الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاله في الديانة الأيرانية القديمة 7

أياد الزهيري

2021 / 5 / 13
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


نتناول في هذا البحث أحد الديانات القديمة والكبيرة المجاورة جغرافياً للديانات ( الرافدينية, السورية, المصرية, اليونانية ) القديمة . لا شك بأن الديانة الزرادشتية برزت كديانة وضعت حداً فاصلاً للديانات القديمة التي ظهرت في بلاد فارس , وهي ديانات وثنية , وتتصف بتعدد الآلهه , وهي تشبه الديانات التي ظهرت في الديانات القديمة التي ذكرناها في حلقاتنا السابقه , ومن آلهة الديانات الأيرانية القديمه على سبيل المثال لا الحصر هو الاله (ميثرا) اله الشمس , والاله (أناهيتا) والبعض يُسميه أنيتا اله الخصب والأرض) , و(هوما) الثور المقدس , وأنتار أو أندارا اله الحرب , وهناك اله يدعى أورووانا اله قبة السماء , وغيرها الكثير , وقد قُدمت لهذه الالهه القرابين على مذابح معابدهم , وهم هنا لم يختلفوا عن الديانات للأقوام المجاورة لهم من رافدينية وسورية ومصريه وحتى أغريقية قديمة. هذه الديانة كما قلنا كانت حداً فاصلاً بين ديانات تعددت بها الآلهه الى دين توحيدي , يؤمن باله (أهورامزدا) واحد أزلي , مطلق, حكيم , لاتدركه الأبصار, موجود في كل مكان, عالم بالغيب, ورحمن , وقدير, وهو نور , وجعلت هذه الديانة من الشمس كرمز له , وأن الله لا جنس له. يدعي البعض بأنها أقدم الديانات التوحيدية التي ظهرت بالتاريخ , وأنا أشك في ذلك , والسبب أن نبي هذه الديانه , قد كان معاصراً حسب بعض المصادر التاريخية لكورش الكبير , ملك الامبراطورية الفارسية في القرن السادس قبل الميلاد , كما هناك مصادر تشير الى أدلة لغوية وأثرية بأن وجودها يرجع الى تاريخ سابق لهذا التاريخ , وحددوها بين (1500-1200 ) ق.م , وهناك من يقول أنه عاش مابين (1000-650 ) ق.م , كما ويشير المؤرخ الأغريقي (هيرودوتس) الى القرن الخامس ق.م ولكن كل هذه التواريخ المذكورة على أختلافها , تبين أنها جاءت بعد الديانة التوحيدية الأبراهيمية , حيث يُذكر أن النبي أبراهيم حسب مصدر الويكبيديا أن ولادته كانت بين( 2324-1850) ق.م وهذا يعني أن الديانة التوحيدية الأبراهيمية هي أسبق تاريخياً من الديانه التوحيدية الزرادشتية . على العموم أن محور بحثنا بالأساس هو الاله في الديانة الزرادشتية , وهي ديانة جاءت من بعد ديانات عديدة تَعبَّد فيها أنسان منطقة شمال شرق أيران الحاليه , وبعض مناطق أفغانستان وآسيا الوسطى , حيث أرتباط الأنسان بالطبيعة وخضوعه لقوانينها وتأثره بتقلباتها , وما أفزعه من ألغازها , وما حيره من طلاسمها , التي وقف أزاءها حائراً منذهلاً , خائفاً مسحوراً, متسائلاً , وهو يعيش بين أحضانها متوسلاً بأله يلوذ به من أعاصيرها وزلازلها , ويعطيه من خيراتها , ويعلمه عن مصيره فيها . هذه الحاجة وتلك التسائلات ألزمته بالحاجة الى اله يهدأ عليه من روعه , ويبث في قلبه الطمأنينة والسلام , وأن يتلمس منه منهج , يحسن من خلاله أختياراته في الحياة.
