارقة بالضرورة العقلية لأحرقت سيدنا إبراهيم بنفس طبيعة تلك الضرورة العقلية لكن ، كما نعلم ، لم يحدث ذلك ، ياناراٌ كوني برداٌ وسلاماٌ على إبراهيم ، وطالما إن النار كانت كذلك ، أي لم تحرق سيدنا إبراهيم ، فإن الفاعل الأصيل هو الإله ، الإله فقط .
المقدمة الرابعة : ثمت أرتباك واضح لدى الإمام الغزالي في رؤية مبدأ السببية ، إن لكل حادث سبب ، فمن حيث المنطوق هو لاينكر وجود الأسباب الطبيعية مابين الأشياء ، ومن حيث التأصيل هو يرى إن الأشياء إذا ماتصرفت فيما بينها لضرورة عقلية أو حسب طبعها ، إن النار تحرق ولابد ن تحرق ، إن الحرارة تمدد الأسلاك الحديدية ولابد أن تمدد تلك الأسلاك ، فإن ذلك يعتبر كفعل خارج عن ماهو الإله وهذا مرفوض . لذلك كي يصحح رؤيته في هذا المجال ، فإنه يغالط نفسه ويقع فريسة لمغالطة أعظم ، فهاهو يؤكد : إن مانشاهده من التقارن مابين السبب والمسبب لايجوز أن نقطع بكونه سبب الظواهر طالما إن وراء علمنا أسراراٌ خفية قد تكون هي السبب الأصح في ظهور الظاهرة . ويضرب الغزالي مثالاٌ على ذلك فيقول : إن الأعمى الذي على عينيه غشاوة ، فإذا ما أزيلت تلك الغشاوة نهاراٌ وأصبح يبصر الأشياء كما هي معتقداٌ إن الغشاوة كانت سبباٌ لعدم التبصر ، لكن ما أن يأتي الليل ، ويحل الظلام فيدرك إن النور هو سبب التبصر . وهكذا لو دققنا في موضوع فكر الغزالي ندرك بسهولة إنه يطعن في أساس معرفتنا ، ويخلق نوعاٌ من اللاأدرية حولها ، مع العلم إنه لايقصد ذلك .
المقدمة الخامسة : في مؤلفه ، المنقذ من الضلال ، تهافت الفلاسفة ، إحياء علوم الدين ، يؤكد الإمام الغزالي إن الفاعل الحقيقي هو الإله ، وهو الذي خلق هذا ، وخلق ذاك ، وخلق الأثر ، لذلك هو يخلق هذا عند هذا ، عقب هذا ، بجواره ، لا به ، أي إن الإحتراق يحدث بحكم التقارن مابين النار والقطن ، وليس لإن النار حارقة من ذاتها وبالضرورة ، فالقطن لايحترق ب النار ، أي لايحترق به ، لايحترق بالسبب الذي أقترن به ، فالشيء لايحدث بشيء آخر . وطالما إن النار ليست هي سبب الإحتراق ، فكيف يتم الإحتراق إذاٌ ، هاهو يقول : فمن أين يأمن الخصم ( أي الذي يعتقد إن النار هي سبب الإحتراق ، وإن الحرارة هي سبب التمدد في الأسلاك الحديدية ) أن يكون في مبادىء الوجود علل وأسباب تفيض منها هذه الحوادث عند حصول الملاقاة فيما بينها ، إلا إنها ثابتة ليست تنعدم ولاهي أجزاء متحركة فتغيب ، ولو أنعدمت أو غابت لأدركنا النفرقة وفهمنا إن هناك سبباٌ وراء ماشاهدناه ، لكنها لا تغيب وهذا لامخرج منه على قياس أصلهم .
المقدمة السادسة : يؤكد الغزالي إن النار ، وإن كانت سبباٌ في إحتراق القطن ، إلا إنها ليست الفاعل حتى لو سميناها فاعلاٌ تجاوزاٌ ، إنما الفاعل هو الإله ، فيشترط في الفاعل ثلاثة شروط هي غير موجودة في النار ، الشرط الأول أن يكون الفاعل حياٌ ، الشرط الثاني أن يكون الفاعل عالماٌ ومدركاٌ بما يعمل وبما يحدث ، الشرط الثالث أن يكون الفاعل مريداٌ لما يحدث ، فهل تتوافر هذه الشروط الثلاثة في النار لكي تكون الفاعل في إحتراق القطن ، وهل تتوافر في الحرارة لكي تكون الفاعل في تمدد قطع وأسلاك الحديد .
