الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صناعة التفاهه و النفايات الفكرية

فارس آل سلمان

2021 / 5 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


* فارس آل سلمان


انتشر مؤخرا شعار (توقف عن تحويل الأغبياء إلى مشاهير) في العديد من الاماكن العامة فى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأوروبا و استراليا بعد أن تم استغلال تطبيقات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وحسابات المشاهير لترويج (التفاهة) ونشر الشائعات واحيانا نشر معلومات ثقافية وعلمية وطبية مغلوطة. فالدفع بالتافهين إلى الواجهة والمقدمة، يعد جريمة بحق الحضارة والقيم الانسانية و الأجيال الناشئة.

هذا الاحتجاج و الرفض في مختلف القارات ينبهنا الى الكثير من الاحداث و المواقف والافعال التي طالما اثارت اشمئزازنا لتعديها قسرا على قيمنا الاخلاقية والفكرية و الثقافية بتفاهة و سطحية محتواها لانها لا تتماشى مع مستوى ثقافة المجتمع وقيمه.

ان هذا الاحساس والشعور بالاشمئزاز ليس احساسنا وشعورنا فقط، اذ يقول الكاتب النمساوي كارل كراوس "هوت شمس الثقافة أرضا، حتى أصبح الأقزام أنفسهم يظهرون بمظهر العمالقة"
كما يقول الروائي الأمريكي جورج سانتايانا "حب الشهرة أعلى درجات التفاهة".

قامت منظومة الدولة العميقة التي تحكم العالم بتسويق التفاهه والتافهين عبر دعمهم وتسويقهم ليسيطر التافهون ويحكمون قبضتهم على العالم.

كما ساعدت وسائل الإعلام الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعي هؤلاء على الانتشار و البروز في المقدمة، ودخول منازلنا عنوة بل بالقوة ورغما عنا، واصبحت عمليات تكرار ظهورهم عملية غسيل دماغ لعموم المجتمع ليتطبّع الناس تدريجيا مع هذا العبث و الانحدار القيمي و الحضاري.
بكل تاكيد ان الغاية من دفع الامعات والنكرات والحثالات من قاع المجتمعات ليكونوا مشاهيرا و نجوما بل و تسليمهم مقاليد السلطة من خلال تسويقهم اعلاميا ومن خلال قيامهم بأعمال تافهه تصور على انها اعجاز و انجاز تهدف لتجهيل وتسطيح العقل الجمعي للمجتمع.

وانتقلت عدوى التفاهه الى وسائل الاعلام الرسمية حيث باشرت بتسويق التفاهه وإلغاء القيم، وكرست التباس المفاهيم، وهدمت الموروث الثقافي بل زيفته فضلا عن تدميرها للقدوة الحسنة، حيث اصبح القدوة هو من يسرق فرص الاخرين، من يزور شهادته الاكاديمية، من يختلس المال العام، و من يجاهر بعمالته للاجنبي.

التفاهة تعني انعدام القيمة الحقيقية وغياب الإبداع، و سيادة اللاقانون كما تعني الحقارة والدناءة. و هي خير وسيلة لتهبط بالإنسانية الى يم سحيق و انهيار أخلاقي واجتماعي وقيمي. لتاخذنا الى عالم اللاعدالة، عالم الوهم و العبثية و انعدام اليقين، بل الى عالم الانحطاط و الرذيلة.

صناعة التفاهه اصبحت نظام عالمي جديد حل بديلا عن الانظمة الكولونيالية، و الدكتاتورية و المستبده لتأت التفاهه بواسطة ساعي بريد اسمه الديمقراطية. مصحوبا بشحنة من الكذب والتضليل بهدف تغيير مفاهيم و قيم الشعوب و الامم. الديمقراطية المزيفة التي كرست العبثية و الضبابية و قلب المفاهيم و حكم الرعاع الذين يقودون المجتمعات الى حتفها قيميا و اخلاقيا مما سيؤدي لانهيارها ماديا و اقتصاديا.

انتهى الابداع المهني من خلال سيادة العولمة التي قضت على المهن البشرية التي تتطلب موهبة و ابداع و حرفية و مهارة. واستبدلت عقود التوظيف بعقود العمالة المؤقته حيث لا ضمان ولا حقوق نقابية.

وتقاسمت الاحزاب اقطاعية الدولة ونهبت مواردها، واصبح موظف الدولة قناً ينفذ اوامر الحزب الذي استولى على الوزارة بالمحاصصة حتى ولو تعارضت مصالحه الشخصية مع مصلحة الوطن. اصبحت الوظيفة الحكومية وسيلة لاذلال المواطن و شراء ولائه بل لمساومته على رزقه، ليتحول موظف الدولة الذي يدفع الشعب اجره مجرد اداة بيد الاحزاب. حولت صناعة التفاهه المهن والوظائف الى وسيلة للبقاء لا غير، بحيث تخلو من العطاء والابداع و الارتقاء بالاداء.
وتم اشاعة روح الانانية و قتل روح الجماعة و محاربة الناجح و الكفوء الحقيقي والهاء المجتمع بفعاليات تافهه غير منتجه تهدف لتسطيح الثقافة العامة و القيم المجتمعية.