جاء زرادشت بعد شوط طويل من تخبط ذلك الأقليم في عباداته المتسمه بالوثنية , فأستوقفه قومه فيما يعبدون , فهجرهم بعيداً , وأنزوى في الجبال يتأمل الى أن جاء لهم بدين زعم من خلاله أن وحياً من الله قد نزل عليه , وأن الله (أهورامزدا) هو من خلق السماء والأرض , ولا غيره سواه , وهو مصدر الخير, ودعاهم الى هجر عبادة الالهه القديمة المدعوة بالديفا , باعتبارها أوثان , وأن الله خالق الكون , هو من يجب أن يُعبد , وهذا النص الزرادشتي يوضح ذلك ( انني أنكر الديفا , وأشهد بأني عابد للاله أهورامزدا ,مؤمن بزرادشت عدو الديفا , ونبي الله , حامد وعابد للكائنات القدسية الخالدة الأميشاسبينتا, ومعاهد الرب الحكيم على بذل ما أستطعت من خير) , هذه الأفكار والمعتقدات التي جاء بها زرادشت كانت نقلة نوعية كبيرة في عالم التدين وخاصة التصور عن الاله بين أبناء قومه ذوي الأصول الآرية , وأن في مباديء هذا الدين فيه عالم من الملائكة والذين يُسمون ب(الخالدين المقدسين) ويُعرفون ب( بأميشاسيتناس). كما أن هناك قوة تمثل الشر , وهي لا ترقى لمستوى الاله وتُمثل بالشيطان ويُطلق عليها (أهريمان) , وأن هناك الكثير من التفاصيل التي هي أمتداد لمباديء الأديان السماوية يُرجع لها في كتب تتناول الدين الزرادشتي لأننا بخصوص فقط تناول طبيعة الآله في هذه الديانة.
يكشف لنا نص من مقتبس من كتاب (أوفيستا) ترجمة (حامد عبد القادر) ص5 والذي يعكس رؤية وفلسفة زرادشت ومعالم طريقه في عقيدة الاله ( ياألهي... الى من أهرب , والى أي البلاد أذهب . ان النبلاء والرؤساء قد أنصرفوا عني , ولم يستمع أحد من عامة الشعب الى قولي , حتى أؤلئك الأفاكون حكام البلاد الدجالون , أرشدني كي أحظي برضاك . أني أدرك السر في خيبة آمالي, وأعرف السبب في فشل مسعاي, أني رجل فقير فلم يستمع اليَّ الا القليل , اياك أدعو اله الخير , واياك أستصرخ مبعث النور, فأمنحني العون والتوفيق ...أرشدني الى الطريق المستقيم المفضي الى أكتساب التفكير السليم , ربي متى ينبثق فجر الهداية لهذا العالم ... أني أضع فيك كل ثقتي , فكن أنت نفسك عوناً لي على النجاح في رسالتي وتنفيذ ما أمرتني به) . في هذا المقتبس , هو جزء من مناجات وأستصراخ زرادشت الى ربه الواحد الأحد , الذي يسمع ندائه , والذي يطلب العون منه في أتمام المهمه الملقات على عاتقه من قِبل الهه الذي كلفه بأيصال رسالته الى قومه العابدون للوثن . كما يمكننا الأشارة الى نص يؤكد فيه زرادشت وحدانية الله , ينقله لنا زين الدين عمر الشهير بأبن الوردي في كتابه ( تاريخ أبن الوردي) في ج1. ص71 , يقول النص ( انه خالق النور والظلمة , وانه واحد لا شريك له). كما أن طبيعة اله زرادشت ذو طبيعه وحدانية يتجلى كذلك في هذا النص , كما ورد (بالأفيستا ) (أني لأدرك أنك أنت وحدك الاله وأنك الأوحد الأحد , وبأني من صحة ادراكي هذا أُوقن تمام اليقين أنك أنت الاله الأوحد...) أن وحدانية الله تتجلى في هذا النص بأوضح صوره , وأنقى معانيه. ولكن هناك من وقع في أشكالية خطيرة تقول أن الزرادشتي يعبد النار , وهذا خطأ كبير, وقع فيه الكثير , في حين أن النار هي رمز للنور الذي هو الله , وهي رمزاً مقدساً , كما هي الشمس عندهم كذلك. هناك نصوص تؤكد وجود ديانة توحيدية قبل ظهور زرادشت ولكن أصابها ما أصاب الأديان الأخرى من التحريف والفساد , محاولاً أرجاعهم الى التوحيد , فجاء بالأفيستا , وهنا يذكر ( ...