المقدمة السابعة : قي أهم كتبه الصوفية ، إحياء علوم الدين ، يؤكد الإمام الغزالي إن الإله له الخلق والأمر ، والخلق هو فعل ، والأمر هو الأثر ، أي إن الإله خلق الكون وأودع فيه أمره ، فلا ، ولا ، ولا ، إلا بهذا الأمر ، ويستشهد ، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ، 54 الأعراف . من يدبر الأمر ، 31 يونس . قل إن الأمر كله لله ، 154 عمران . أوحى في كل سماء أمرها 12 فصلت . أي إن الإله في أمره الكوني قد أودع في السبب الأثر الذي به يؤثر ، أي أودع الإحتراق في النار ، وحينما ينتقل هذا الأثر ، الإحتراق ، من السبب ، النار، إلى المسبب بفتح الباء الأولى ، القطن ، يسميه الغزالي بمفاتيح الغيب التي لايعلمها إلا الإله ، وعنده مفاتيح الغيب لايعلمها إلا هو ، 59 سورة الأنعام . ومفاتيح الغيب هي تأصيل الأثر المنتقل من السبب إلى المسبب ، والأثر هو ماأودعه إله الكون في السبب من خاصية التأثير .
والآن ، هل يصمد هذا التصور أمام التحليل الأولي والبسيط ؟
أولاٌ : في موضوع النظام الكوني ، هل يفضي هذا التصور إلى نوع من اللانظام ، إلى نوع من الفوضى ، حيث إن النار قد لاتحرق وبالتالي لن تشتعل السيجارة طالما إن النار لاتحرق من ذاتها ، ولاتحرق لضرورة عقلية . يرد الإمام الغزالي إن هذه الشبهة مردودة ، ويستند في ذلك إلى التمييز مابين الأعيان ومابين الصور المادية ، فالتحول لايحدث في الأعيان إنما يحدث فقط في الصور المادية . والآن ، وبغض النظر عن المحاولة البائسة التوفيقية في الرد على أساس الشبهة ، والتي يثيرها الإمام بنفسه ، فإنه يقع في تناقض لا مراء فيه ، فإذا كانت الأعيان لايشملها التحول ، فهذا يعني إن في الأعيان أمر ثابت ، شيء ثابت لايتغير ولايتبدل ولايتحول ، وإن هذا الأمر الثابت يتعلق بالجوهر وليس بالعرض ، طالما إن الجوهر هو الذي يحدد ، تعريفاٌ ، أس وماهية وطبع الشيء . والجوهر هو الأمر الذي به يكون الشيء الشيء نفسه ، ولن يكون الشيء الشيء نفسه إلا بهذا الجوهر تحديداٌ ، بهذا الثابت الذي هو خارج التحول ، فهو به هو ، وهو بدونه ليس . فالنار لن تكون ناراٌ إلا بالإحتراق ، وإذا إنتفى الإحتراق إنتفت النار ، وأصبحت شيئاٌ آخراٌ ، أي شيء آخر إلا أن يكون ناراٌ ، وياناراٌ كوني برداٌ وسلاماٌ على إبراهيم نفى عن النار النار نفسه وجعله أي شيء ، أي شيء آخر إلا أن يكون ناراٌ ، وهذا يقوض أساس المنظومة الفكرية لدى الإمام الغزالي ، فالنار إما أن تكون ناراٌ وتحرق ، إو لاناراٌ لاتحرق .
ثانياٌ : دعونا نمايز ، نحن ، ضمن محتوى السببية والعلية مابين مفهوم العلة والمعلول من جهة ، ومابين مفهوم السبب والمسبب من جهة ثانية .
