الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معالجة التأثيرات الثقافية بين الميتافيزيقيا والعلم

عبدالله محمد ابو شحاتة

2021 / 5 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يعاني الفكر الخرافي من ضحالة مثيرة للسخرية في معالجته لما يخص الواقع الاجتماعي، وهي معالجة دائمًا ما تكون بالغة السطحية ومبنية في أساسها على الاعتقاد الميتافيزيقي القائل بأن الإنسان سيد مصيره، وأن تصرفاته نابعة في أساسها من إرادة ذاتية مُتفردة ومنفرده.
ولو صحت تلك الصورة البدائية للسلوك الإنساني لانتفت صفة العلم عن علوم الاجتماع والنفس؛ فتلك العلوم تقوم على منهج محدد كأي علم آخر، فلو كان الإنسان خالقًا لأفعاله من العدم أو يملك السلطان الأكبر عليها لانتفت عن تلك العلوم صفة المنهجية وانعدمت عنها صفه العلم لغياب ثبات الظاهرة ووحدانية التأثير، وأصبح السلوك البشري النفسي والاجتماعي سلوكًا يستحيل معالجته علميًا.
ولكن وبطبيعة الحال فهذا مجرد هذيان عقلي خرافي، والسلوك الإنساني له نواميسه التي يسير عليها وله قوانينه التي تحكمه، والإنسان ليس سيد مصيره ولا خالق أفعاله وخيراته، والسلوك الإنساني ككل أجزاء هذا الكون خاضع لقوانين نواميس توجهه، وإن أردت أن تتحكم في سلوكه أو تغيره فعليك أن تدرس تلك القوانين والنواميس وتأثر فيه من خلالها ووفقاً لها وهو ما تفعله علوم الاجتماع والنفس
وتلك هي الحقيقة العلمية السيسيولوجية والسيكولوجية التي لا يعيها العقل الخرافي، فهذا العقل يظن أن السلوك البشري يمكن تبديله بالوعظ والكلام، ولكن و كما قال الوردي فإن الوعظ لن يحرك مجتمعاً قيد أُنمله للأمام طالما أن ظروفه الموضوعية ونسقه الثقافي الكامن في اللاوعي الفردي والجمعي لم يتبدل.
فتجد هذا العقل الخرافي يعتقد أنه طالما أن الدين الفلاني أو العقيدة العلانية تأمر بالتأخي وعدم التشاحن أو تأمر بالبر والإحسان فإن الأيمان بها ونشرها وتطبيق قواعدها ونظمها الثقافية كفيل بالفعل أن يحقق تلك الغايات، فيكفي أن أقول لك تسامح حتى تتسامح وأحسن حتى تُحسن. ولكن السلوك الإنساني ليس بهذه السطحية والسذاجة، وكل مشكلة مجتمعية لها أسبابها المتعددة والمتشابكة، ولعلاجها علينا أن نمسك حقًا بتلك الأسباب ونقع عليها، وهذا بالطبع كفيل بأن يجنبنا السقوط في التناقض الخرافي الذي قد يأمر الناس بشيء ثم يدفعهم بشكل لا شعوري للقيام بعكسه؛ فمثلاً قد تأمرنا عقيدة أو ثقافة معينة بأن نتأخى ونتسامح ونبتعد عن التعصب و الانفعال، ولكنها في ذات الوقت تدفع نحو نقيض هذا السلوك بشكل غير مباشر، بأن تقر مثلاً مبدأ الفصل بين الجنسين وتحيط الجنس بهالة من الريبة مما ينشر الكبت الجنسي الذي يزيد بالضرورة وكما هو معلوم لكل دارسي علم الاجتماع من حالات التعصب والمشاحنة والانفعال السلبي في المجتمع خاصة بين الذكور؛ فلو أمرت تلك الثقافة ليل نهار بتجنب التعصب فلن تحقق أي نتيجة تذكر طالما أنها في ذات الوقت تغذي أحد روافده. فلا يهم ها هنا التعاليم النظرية للنسق الثقافي بقدر ما يُهم تكامله واتساقه وما ينتج عنه من نتائج عملية. فلو كان النسق الثقافي فاسد أو غير ملائم لزمانه أو لمكانه فإنه سيؤدي في الواقع العملي لنتائج مُعاكسة تماماً تعاليمه النظرية، وتلك علامة معروفة لكل دارسي علم الاجتماع تدل على فساد النسق الثقافي وحاجته الماسة للتحديث. ولا يوجد في علم الاجتماع شيء يسمى ( العيب في الناس وليس في النسق الثقافي سواء الديني أو العادات والتقاليد والعرف ) فالبشر ليسوا إلا صورة لتلك النظم الإجتماعية، وفسادهم لا يمكن أن يكون ناتج سوى عن فساد النسق الثقافي وتأثيره السلبي في اللاوعي الفردي والجمعي.
وهذا التحليل العلمي الاجتماعي لا تنفذ له العقول السطحية التي تظل أسيرة الشكليات القيمية وتظن أن النسق الثقافي يؤثر فقط عن طريق تعاليمه النظرية المباشرة، وهذا أمر بالطبع لا محل له من الإعراب في العلوم الاجتماعية الحديثة.
ففكرة احتكار الحقيقة المطلقة والخلاص على سبيل المثال قد لا تبدو لتلك العقول سوى فكرة اعتقادية لا علاقة لها بالواقع الاجتماعي، ولكن وفي الواقع فإن هذا النمط من الأفكار له تأثير كبير على المجتمعات لا يلاحظه إلا من يُمعن النظر ولا يقف أسيراً للسطحيات؛ فتلك الأفكار كفيلة دائماً بتحريض الكراهية واضطهاد المختلف، ما ينتج عنها من نمط ساذج للتقسيم ( خير وشر.... صح و خطأ ) هو نمط طفولي ينمي التعصب والصراع، كما يخلق أحادية المنهج وغياب كامل للفكر المضاد وبالتالي للديالكتيك الفكري وبالتالي بقاء المجتمع دائماً حيث هو دون أي دفع للأمام؛ فالدفع للأمام لا يتم سوى بتصارع الأفكار المتعارضة وتقابلها.

وخالص القول أن التأثير الفعلي لأحد أجزاء النسق الثقافي في المجتمع لا يرتبط بتعاليم هذا النسق بشكل سطحي، بل إنه لا يُكشف عن تأثيره إلا بدراسة متعمقة تكشف عن تأثيراته الباطنية وهو ما يمكننا من إصلاحه وتنقيحه وعلاج في حالة أردنا تبديل السلوك الاجتماعي المتبع عبر تعديل اللاوعي الفردي والجمعي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلسطينيون يرحبون بخطة السداسية العربية لإقامة الدولة الفلسطي


.. الخارجية الأميركية: الرياض مستعدة للتطبيع إذا وافقت إسرائيل




.. بعد توقف قلبه.. فريق طبي ينقذ حياة مصاب في العراق


.. الاتحاد الأوروبي.. مليار يورو لدعم لبنان | #غرفة_الأخبار




.. هل تقف أوروبا أمام حقبة جديدة في العلاقات مع الصين؟