أراد بي أن يختتم هذه الحياة الدنيا فجئت الى الحق هادياً ولأزيل ما علق بالدين من أوشاب...) وهذا يؤكد ما ذهبت اليه في مقدمة البحث بأن الزرادشتية , هي ليست أول الأديان التوحيدية في العالم. ومن هذا النص يمكن أن نورد أحد الآراء التي تدعي بأن زرادشت هو مصلح وليس نبي , بأعتبار أن هناك من يقول أن الزرادشتية جاءت قبل ظهور زرادشت بكثير , حتى تُرجعها بعض المصادر الى الألف الرابع ق.م , في حين الكثير من المصادر تؤكد على أن زرادشت عاش بين (628-551 ) ق.م وأنه جاء لتقويم ما حصل من أنحرافات على هذا الدين . أنا أقول أن زرادشت هو كنبي أو كمصلح جاء كأمتداد لديانات سماويه سبقته , تقوم على أساس التوحيد. فالتوحيد هو النقطة الأساسية التي ركز عليها الدين الزرادشتي , ونرى ذلك أضافة للنصوص السابقة , هذا النص في كتابهم الأفيستا ( لا اله الا هو أهورامزدا), وأهورا مزدا تعني (الله الحكيم) , وللفائدة ننقل ما يؤكد هذا الخط التوحيدي والسماوي من خلال حديث للرسول محمد (ص) نقلاً عن كتاب (الأموال) لمؤلفه (ابن أبي عبيد) ص39 عندما سُل النبي (ص) عن المجوس قال ( سُنوا بهم سنَّة أهل الكتاب) ونقله كذلك الترمذي في جامع الترمذي ( ج4 ص147 ) , وهناك من الفقهاء والعلماء من أيد كتابية هذا الدين , مثل أبن حزم الأندلسي , حيث يقول في كتابه المُحلَّى ص 445 ( وأما المجوس , فقد ذكرنا في كتاب الجهاد أنهم أهل كتاب , فحكمهم كحكم أهل الكتاب) وأكد ذلك الأمام محمد بن أدريس الشافعي ( المجوس-الزرادشت, والصابئون والسامرة أهل كتاب),بالأضافة الى ذلك أكد الأمر أبي حنيفة النعمان , ومن علماء الشيعة من أكد كتابية الدين الزرادشتي , وقد ذكر ذلك في الكافي ج3 ص567 ( أنه سُئل أبو عبد الله عليه السلام عن المجوس , أكان لهم نبي؟ فقال نعم...) وأكد ذلك العلامة الأردبيلي في كتاب (مجمع الفائدة) , حيث ذكر ( قيل كان لهم نبي وكتاب قتلوه وحرقوه , وأسم نبيهم زرادشت وأسم كتابه جاماست) ج7 ص438 , وفي كتاب الطهارة للسيد الخوئي (ج2 ص48) أنه قال ( ثم أنه أذا بنينا على نجاسة أهل الكتاب بمقتظى الأخبار المتقدمة وسالم الأصحاب فهي الما تختص باليهود والنصارى والمجوس...) , ويُشير كذلك العلامة الحلي في (تحرير الأحكام) ج3 ص461 (اليهود لهم كتاب التوراة والنصارى لهم الأنجيل أما المجوس فقيل لهم كتاب ثم نُسخ ورفع بين ظهرهم فلهم شبهة كتاب فلحقوا بالكتابين في أحكامهم) .