في مفهوم العلة والمعلول : إذا ماإنوجدت العلة لابد من تحقق الأثر في المعلول بنفس الضرورة التي هي في العلة ، أي إن العلاقة مابين العلة والمعلول حتمية الوجود ، أكيدة الوقوع ، لاتخلف في الحدوث أبداٌ ، فلايستطيع المعلول ، أو الأثر في المعلول ، إلا أن يكون ، إلا أن يبرهن على وجود ذلك الأثر في المؤثر ، أي الكائن في تلك العلة ، فالمعلول هو الوجه الآخر للعلة ، لإن هذه الأخيرة تتصرف بطبعها وبذاتها ، تتصرف هكذا لإنها هي هي ، فإذا كانت سين هي علة جيم ، فإن جيم لاتستطيع إلا أن تكون ، من نفس تلك الزاوية التي بها تكون سين علة جيم . وهكذا فإن النار تحرق بطبعها وبذاتها ، والجاذبية تمارس ذاتها بذاتها ، وكذلك كافة القوانين الموضوعية .
أما في مفهوم السبب والمسبب : فإذا كانت العلة تتصرف بطبعها وبذاتها ، فإن العلاقة مابين السبب والمسبب لاتتعلق بطبع السبب نفسه ، إنما لإنه قد حدث على تلك الصورة ، مع إدراكنا إنه السبب الحقيقي والفاعل الأكيد ، فالرياح التي تقتلع الأشجار ، فإنها تقتلعها في هذه اللحظة ، وكانت قبل قليل رياح هادئة تدغدغ أوراقها ، فالرياح لاتقتلع الأشجار بطبعها إنما أستطاعت أن تقتلعها بذاتها في تلك اللحظة وفي حالة معينة . والرصاصة التي تخترق جسد معين قد تقتل صاحبه وقد لاتقتله ، فالرصاصة لاتقتل بطبعها وقد كانت قبل في يد الجاني يتلاعب بها .
والآن كيف نفهم خصوصية الإله في العلاقة السببية مابينه ومابين الكون ، فإذا كان الإله ، وحسب الإمام الغزالي ، هو الذي أوجد الكون فإن ذلك لايستقيم ، أبداٌ ، إلا إذا كان الإله هو علة وجوده ، وليس سبب وجوده ، وإذا كان علة وجوده فإنه لايخلق الكون لإن المعلول لايتأخر في وجوده عن العلة ، وهكذا ، إذا صدقت فرضية إن الإله قد أوجد الكون وهي كاذبة بطبعها ، فإن الوجود كله ، الإله والكون ، يخضع لمضمون وحدة الوجود تحديداٌ في هذه الفرضية .
ثالثاٌ : يشترط الإمام الغزالي في السبب والعلة ثلاثة شروط ، أن يكون حياٌ ، أن يكون عالماٌ بما يعمل ، أن يريد ذلك ، إن هذه الشروط الثلاثة لاتنطبق ، حتى ، على الشرط الإلهي ، ومنقوض من جهتين أثنتين ، الأولى إن إرادة الإله ، بعد كمال وجوده ، إذا إتجهت إلى أي شيء فإن موضوع الإرادة ، إما إنه في الوجود الإلهي ، وإما إنه زائد عن وجوده ، في الفرض الأول ليس ثمة داع أو غاية لتكتمل إرادة الإله نحوه ، وفي الفرض الثاني يكون الوجود الإلهي وجوداٌ ناقصاٌ أو أن يكون ذلك الزائد وهماٌ وباطلاٌ وهذا لايناسب مفهوم الإله . الثانية إن هذه الشروط تفرض على الوجود الإلهي أن تكون العلية والسببية خارجاٌ عن الوجود الإلهي ، في موضوعاتها ، في أصولها ، في تأصيلها ، وإذا كانت كذلك ، وهي كذلك حسب شروط الغزالي ، فإنها مزيفة وكاذبة ، وإلا لأصبحنا أمام تناقضات وأشكالات عديدة تطعن في الذاتية الإلهية .
