الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صناعة التجهيل والعقل المستقيل

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)

2021 / 5 / 21
المجتمع المدني


حوار أجراه فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع في لندن مع مصعب قاسم عزاوي.

فريق دار الأكاديمية: كيف تنظر إلى معضلة عدم تأصل الفكر المستنير في العالم العربي على الرغم من تراجع معدل الأمية، والازدياد المضطرد لعدد خريجي الجامعات العربية خلال العقود التي تلت استقلال العالم العربي عن مستعمريه؟

مصعب قاسم عزاوي: من الناحية المنهجية لا بد من التفريق بين عملية تعليمية تضع نصب عينيها صناعة العقل المنفتح القادر والراغب باستكشاف واستشراب المعارف والاشتباك معها نقداً وتفاعلاً وإعادة إنتاج، وهو ما يؤدي في المآل الأخير إلى تشكيل نموذج من الوعي المستنير معرفياً، يدرك عميقاً بأن الحقيقة حمالة أوجه، وأن ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة جزئياً أو كلياً هو ادعاء تلفيقي زائف ناتج عن وعي نكوصي عقيم لا يمكن له أن يسهم في تأصيل نموذج من العقل الجمعي المستنير يعتبر مقدمة ضرورية لتمكن أي مشروع نهضوي من تأصيل وتوطين جذوره في المجتمع ومقاومة القوى النكوصية التي لا تتسق مصالحها الآنية أو البعيدة الأمد مع ذلك المشروع ومفاعيله في المجتمع، وبين نموذج العملية التعليمية في العالم العربي الذي لما يبارح لأسباب ذاتية وموضوعية وتاريخية وحتى أنثروبولوجية نموذج تعليم الكتاتيب الذي حوَّل المدارس الابتدائية إلى مراكز لمحو الأمية والتلقين الببغائي، وتطوير مهارات الحفظ، والاستذكار، والذاكرة القصيرة الأمد للنجاح في الامتحان، وإقصاء أي دور فعلي لتعزيز مهارات التفكير الحر والمحاكمة والنقد والاجتهاد لاكتشاف المعارف بالاشتباك مع المقدمات الموضوعية المفتوحة والأسئلة الحرجة التي بالاجتهاد العقلي الفاعل للإجابة عنها تتحول المعرفة إلى خبرات حقيقية تتراكم في عمق ذاكرة المتعلم الاجتماعية بشكل عصي على الزمن محوها منه بعد أن تصبح جزءاً من مفاتيحه الأساسية لاكتشاف العالم وتفسيره والتفاعل معه.
ونموذج تعليم الكتاتيب عربياً لم يتوقف عند حدود التعليم الابتدائي، إذ تعضدت جل نظم التعليم الثانوي في العالم العربي لتصبح استطالات لنفس النموذج القروسطي في مستوى التعليم الثانوي بشكل قائم على تحويل دماغ الطالب فيها إلى ما يشبه «الجَرَّةَ المترعة بالصدوع»، والتي لا بد من زرق المعارف فيها عنوة، وبالكمية والسرعة القصوى، على أمل أن لا تتسرب جميعها من الشروخ والصدوع في جدار الجرة المثقوب، وبحيث يكفي ما تبقى منها للطالب أن يجتاز الامتحان الذي بعده لن يبقى في قعر الجرة أي بواق من معرفة تسربت جميعها من شقوقها بعد أن قامت بالدور الوظيفي المؤقت المراد منها وحسب.
وعلى مستوى الجامعات العربية فإن معظم الجامعات العربية قد تحولت إلى مدارس ثانوية كبيرة، تعمل بنفس النموذج السالف الذكر، مع تنحية شبه مطلقة لكل ما يتعلق بالبحث العلمي الحق الذي يتجاوز حد التجميع والقصقصة من هنا وهناك لعمل أطروحة أو بحث خلبي، لم يتجاوز الجهد العقلي فيه حيز إعطاء الأوامر للعضلات المحركة لأصابع صاحبها في النقل من هنا وهناك، بالتوازي مع حالة غرائبية يتفرد بها العالم العربي بشكل منقطع النظير عن جميع الدول الأخرى المنهوبة المفقرة في أرجاء الأرضين، وهنا أعني «الانسحاق الحضاري العميق والراسخ» تجاه «لغة السادة المستعمرين» فتجد تباهياً في جل الجامعات العربية و طلابها وكوادرها حين تكون لغة التعليم فيها «بلغة السيد