فنظام التفاهه يجعل من انسان تافه وقد يكون منحرف اخلاقيا، ويمتهن تجارة المخدرات يحوله الى شيخ ووجه اجتماعي وله ديوان كبير مليء بالمنافقين و المتملقين. ويجعل من مهرب سكاير او لص وضيع الى زعيم لكتلة سياسية في زمن اصبحت فيه السياسة تعني العمالة للاجنبي و تعني سرقة المال العام وبيع الوطن.

نظام التفاهه هذا يسمح لجاهل شبه امي ان يمتلك غالبية اسهم مصرف اهلي و يتحكم بسعر صرف الدولار الذي ينعكس على اقتصاد البلد.

بدعة التفاهه التي سهلت لمجموعة من النكرات و محدودي الثقافة و التعليم ان يصبحوا من كبار رجال الاعمال في بلد ما و من اغنيائه، وهم ليسوا من رجال الصناعة وانما طفيليون صنعتهم احزاب السلطة و استولوا على مقاولات حكومية اثروا من خلالها عن طريق تبادل المنفعة مع احزاب السلطة.
فيغدو هؤلاء اللصوص التافهين النكرات رمزا وقدوة في المجتمع، لا بل اصحاب رأي ومشورة في الاقتصاد و السياسة بل ونوابا في البرلمان بيدهم سلطة التشريع ولهم حصانة !!!

صناعة التفاهه تعني جعل الامعات والجهله والانتهازيين في بلد مليء بالكفاءات ان يكونوا مستشارين لسلطة اتخاذ القرار وتقرير مصير الملايين من الشعب بمشورات مسمومة مدفوعة الثمن من اموال الشعب. فالدفع بالتافهين إلى الواجهة والمقدمة لا يعني تدمير الحاضر فقط وانما يعد جريمة بحق الوطن والأجيال القادمة.

موجة التفاهة هذه جعلت سفير دولة كبرى يقوم بتقديم حلقات عن طبخ اكلات محلية ليدعم حملات تجهيل شعب الدولة المعتمد فيها سفيرا، فضلا عن تسويق التفاهه وقتل الابداع وكأنه سفيرا للتفاهه... وهذه حقيقة واجبه.

نجحت هجمة التفاهه باجبار المواطن على قضاء وقته بالاستماع و مشاهدة برامج ومنتجات منحطة و تافهه وبلا قيمة علمية او ثقافية و بفعاليات غير منتجه تشغله عن ساعات الانتاجيه الفكرية والجسدية، في حين يجب ان يقضي وقته في الدراسة والبحث العلمي و المهني للوصول الى أعلى مراتب التقدم والتطور الفكري والحضاري في ظل التطور التقني والعلمي الذي شهدته البشرية مؤخرًا فضلا عن تحديات الثورة الصناعية الرابعة.

يلاحظ ان بعض برامج و اصدارات التفاهه أصبحت بمثابة تجارة سهلة ومربحة و باتت مصادر دخل وثراء للعديد من الأشخاص عبر العالم،
وهي صناعة بمحتوى تافه يخلو من الفائدة و القيمة الفكرية، و المصيبة بل الكارثة ان هذا المحتوى الفارغ يحصد عشرات الالاف من علامات الاعجاب ليجني صاحب الاصدار مكاسب مادية كبيرة فضلا عن تحقيق شهرة واسعة.
نجحت هذه الصناعة بمحاصرتنا بالتفاهه واحيانا بعضها خادش للحياء لعدم لياقتها وخروجها عن الآداب العامة أو سخافتها وضحالة مضمونها. اذ تهدف هذه الصناعة لدفع الشعب لادمان التفاهه كي تصبح بالتالي ممارسة يومية للفرد.
إن الخلل الحقيقي لا يكمن في صناع التفاهه، بل يكمن في الجمهور غير الواعي و الذي تم تجهيله عن عمد او دفعه لليأس بسبب احباطات الحياة ليلجأ الى التفاهه هروبا من واقعه المحبط. وبمرور الوقت تصبح عادة طبيعية وممارسة يومية بل ظاهرة مجتمعية ليتحول المجتمع باجمعه الى مجتمع تافه القيم. وهذا يسحبنا نحو منحدر الجهل وهدم الحضارة وتقويض العلم وتسطيح الثقافة و حرف الأخلاق واشاعة النفايات الفكرية، وهي أمور حتما ستؤدي لانهيار المجتمع وجره إلى بؤر التفاهة والسخافة و الانحطاط، الأمر الذي سيؤثر بشكل مباشر على بيئة و تربية أبنائنا ويشوه عملية بنائهم الفكري و الاخلاقي والوطني كي يكونوا جيلا منتجا، مثقفا، متعلما، واعيا وذو تحصيل علمي، قادرا على مواجهة التحديات، ممسكا بزمام الدولة. تهدف التفاهه الى انتاج اجيال مستقبليه تافهه غير قادرة على المنافسة و بالتالي غير قابلة على البقاء و هذا يهدد كيان الدولة والامة بالزوال من خلال انتاج ادارات مستقبلية للدولة فارغة و تافهه فكريا.

