الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مجتمع الحشية.. نحو نموذج تفسيري جديد

زكرياء مزواري

2021 / 5 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


مجتمع "الحشية".. نحو نموذج تفسيري جديد

كثر مؤخراً الحديث عن "تمغربيت" في وسائل الإعلام، ثم انتقل الكلام إلى حقل الثقافة، وانبرى باحثون محليون للتنظير لهذه الصيغة الجديدة التي ينبغي أن تكون عليها الوطنية المغربية. وبما أنني أنتمي إلى هذا الحقل الرمزي الاخير، آثرت الاسهام في هذا النقاش، والخوض في المعجم الحضاري الذي تمتح "التمغربيت" منه لغتها. ومن هذا المنطلق، اخترت بشكل غير ذاتي غير موضوعي تسليط الضوء على ظاهرة سوسيولوجية مغربية مركبة، تمكّن من رصد الثّابت والمتحوّل في مواقف الفاعل الاجتماعي وتمثلاته للذات وللآخر، هذه الظاهرة هي ما نصطلح عليه ب"مجتمع الحشية".

1-*ما معنى "مجتمع "الحشية"؟

قبل الخوص في المعاني التي يضفيها الفرد في "مجتمع الحشية" على أفعاله، وإدراك النموذج الكامن وراءها، نحتاج بدءاً الوقوف عند دلالة اللفظ، وضبط المدلول الذي يمنح له، بغية الوصول به إلى مفهوم إجرائي يعيننا على رصد الظاهرة المزمع مقاربتها.
نجد في قاموس "تمغربيت" لفظ "الحشية"، وهي مشتقة من الجذر ح-ش-ى، ومنها يشتق فعل "حشى"/"يحشي"/"حشيانا"و"حشوا"/"الحشية"/"حشائيات"/"حشيلو"/"تحشاتلو"/"حشاوهالو"/"حشاه"/"حشيها"... إلى غير ذلك من الصيغ الصرفية والتحويلية لهذا الفعل المتعدي بالضرورة. كما أن هناك عائلة لفظية قريبة من نفس المدلول الذي يحمله اللفظ، من قبيل: "تقولب"؛ "تزرف"؛ "تشمت"؛ "تزطم"؛ "تخور"؛"تزكر"؛...

2-* من اللفظ إلى بناء المفهوم:

نُعلن منذ البداية تحيّزنا في عملية بناء هذا المفهوم، ذلك أن طبيعة النموذج الجديد الذي نقترحه، جردناه من كمّ كبير من العلاقات والتفاصيل والوقائع، فهو نموذج يستبعد بعض العناصر باعتبارها غير دالة من وجهة نظره، ويستبقي أُخرى، ثم يربط وينسق بينها حتى تصير متماسكة، وتكون مقدرتها التفسيرية عالية؛ وهكذا، يكون المعنى الاجرائي الذي نمنحه لمفهوم "الحشية" هو كالآتي: "الحشية هي البنية اللاشعورية الكامنة وراء أفعال الكائن المغربي الاجتماعية سواء كان ذكراً أم أنثى، والتي تجعل تصرفه الاجتماعي منضبطاً بقاعدة "الربح"-"الخسارة"-"التعادل"".

3-*من بناء المفهوم إلى تنويعاته الميدانية:

كلّ معرفة سوسيولوجية هي بالضرورة معرفة جدلية بين النظري والتطبيقي، أو إن شئت قل حوار خلاّق بين إحكام العقل للواقع وتوسيع الواقع لما صدق العقل؛ وبذلك يكون هذا الذهاب والإياب بين النظري/التجربي مناط مقالتنا التي ترمي إلى تأسيس براديغم جديد يخول لنا فهم تحولات المجتمع المغربي بما هو مجتمع مؤسس على فعل "الحشية".