المستعمر»، في إقرار ضمني بأن اللغة العربية تجافي متطلبات العلوم المعاصرة في الوقت الذي تعلم فيه كل المجتمعات النامية في أرجاء المعمورة بلغاتها الوطنية التي لا يمكن مقارنتها بأي شكل كان بالغنى الاستثنائي والقدرات الفائقة للتوليد والاشتقاق في اللغة العربية؛ وهو ما ينتج في نهاية المطاف نموذجاً من الخريجين الجامعيين المنفصلين عن حاجات مجتمعهم الحقيقية لكونهم لما يشتبكوا مع أي منها بشكل ملموس خلال تأهيلهم الجامعي. وكمثال عياني مشخص على تلك التراجيديا لا بد من الاستماع إلى الطريقة «المغرقة في انغماسها الحضيضي» لغة وأسلوباً ومصطلحات حينما يحاول طبيب -يفاخر بتحصيله العلمي باللغة الإنجليزية في جامعته- حينما يحاول شرح طبيعة المرض الذي يعاني منه مريضه للمريض نفسه أو عائلته، فتجده منزلقاً عنوة لاستخدام نمط من التواصل لا يتجاوز أسلوب العطارين والطب الشعبي القروسطي، لعدم امتلاكه لمفاتيح التواصل بلغته الأم التي تمكنه من تأصيل وعي صحي أكثر إفادة لمريضه وبالتالي مجتمعه من خلال التبسيط والشرح الوافي المتأني العلمي الرصين. ويمكن القياس على ذلك المثال في غير حقل معرفي وتطبيقي علمي تنتجه جامعات «الانسحاق الحضاري» على الطريقة العربية.
ومن ناحية أخرى فإن العملية التعليمية ومؤسساتها في العالم العربي لم تسلم من تغول «الاستبداد المقيم عربياً» عليها عمقاً وسطحاً وعمودياً وأفقياً، عبر تحويلها إلى مؤسسات «للإعداد العقائدي» والذي يعني بشكل عملي «غسيل الأدمغة الغضة بالقوة»، وإرغامها على استبطان ورؤى ونهوج فكرية لا تتطابق مع الواقع الذي يعايشه ذلك «الدماغ النضير» كما هو في حيوات أهله وأقرانه في محيطه الاجتماعي، والذي لا بد له من القبول به، واستبطانه لكي لا يتم لفظه من جسم التعليم كأهون العقابيل التي قد تعني لفظه من الحياة الدنيا وأهله إن هيج عدم خضوعه الفكري «غضبة» الطغاة والمستبدين عبر وكلائهم من فيالق العسس والبصاصين والمرتزقة والجلادين بأشكالهم وتلاوينهم المختلفة.
وهي حال مأساوية تنتج في مآلها الأخير نموذجاً تعليمياً لا يتجاوز حدود «محو الأمية»، وهو ما يفضي إلى تحول خريجيه إلى وقود جديد «بياقات مبهرجة» متسقة مع «شهاداتهم العلمية الجدارية الطنانة الرنانة»، لكل نماذج الفكر النكوصي والرجعي المدمر، و الذي لم يتح لهم تعلم الأدوات الفكرية النقيضة له في مسيرتهم التعليمية، و هو العوار الذي يشرأب ويكتسب سرعته الابتدائية الفائقة من حالة انعدام الآفاق السياسية وأي أقنية للحراك الاجتماعي المدني، وهو ما يعني في نهاية المطاف صناعة «الإنسان الأعزل فكرياً ومعرفياً» من كل ما يحتاجه ليفقه معنى الإنسان الفاعل المتآثر مع مجتمعه عطاء وعملاً، وما يستتبعه من إدراك ضروري لمعنى «المواطنة»، ليقود ذلك الإنسان إلى مصيره المحتوم بالتحول إلى «رقم بشري» في عديد «الجماهير» التي ينظر إليها جلادوها من الطغاة والمستبدين بأنها «قطيع من الشياه الشاردة» التي لا حول لها ولا قوة سوى بالإذعان والخنوع السرمديين، واللذين قد يكونان الهدفين الضمنين من كل العملية التعليمية بحسب قاموس الطغاة والمستبدين على الطريقة العربية. 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئيس مجلس النواب الأميركي: الكونغرس يدرس معاقبة -الجنائية ال


.. موجز أخبار الواحدة ظهرًا - الأونروا: المعابر البرية الطريقة




.. أمل كلوني: شاركت بجهود قانونية في قرار اعتقال كبار قادة إسرا


.. ما هي عواقب مذكرات اعتقال الجنائية الدولية بحق نتنياهو وغالا




.. عقبة أمام -الجنائية الدولية- حال صدور قرار اعتقال لقادة إسرا