رابعاٌ : إن الركيزة الأساسية لدى حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي هي إن الإله قد أودع الأثر في السبب للتأثير به على المسبب ، فهل تصدق الفكرة ، لنأخذ ثلاثة أمثلة ، فكرة الهواء ، فكرة الماء ، وفكرة السكين كصناعة بشرية . في موضوع الماء ، ماذا أودع الإله فيه ، أليس تكوينه ، خصائصه ، طبعه ، فهل أودع الإله موضوع الإختناق فيه ، نحن نشرب الماء كضرورة للبقاء أحياء وهو يشكل حوالي نسبة سبعين بالمائة من جسدنا ، وإذا ماشربناه حسب المنطق والعادة فإنه بمثابة حاجة ونرتوي ونروي أنسجتنا وأعضاءنا ، فهو في الأصل مادة صحية سليمة ، أي إن الإله ، وعلى فرض صدق فرضية إن الإله قد أودع الأثر في السبب ، قد أودع فيه ماهو محمود ، ماهو مطلوب ، ماهو ممتاز لنا ، ولم يودع فيه موضوع الإختناق ، فالإختناق ظاهرة خارجة عن طبيعة وتكوين الماء في الأصل والأصالة ، وهو موضوع حدثي ، يحدث حدوثاٌ ، له حالته ، تلك الحالة التي لاتتعلق بطبيعة الماء ولا بالعناصر المكونة له . وفي موضوع الهواء ، والهواء كذلك نحن بحاجة إلى الأوكسجين وهو نسيم بليل يدغدغ أجسادنا ، وأجساد الحيوانات ، ويرطب النباتات والأشجار ، فهل أودع الإله موضوع الإقتلاع فيه ، الإقنلاع لايحدث إلا إذا وصلت قوة الرياح وسرعتها درجة معينة ، والقوة والسرعة هي مواضيع فيزيائية ، أي إن إقتلاع الأشجار ليس أمراٌ مزروعاٌ ، مغروساٌ في طبيعة الهواء . وفي موضوع السكين ، السكين كان قطعة حديد ملقاة هناك ، ثم تعرضت تلك القطعة إلى حرارة عالية فصقلت وشحذت وغدت سكيناٌ ، فهل أودع الإله القطع في تلك القطعة من الحديد ، ثم حتى السكين فهل أودع الإله القطع فيه ، فله جانبان ، جانب قد يقطع من حيث الأصل ، وجانب آخر لايقطع ، فهل أودع الإله الأثر في جانب منه وترك الجانب الآخر .
خامساٌ : إن الفكرة الإساسية لدى الإمام الغزالي والتي أستند إليها في تصوره هذا ، هي وجود الإله ، إله للكون ، وكان السؤال ، في الأصل ، لدى هؤلاء السادة ، هل ثمة إله للكون ، وذهبوا إلى تلك البراهين السخيفة والتافهة ، في حين كان السؤال ، من المفروض أن يكون ، هل ثمة كون للإله ، أي أمن المفروض أن يكون هناك كون للذات الإلهية ، تلك الذات التي يعتقدون بوجودها ، وأمن الضروري إن يخلق الإله كوناٌ له ، ولماذا يخلق الإله كوناٌ له وهو كامل مطلق لامنتهي أزلي أبدي . إن هذا التصور يخلق جملة إشكالات نذكر منها ثلاثة ، الإشكال الأول في وجه الضرورة ، الإشكال الثاني في ضرورة الغاية ، الإشكال الثالث في ضرورة الخلود .
في الإشكال الأول : هل وجود هكذا كون ضرورة للوجود الإلهي ، هل وجود أي كون كان ضروري للوجود الإلهي ، وماهو وجه الضرورة . إذا وجد إله ما بنفس تلك السمات التي ذكرناها فكيف خطر على باله أن يخلق الكون ، أن يخلقنا ، وإذا ماخلق الكون فيجب وجود ضرورة لذلك وإلا كان الخلق مجرد إتيان عبثي مزاجي سخيف ، وإذا وجدت ضرورة لعمله ذاك فإن تلك الضرورة تمتلك ، بحكم الأمر الوقائعي ، سطوة وأستبداد وسيطرة على هكذا إله ، فهي أقوى منه وتستحكم فيه وتسيره ، بل هي التي تودع في هكذا إله ، وحسب تصور الإمام الغزالي نفسه ، أسباب السببية والعلية .