وهناك رديف لصناعة التفاهه وهي صناعة وتسويق النفايات الفكرية، فهناك اناس في مجتمعنا يستغلون حادثا بخصوصية معينة لها ظروفها ليعمموا الحالة على قطاعات كبيرة من المجتمع، بهدف خلق الفتن او يبحثون عن الشهرة من خلال خلق الازمات.
فمنهم من يشارك في ورش العمل والندوات و لا يتبنى طرحا بناءا وانما يضخ حزمة من الافكار الجوفاء بهدف اضاعة الوقت بجدل عقيم و تسفيه اراء الاخرين المخالفين لوجهات نظره. وفي احيان كثيرة يستخدم عبارات مثيرة وبراقة بهدف الشهرة وجذب الانتباه كي يكسب السذج وبعض المتعلمين الذين هم اميين ثقافيا. ومنهم من هو خاويا فكريا ينظم المؤتمرات و ورش العمل بهدف الظهور على انه مثقف و او متخصص و في الحقيقة هي لا تعدو عن كونها فعالية استعراضية جوفاء تطرح كم هائل من النفايات الفكرية.
وهناك نوع آخر من أصحاب الأنفس الخبيثة من مروجي النفايات الفكرية ينشرون معلومات مضللة ويسعون لإخفاء الحقائق و اشاعة الاحقاد بين ابناء المجتمع الواحد وهدفهم هدام يضرب الامن القومي للدولة في الصميم. حيث سمح الانتشار الكبير لمنصات التواصل الاجتماعي لهؤلاء بان يبثوا سموم نفاياتهم الفكرية بهدف تشتيت وتلويث أفكار المجتمع بسمومهم. حيث اتفق المثقفون حول العالم على إن النفايات الفكرية هي أشد خطراً على المجتمع من النفايات الموجودة في الشوارع.

تنصب المسؤولية الاخلاقية و الوطنية على الشعب في محاربة والتصدي لانتشار المحتوى الهابط وتسويق التفاهة والنفايات الفكرية، فالشعب قادر على افشالها و الحيلولة دون تصدرها المشهد من خلال مقاطعتها وعدم السماح لان تكون ضمن الاهتمام و الممارسة اليومية للجمهور.

كسب التافهون ومروجو النفايات الفكرية معركة اولى لانهم باغتونا لكنهم لم يكسبوا الحرب، فهم حمل غير طبيعي خارج رحم المجتمع و سينتج ولادة غير طبيعية مصيرها الموت حتما.
سنتصدى لهم من اجل الحفاظ على قيم المواطنة، و سمو المصلحة العامة وحرمة المال العام، ورقي الخدمة العامة ونجاح القطاع العام و ديمومة و ديناميكية كيان الدولة و ازدهار السلم المجتمعي... وسنعيد إحياء فلسفة التلاحم بين الفكر والعمل لانهما يشكلان متلازمة لا غنى عنها لان العمل عبادة و سلوك. لاضير من اعتماد اقتصاد السوق لكن بوجود مؤسسات حكومية رقابية تتدخل عند الحاجة لتعديل اضطرابات السوق و منع الاحتكار والاغراق ، بمعنى آخر تتدخل لحماية المواطن والمجتمع لانها وجدت لهذه الغاية وليس للتآمر عليه وسرقة حاضره و مستقبله.
يجب ان نحترم كل مهنه لانها ركن من اركان العمل و العملية الانتاجية و الخدمية التي ترتقي بالمجتمع و تمنعه من ان يكون استهلاكيا لا منتجا.
لان صناعة التفاهه و النفايات الفكرية تشكل تهديدا للامن القومي للبلدان و تدفعها الى حتمية الزوال بسبب عدم قدرتها على المنافسة المستقبلية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحدي اللهجة السودانية والسعودية مع اوسا وفهد سال ??????????


.. جديد.. رغدة تتحدث عن علاقتها برضا الوهابي ????




.. الصفدي: لن نكون ساحة للصراع بين إيران وإسرائيل.. لماذا الإصر


.. فرصة أخيرة قبل اجتياح رفح.. إسرائيل تبلغ مصر حول صفقة مع حما




.. لبنان..سباق بين التهدئة والتصعيد ووزير الخارجية الفرنسي يبحث