الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القيمة والمعنى أو في تمايز الديني عن العلمي .....قراءة في مبدأ العلة الأولى

محمد المختار أحمد فال

2021 / 5 / 26
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لعل القارئ لعلم الكلام الإسلامي يدرك دون كثير نبش أن كل الأدلة التي صاغها هذا العلم على وجود الإله كانت بدون استثناء نابعة من الدليل الأرسطي في مبدأ العلية ،لكنها كلها وإن كانت تثبت وجود الإله من جهة فإنها كانت تنفيه في الوقت نفسه ، لأنها كانت تعتمد مبدأ العلة الأولى اعتمادا لا يركن إلى العقل نفسه وإنما يركن إلى شيء طارئ على العقل قوامه اليقين .
لقد تمت صياغة هذا المبدأ بعجل شديد وتم رمس كل مافيه من مصادر غير مصادر العقل نفسه ببراعة شديدة فوضع التسلسل النهائي للعلل موضع تسفيه كبير واعتبر دورا واضحا .
لكن الحقيق بالتنبيه هو أن هذا المبدأ لم يكن يوما مبدأ عقليا خالصا وأول من تفطن لهذه الإشكالية لم يكن غير ابن تيمية حين ما قال بإمكانية قيام حوادث لا أول لها ! وإن كان ابن تيمية فرق في الظاهر بين تسلسل الفاعلين وتسلسل الآثار (1) إلا أنه لم يكن في حقيقة الأمر مدركا لطبيعة التشابك بينها منطقيا فهما نفس المبدأ (طبعا كان ابن تيمية يعني إمكانية القيام العقلية وليس الوقوع الفعلي ، كان مفرقا بين إمكانية التفكر وحقيقة التيقن وهو أمر سنصل إلى ما يوضحه مع كانط ).

لقد كان ابن تيمية حريصا على فهم طابع الإيمان الذي اعترى العقل منذ أرسطو وأرغمه على التوقف عن التسلسل اللانهائي الذي يحكم العقل في جوهره ويصدر من طبيعته ولو اعتمدنا على تعريف مبدأ السببية التالي فإننا سنكون قد نحينا الكثير من العوائف في طريق تبيين حقيقته :" كل سبب لابد له من مسبب سابق عليه "
إن التمشي النهائي وإيصال العقل لحدوده القصوى ليس سوى القول بلانهائية التسلسل فيما يخص العلل فكل علة لابد لها من معلول سابق عليها إلى ما لا نهاية ، هذا هو حكم العقل !.وأي توقف بهذا التسلسل -كما يقول محمد إقبال- عند حد معين والارتفاع بواحد من هذه العلل إلى مقام علة أولى لا علة لها هو إهدار واضح لقانون العلية نفسه، و الذي يصدر عنه الدليل بجملته"(2)

لقد فهم ابن تيمية هذه الخاصية التي تم طمرها وهو ما أرغمه على أن يحود بالإله من حيز العقل فحكم بأن كل محاولة للتنزيه هي في الوقت نفسه وقوع في التجسيم من حيث إخضاع الإله لشروط العقل والتحدد بحدوده فكان حاسما حين فصل بين عالم الغيب وعالم الشهادة فصلا فلسفيا لا فصلا لاهوتيا.

طبعا سيواصل هذا الدليل الذي صاغه أرسطو ونبعت منه كل الأدلة الأخرى سيواصل سيطرته إلى حدود سبينوزا(3) الذي سيفهم بالنظر إلى المآزق التي وقعت فيها الديكارتية خطورة اعتماد هذا الدليل في إطار ثنائية الإله والعالم أو القول بالتعالي وهو ما سيرغمه على القول بالمحايثة والمشكلة لم تكن في التعالي وإنما كانت في إقامة الدليل العقلي وخاصة قصور الدليل الأنطولوجي .
إن نكتة الطرح الفلسفي العميق لم تكن إلا مع كانط(4)حين ذاد بهذا المفهوم من كل إقحاماته وجعله ضمن حدود مجالات اشتغاله فحرص على أن ينتقد الدليل الأنطولوجي نقدا لاذعا مفرقا بين الحضور الذهني للأشياء والحضور العيني لها و موضحا ببراعة فلسفية عميقة حدود الإثبات وآفاق التفكر .
لقد جسد كانط بخصوص الدليل الأنطولوجي ما كان سيف الدين الآمدي(5) يحكم به على أحوال الجبائي بجعلها موجودة في الأذهان معدومة في الأعيان ، هنا فرق كانط بين ما يمكن للعقل أن يفكر فيه وما يمكن أن يستدل عليه وهو أمر ترك كل الأدلة العقلية على وجود الإله في مأزق فلسفي كبير .
يقول نيتشه في العلم المرح مادحا كانط -وهو أمر لا يتكرر كثيرا في نصوص نيتشه- بعد أن عدد ثورات العقل الفلسفي الألماني يقول إن ثاني أكبر ثورة للعقل الفلسفي الألماني كانت :" علامة الاستفهام الكبيرة التي وضعها كانط بجانب مفهوم السببية لا لأنه عارض مشروعية هذا المفهوم كما فعل هيوم ولكن بالأحرى لأنه شرع وبحذر في تحديد المجال الذي لايزال فيه لهذا المفهوم نفسه معنى (ولازلنا لم ننته من هذا التحديد بعد)"(6).