في الإشكال الثاني : من الواضح ، وفيما يخص هذا الموضوع ، إن الضرورة تقتضي الغاية وإلا لكانت الضرورة نفسها تبريرية سلوكية جانبية ، فما هي الغاية يا ترى ، هنا نحن إزاء فرضين ، إما أن تكون الغاية متعلقة بالإله نفسه ، وإما أن تتعلق بالكون . في الفرض الأول تنهدم الإلوهية لإن الكون ، حسب الفرضية ، هو الذي يمنح للإله غاية هو لايستطيع الحصول عليها بمفرده . وفي الفرض الثاني ليست للغاية أي معنى ، وتحتضن مصادرة على ذاتها ، فكيف يخلق الإله الكون لغاية تتعلق بالكون نفسه ، وحتى لو وجد تبرير لهكذا فعل ، ومن المستحيل وجوده ، فإن الغاية تكون مزاجية بالكلية عبثية بالمطلق ، فارغة كاملة الفراغ في محتواها .
في الإشكال الثالث : إذا كان الإله قد خلق الكون ، كونه ، كون خاص به ، فإن هذا الكون لابد أن يكون خالداٌ مطلقاٌ كلياٌ أبدياٌ ، وإلا فإنه قد خلق كوناٌ ناقصاٌ مؤقتاٌ معيباٌ ، وهذا لايليق بعظمته ، لكن من الناحية الثانية إن الكون لم يكن أزلياٌ ، لإنه مخلوق ، وإذا كان أزلياٌ فإنه هو : وحدة الوجود ، المبدأ الذي يرفضه الإمام الغزالي .
سادساٌ : يقول الإمام الغزالي إن ثمة ثلاثة قضايا تفضي بمعتقدها إلى مجال الكفر : إنكار البعث الجسماني ، إنكار إن الإله يعلم بالجزئيات ، القول إن الأسباب تعمل بذاتها في مفهوم السببية والعلية . وسنوضح هنا إن الأسباب ، لابد ولامناص ولامحيض ، إلا أن تعمل بذاتها ، و الأسباب هي إما أن تكون صادقة أم كاذبة ولايوجد ماهو مابينهما ، فالنار إما أن تكون كاذبة أو صادقة في الإحتراق ، والجاذبية إما أن تكون صادقة أو كاذبة في الجذب ، ولايوجد ماهو مابينهما ، أي لايوجد ماهو مابين الصدق والكذب . وإذا كانت صادقة إنهدم تصور الإمام الغزالي حول مفهوم السببية ، لإن الأسباب تتصرف عندها بذاتها وبطبعها ، فالإحتراق صادق والجذب صادق ، وإذا كانت كاذبة إنهدم أيضاٌ تصور الإمام الغزالي حول مفهوم السببية ، لإن الأسباب عندها غير موجودة أصلاٌ ، فالنار كاذبة في إحتراقها والجاذبية كاذبة في جذبها . وإذا أخذنا مثال ، يا ناراٌ كوني برداٌ وسلاماٌ على إبراهيم ، سنشاهد إن النار صادقة في إحتراقها وحسب النص نفسه : لو لم تكن صادقة في الإحتراق لما تدخلت إرادة الإله في منعها من ممارسة ذاتها ، فالنار في ذهن الإله ، وفي العلم الإلهي ، وفي معرفته ، حارقة بطبعها وتعمل بذاتها ، فالإله نفسه يقر إن الأسباب تعمل بذاتها ، لذلك فإن القوم الذين قاموا بعملية الحرق كانوا متأكدين :إن النار تحرق بذاتها ، والإله الذي منع الإحتراق كان متاكدٌ : إن النار تحرق بذاتها . وإلى اللقاء في الحلقة العاشرة بعد المائة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دعوات دولية لحماس لإطلاق سراح الرهائن والحركة تشترط وقف الحر


.. بيان مشترك يدعو إلى الإفراج الفوري عن المحتجزين في قطاع غزة.




.. غزيون يبحثون عن الأمان والراحة على شاطئ دير البلح وسط الحرب


.. صحيفة إسرائيلية: اقتراح وقف إطلاق النار يستجيب لمطالب حماس ب




.. البنتاغون: بدأنا بناء رصيف بحري في غزة لتوفير المساعدات