4-*الفرد والمجتمع وجهان لعملة واحدة:

ننطلق في البداية من مسلّمة هي كالآتي: "هناك علاقة تفاعل دائم بين الفرد والمجتمع، فهما وجهان لعملة واحدة، وليس جوهران متمايزان". وانطلاقاً من هذه المسلّمة، سنسلط الضوء على الفرد باعتباره ميكروكوزماً، لفهم ما يجري على مستوى الماكروكوزم، أو بلغة العلم التجريبي الاستقرائية الانتقال من الخاص إلى العام. ذلك أن طبيعة المجتمعات المعاصرة-والمغربي ليس استثناء منها- لم تعد وحدة كلية منغلقة على ذاتها، بل صارت بفعل العولمة والمجتمع الشبكي سائلة ومفتتة، ورصد الفرد فيها كفاعل اجتماعي (acteur social)، يعيننا على فهم ما يقع في المجتمع من تغيرات وطفرات.وقبل ضرب الأمثلة العينية على ذلك، نريد التذكير أن هذا النموذج قابل للأخذ والردّ، قابل للمراجعة والإضافة، قابل للتأكيد والتفنيد، وليس أمراً نهائياً مطلقاً.
بناء على هذا، لنعد إلى مجتمعنا، وإلى ظواهره القائمة على مبدأ "الحشية"؛ قلنا في التعريف الاجرائي السابق، أن المفهوم يصدق على "الكائن المغربي"، نظراً لأن أفعاله ذات الطابع الاجتماعي تحمل قصدية، وتتراوح بين "الربح"/"الخسارة"/"التعادل". لنضرب المثال الأول بالجانب الاقتصادي، لأننا نعتبره المجال الحقيقي الذي تبلور فيه المفهوم وارتحل إلى بقية الميادين الأخرى، وبذلك نعتبره "مفهوماً رحّالاً"!؛ عادة ما يطلق الكائن المغربي مفهوم "الحشية" على معاملاته التجارية، ذلك أن تبادل قيمة استعمالية بقيمة تبادلية في فكر هذا الفرد إلاّ وتنطوي على قصد "الحشية"، فالمشتري يتوجس من سلعة البائع، ذلك أنك تجده كثير المساومة("يَتْشَطّرْ")، بل ويسأل عن البضاعة السوق بأكمله، بينما البائع يشترط فيه أن يكون حجاجياً بارعاً حتى يبيع منتوجه، مُنطلقاً من المثل الشعبي: "الله يَجْعَل الغَفْلَة بِينْ البَايعْ والشّارِي"، أما الفرد فينطلق من مسكوكة اجتماعية: "رُدْ بالك لَيشمتوكْ/ ليْقُولْبُوكْ/ ليَحْشِيوهَالَكْ". وفي خضم الجدل بين الطرفين، يكون مقياس النتيجة: إما "الربح" أو "الخسارة" أو "التعادل". وهنا يتضح أن مفهوم "الحشية" يحمل قصداً واضحاً عند الفاعل الاجتماعي، وهو: لا وجود لفعل اعتباطي حين يكون الفعل اجتماعياً، فهو فعل محسوب ومدروس ومخطط له.