صحيح أن الديانة الزرادشتية كغيرها تعرضت للتغير والتشويه والزيادة والنقيصه بسبب المناقلة الشفوية لتعاليمها بين المؤمنين بها , وهي فتره أمتدت أستناداً الى المصادر التي تدعي ظهورها بالقرن السادس ق.م ولكن تاريخ تدوين كتابهم (الأفيستا ) دُون في القرن الثالث أو الرابع الميلادي وهناك من يقول بالقرن الخامس , ومنهم الباحث فراس السواح في كتابه (موسوعة تاريخ الأديان) ج5 ص13 في العهد الساساني ,و كغيره , مثل الكثير من العقائد والأديان لم تسلم من التشويه والتحريف عبر الزمن , ولا ننسى أحتلال الأسكندر المقدوني لأيران عام 334 ق.م وتدمير الكثير من آثارهم وحرق مكتباتهم وقتل كهانهم , مما عرض كتابهم (الأفيستا) الى الضياع , ولذا سمى الأيرانيون الأسكندر بالملعون , ولكن بقت بعض الأناشيد وبعض النصوص الطقسية .والأبتهالات (الياشت) كما خرجت بعض الكتب التي تدافع عن ديانتهم بوجه الديانات القادمه كاليهودية والمسحية والأسلامية , وهي عبارة عن ملخصات للأفيستا , خلاصة القول أن الاله في الديانة الزرادشتيه هو ذات الاله في الديانات السماوية التوحيديه , اله واحد أحد , مصدر الخير , وخالق الكون , والرازق والمحاسب يوم الحساب , ولكن وكما ذكرنا طرأت عليه ما طرأ على غيره من العقائد والأديان من تشوهات عبر الزمن , وهذا حصل لكل الأديان ومنها الأسلام الذي لم يسلم من الأسرائيليات وما وضعه الوضاعون في الحديث النبوي من أمثال أبو هريره وكعب الأحبار , وأبن أبي العوجاء وغيرهم الكثير.
هنا نعرض مقطع من أناشيد الغاثا لزرادشت , والتي تلخص موقف وتصور الديانة الزرادشتية عن الاله بشكل واضح:
من هو قديم الزمان
من رسم المسار للشمس والقمر
من أمسك الأرض ورفع السماء فلا تقع
من أنبت الزرع وصنع المطر
من خلق الأفكار الخيرة
من سخر الليل والصباح والظهيرة تذكرة للناس
من سخر البقر والأنعام لرخاء الناس
من علم الناس الأحترام للوالدين
من هو خالق كل شيء حسن وخير في الكون
فالزرادشتيون لم يؤكدوا فقط على وحدانية الله , بل على ماهية الخير فيه , بالأضافة للخلود والكمال , وأنه ذو طبيعه مغايرة للمادة , وهو يمثل الحكمة المتعالية, وهو خالق كل شيء في الوجود. هناك نص من الغاثا يظهر بها الأراده الالهية على الوجود ؛
من هو بالأحداث موجد الحق في البدء
من أختط للشمس مسارها وللنجوم
من جعل القمر بدراً فهلالاً فمحاقاً
من أرسى الأرض ورفع السماء
من سخر الرياح تجري بالسحاب
من أوجد الصبح والظهيرة والليل تذكرة لذوي الألباب

الخلاصة؛
*الزرادشتية ديانة توحيدية , أخلاقية
*الله هو مصدر للخير فقط
*الاله أزلي , لا كفء له, وهو اله كل الوجود ومبدعه ,ويتصف بالرحمة
*الاله ينفذ أرادته من خلال روح القدس سبينتاماينو , وعبر وسائل أخرى كوسطاء للتعبير عن الأرادة الألهية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصادر مصرية: وفد حركة حماس سيعود للقاهرة الثلاثاء لاستكمال ا


.. جامعة إدنبرة في اسكتلندا تنضم إلى قائمة الجامعات البريطانية




.. نتنياهو: لا يمكن لأي ضغط دولي أن يمنع إسرائيل من الدفاع عن ن


.. مسيرة في إسطنبول للمطالبة بإيقاف الحرب الإسرائيلية على غزة و




.. أخبار الساعة | حماس تؤكد عدم التنازل عن انسحاب إسرائيل الكام