سيفتتح فيلسوف الإسلام الأكبر في الحصور الحديثة والكلام طبعا عن محمد إقبال سيفتتح كتابه تجديد الفكر الديني في الإسلام (7) بنقد كل الأدلة العقلية على وجود الإله مبينا على خطى كانط تهافتها وسيحاول تجاوزها نحو افتتاح آفاف وجودية خاصة يمكن أن ينتصب فيها دليل حيوي و قوي على وجود الإله وهو أمر سيغرمه على اقتحام الزمانية بما في ميدانها من غموض عصي على الاختزال ..! لكن صعوبة ميدانها هو ما يعطيها جديتها اللازمة باعتبارها تجاوزا للقيمة ؛ وسيذهب إقبال في نفس السياق الذي ذهبنا فيه من خلال اعتبار التسلسل مبدأ للعقل أكثر من التوقف عند علة أولى وقد مر بنا قوله بهذا الصدد والمتعلق بأن هذا المبدأ ينسف قانون السببية ذاته.

لكن و بالعودة لإبن تيمية فإننا نجده يتشاطر مع هيدجر في محاولة تبيين خطورة إخضاع الإله للعقل والحط من قيمته فإله يحتاج إلى إثبات هو إله ناقص وهو أمر سيبينه هيدجر بكل جرأة وجسارة لازمة .
حاول هيدجر ضمن تحليله للتصور الأنطوثيولوجي onto-theo-logie للإله
وضمن تعيينات العقل الحاسب أن يبين هذه الإشكالية
وما يراه هيدجر بالتحديد هو أن كل موجود يمكن أن يقدم نفسه في ضوء علاقة السبب والنتيجة وحتى بالنسبة إلى الإله فإن تصور القداسة heilige والسمو Hohe يفقدانه السر الكامل في غيابه ، يمكن أن ينزل الإله في ضوء السببية إلى درجة السبب إلى درجة السبب الفاعل causa efficiens . ويصبح في ميدان الثيولوجيا إله الفلاسفة كذلك أولئك الذين يحددون الجلي و الضامر طبقا لسببية الإنجاز دون التفكير أبدا في المصدر الجوهري لهذه السببية "(8).
والحال أن هيدجر يعتبر أن أي تصور للإله هو بالضرورة نفي لألوهية هذا الإله من حيث هي المصدر الجوهري لكل فرق أنطولوجي .
أما بخصوص ابن تيمية فإنه ينطلق من أن أي محاولة لتنزيه الإله هي بالضرورة وقوع في تجسيمه كما ذكرنا أعلاه معللا ذلك باعتبار أن هذه الإله أصبح ضمن حدود العقل ووفق نمذجته الحاسبة .
كل هذا كان لتبيين أن موقف المثبتين للإله عن طريق العقل الحاسب لا العقل التأملي هو نفسه موقف النافين لوجوده كلاهما يصدر من نفس المشكاة وكلاهما يؤسس ضمن تصور حاسب لفكر القيمة .
لقد ظلت النقاشات ولوقت طويل في خدمة النافي لأن المثبت كان ينازله في حلبته ويرهان في هذه المعركة على الحصان الخاسر .

إن صفوة القول في هذا الصدد تكمن في أن الإلحاد في استدلاله على النفي يرتكن على تصور علمي وفكر قيمة يشاطره فيه صاحب التصور العلمي داخل الدين حين ينزل إلى ميدانه غير أن ميدان الديني والإيماني والروحي والفلسفي هو ميدان المعنى ميدان الجدية في مقابل الصرامة .
لقد حد الله جل جلاله في بداية سورة البقرة المتقي بخاصية حاسمة هي الإيمان بالغيب وهي خاصية حاسمة بالنسبة له ، بها وحدها يمكنه طرح سؤال المعنى والتفكر فيه بعيدا عن ضيق الإثبات وفخاخه ؛ ومتى ما نزل إلى حلبة القيمة فقد فرط في كسب معركته ....

الهوامش والمراجع :
(1)ابن تيمية منهاج أهل السنة الجزء الأول ص437
وكذلك درء تعرض العقل والنقل ج1 ص 368 وما بعدها
(2)محمد إقبال تجديد الفكر الديني في الإسلام ترجمة عباس محمود 1955 م ص 36
(3)راجع :سبينوزا كتاب الأخلاق ترجمة جلال الدين سعيد وخاصة الفصل الأول "في الله "
(4)راجع :كانط نقد العقل الخالص ترجمة موسى وهبة وخاصة الفصل الثالث والرابع والخامس من الباب الثالث
(5)يمكن الرجوع إلى سيف الدين الآمدي غاية المرام في علم الكلام الفصل الأول المخصص لنظرية الأحوال
(6)نيتشه ، العلم المرح ، ترجمة حسان بورقية_محمد الناجي ، إفريقيا الشرق ، الطبعة الاولى 1993 ص 222
(7)محمد إقبال نفسه ص 36 ومابعدها
(8)يمكن الرجوع في النص لأطروحة هانس كوكلر الشيقة : الشك و نقد المجتمع في فكر هيدجر ترجمة حميد لشهب جداول بيروت لبنان الطبعة الأولى 2013م








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بذكاء وتخطيط محكم نفذ اكبر سرقة بنك في بريطانيا


.. تفاصيل صغيرة منسية.. تكشف حل لغز اختفاء وقتل كاساندرا????




.. أمن الملاحة.. جولات التصعيد الحوثي ضد السفن المتجهة إلى إسر


.. الحوثيون يواصلون استهداف السفن المتجهة إلى إسرائيل ويوسعون ن




.. وكالة أنباء العالم العربي عن مصدر مطلع: الاتفاق بين حماس وإس