ويمكن للقارئ أن يعدد ما شاء من الأمثلة في هذا الجانب الاقتصادي المحكوم بالفعل "الحشائياتي"، أما من جهتنا فسننعطف به إلى الميدان الاجتماعي لنرى كيف يشتغل مفهوم "الحشية" بين الفاعلين الاجتماعيين. لننطلق من فعل "الزواج" كفعل تتوحد فيه العلاقة بين ذكر وأنثى قصد تأسيس مؤسسة الأسرة، وهي في غالبيتها مؤسسة طبقية، لا يقدر عليها إلاّ من توفر له رأسمال مادي يخوّل له إنشاء بيت للزوجية، خاصة في ظل ارتفاع مستوى المعيشة، ونسبة الاستهلاك، وتحوّل الفرد إلى كائن أُحادي البُعد. لذلك لا يقدم الفرد على هذه العلاقة الزوجية حتّى يهندس خطواتها، لأنها بدورها محكومة بثلاثيته النقدية: "الربح"/"الخسارة"/"التعادل"، ومعيار المجتمع هو قياس درجة "الحشية".
ويمكن أن نضرب مثالا آخر لمفهوم "الحشية" في العلاقات العاطفية، فهي وإن اتخذت الحُبّ ظاهراً، فإن باطنه مغلّف بلغة المصلحة/الحشية؛ لذلك، تجد الذكر يخطط بثعلبيته كيف يوقع بنت آوى في فخاخه، وتجد الأنثى على علم مسبق بماكرية مصيدته، لذلك تسعى جاهدة إلى استغلاله ماديا إلى أقصى قدر ممكن إن أدركت أنه مصمم على قضاء وطره، وإذا لم تلمس ذلك تركته إلى أن يسقط صريعا مغمى عليه. أو حين لا يرى أحدهما الجدوى من استمرار العلاقة الرومانسية لمّا يدخل على الخط شريك آخر له شروط البقاء أقوى من الأول، فسُرعان ما يَدُبُّ الوهن في عُرى العلاقة، وتكون اللازمة المشهورة: "الحُبْ ما يْوكّلشْ الخُبّزْ". وهكذا، يكون العقد الضمني غير المصرّح به منذ البداية: "فْطَرْ بِيهْ قْبَلْ مَا يَتْعَشَى بِيكْ" أو "حْشِيلُو قْبَلْ مَا يَحْشِيلَكْ".
إن هذه "العلاقة الحشائياتية" نجد لها حضوراً أيضاً في الميدان الثقافي، فتجد طالب العلم المغربي لا يدخل في علاقة مع الآخر مثله إلاّ إذا رأى فيها مصلحة متبادلة، تجنبا لكل "حشية" متوقعة؛ فقد يساعد هذا الطالب –خاصة عند اقتراب موعد الامتحانات- طالبة بقصد إشباع حاجة ما، والعكس كذلك، كما أن علاقتهما بالمدرسين، لا يحكمها منطق الحياد والبراءة، إذ في تزلّفهما ولعب دور الوشاية والقوادة، يختاران بدقة نوعية من يظفرون معهم بشيء من الغنيمة قد تكون التسجيل في سلك ماستر أو دكتوراه أو ما شابه ذاك، حتى لا يذهب المجهود سدى، ويكون "بيع العجل" مصيرهما.
ثم إن هذه "العلاقة الحشائياتية" تعبر عن نفسها كثيراً في لغتنا المجازية، إذ كثير من الاستعارات التي نحيى بها تصب في نفس التّصور الذي يحمله مفهوم "الحشية"، فانظر مثلا لغة فرد مغربي معطل عن العمل حين يصف آخر التحق بأسلاك الوظيفة، يقول: "والله إيلا حْشاهاَ فالمخْزنْ"، أو حين يُناضل في صفوف التنظيمات تجده حذراً مترقّباً لأنه يعلم أن مطلبه "الخبزي" يحدد له نوعية الشّعار الذي ينبغي رفعه، مُدركاً أن الذين ظفروا بالغنيمة في بلده سلكوا سبيل: "خَاصك دِيرْ السّياسة/البُوليتيكْ". كما نجد هذا المعنى حاضراً في الصورة الاستعارية التي يعبر بها الفرد المغربي عن حجم الأسى والظلم وفقدان الأمل في وطنه، مستعملا صورة الشكل الهندسي للمادة النباتية للسكر، ويقول: "أكبر قَالبْ هو تزيد فالموغريب". ولقالب السكر دلالة رمزية كبيرة في تاريخ المجتمع المغربي، ويحضر بالتساوي في جميع المناسبات، سواء كانت أفراحاً أو أقراحاً. ومنها سحب الفرد المغربي هذا الدّال الذي يحيل على منتوج طبيعي يستعمله كثيراً في أطعمته، إلى مدلول اجتماعي يفيد حجم التورط في بلده، بل يزيد عن ذلك بالقول: لم تعد قوالب السكر كيانات أفلاطونية مجردة في وطنه، بل أوحت إلى صنّاع الأدوية بشكلها المخروطي إلى ابتكار حبوب من الدواء (التحاميل أو الشميعات أو القوالب) تؤخذ في الغالب عبر إدخالها في فتحة الشرج.




5- استنتاج وتركيب:

بناء على ما سبق، يبدو أن مفهوم "الحشية" له قدرة تفسيرية عالية في فهم وتفسير المعاني التي يضفيها الفاعل الاجتماعي على فعله، ومنه نستطيع تعميم المفهوم ليشمل "الاجتماع" المغربي بأكمله، بحيث يصير مجتمعَ "حشيةٍ" بامتياز، عملاً بقاعدة: "شِي يَحْشِي لْشِي، حَتّى لْمُولْ الشِّي".


والله أعلم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات الطلبة في فرنسا ضد حرب غزة: هل تتسع رقعتها؟| المسائ


.. الرصيف البحري الأميركي المؤقت في غزة.. هل يغير من الواقع الإ




.. هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتحكم في مستقبل الفورمولا؟ | #سك


.. خلافات صينية أميركية في ملفات عديدة وشائكة.. واتفاق على استم




.. جهود مكثفة لتجنب معركة رفح والتوصل لاتفاق هدنة وتبادل.. فهل