الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذات صباح أسود حالك

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2021 / 5 / 27
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ذات صباح أسود حالك، أرعدت السماء وأبرقت، نفخت زعابيبها وفتحت أبوابها لتغرق الأرض وأهلها مطراً وطيناً، غير عابئة بمصائرهم ومصائبهم. كأن الليل قد أرخى سدوله قبل الأوان في عز النهار، أو كأنه النهار الأسود! رأيته، صُدمت، وقفت جامداً بلا حراك، قدماي غارستان في الوحل، عيناي جاحظتان، محدقتان من فرط الدهشة والحيرة. حرب مسعورة ما بين السماء والأرض لسنا بطرف فيها، لكننا بالمحصلة عالقين بين الاثنين ولن ننجو من التبعات بحال.

فزع الحمار من هول الموقف ووثب، لتنزلق في الوحل ساقاه الخلفيتان وينهار فوق مؤخرته بينما تبقى ساقاه الأماميتان ممدودتان. وإذا بكل الحمل من فوق ظهره يخر وراءه، في الطين، وينجو الحمار بنفسه، كما ولدته أمه، عارياً من أي حمولة. ثم فجأة، أرى رجلاً تتجسد في ملامح وجهه زعابيب هذا النهار الأسود ذاته، يزحف بمشقة شديدة خارجاً من تحت حمولة البرسيم المرماة في الوحل. كأنه عفريت أسود كالح، كله من الطين الأسود الدبق. لم أميز من آدميته سوى فم شاغر يتدلى منه لسان لاهث تعلوه عينان متقدتان شرراً وغيظاً خلتهما تحدقان نحويي وستحرقانني بنيرانهما في الحال. في هذه الأثناء، كانت المواشي التي يمسك بحبالها من فوق حمل البرسيم خلف الحمار قد نالت حريتها، وانطلقت فزعة من هول الوضع كل في اتجاه مختلف، لأقصى ما استطاعت أقدامها أن تحملها فوق هذا الطين وتحت هذا المطر. وحتى تكتمل المصيبة، نهض الحمار بعدما تحرر من حمله الثقيل، لينطلق بدوره ناجياً بجلده، غير عابئ بمصير صاحبه أو ملتفتاً للوراء. لحظتها، تلفت الرجل من حوله ملتقطاً أنفاسه ومحاولاً استيعاب الموقف ولملمة الخسائر. ها هو يقف وحيداً، ممرغاً كله في الطين، بجوار حمل البرسيم الذي أنفق جهد اليوم بطوله لكي يجمعه. حيواناته جميعها لاذت بالفرار، حتى الحمار تخلى عنه وتركه وحيداً.

كيف يعوض الرجل خسارة حمل البرسيم؟ كم الجهد المطلوب لكي يسترد الحيوانات الهاربة إلى حظيرته، تحت هذا الطقس الماجن؟ وماذا عن مرمغة رجولته وكرامته في الطين؟ ما هو شعورك حين تنتصر عليك حفنة من الحيوانات الحمقى، أو حتى نفخة رياح هائجة وزخة أمطار منهمرة؟! كيف تسمح لطين وسخ أن يطرحك أرضاً، يمرمغك ويستنفدك إلى هذا الحد؟! وقف الرجل مصدوماً، غاضباً، لا يكاد يصدق. كم هو ضعيف ونكرة وتافه، بعكس ما تخيله وصدقه! المطر والطين والماشية وحتى الحمار كلها انتصرت عليه.

انتفض الرجل منتصباً، أزاح بيمناه الطين عن وجهه العابس، طوى برأسه قليلاً إلى اليسار ثم صعد بها علواً لأقصى زاوية، لتصبح مقابلة للسماء وجهاً لوجه في تحدٍ صريح، ثم ثبت كلتا يديه مقوستان فوق خصره كمن يتحدى خصم لمنازلة، وشد جسده ووثب به وثبتين من فوق مشطي قدميه وصرخ بأعلى صوته: "يعني عاجبك كدا يعني؟!"

تلفت حولي مذهولاً، إلى من يوجه هذا الرجل كلامه هذا؟! هو حتى لا ينظر نحوي رغم قربي الشديد منه، بل يتجه بغضبه وخطابه جهة الأعلى، نحو السماء. لا يوجد غيرنا نحن الاثنان في هذه اللحظة وهذا المكان فوق الأرض. طفت بنظري إلى الأعلى في السماء باحثاً عن مخاطب يستطيع هذا الرجل مخاطبته والتواصل معه لم أجد. ليس هناك غيري أنا الذي يستطيع تلقي حديثه والرد عليه. من هو الذي قد أغضب هذا الرجل إلى هذا الحد وجعله يزأر ويزعق بهذه الشكوى؟! الحمد لله، لست أنا. أنا بريء مما وقع به. الرجل نفسه يختصم ويشتكي شخصاً آخر لا أراه، ولم يقصدني ولا حتى بنظرة عابرة. لم يخاطبني بكلمة واحدة، كأنه حتى لا يراني أو أنني مجرد لا شيء في نظره.

وفجأة، إذا بانفعال الرجل يتحول 180 درجة، من الحنق والغضب والغلظة في حديثه مع السماء إلى اللين والاستعطاف والاسترحام: "استغفر الله العظيم. ليه بس يا رب كدا يا رب!. اللهم إني لا أسألك رد القضاء...". أخذت ثورة الرجل تهدأ رويداً رويداً، بعدما أيقن أن لا مفر من مواجهة الواقع كيفما كان، لينطلق إلى حال سبيله ويحاول لملمة خسائره مهما كانت. لا حل آخر أمامه مهما زعق ورفس برجله في الطين.

الحمد لله، كتبت لي الحياة من جديد. نجوت من غضب هذا الثور الهائج. هو لم يوجه ليّ أي غضب أو لوم عما قد لحق به. بل صب كل غضبه ولومه، ثم استغفاره لاحقاً، على شخص آخر لا أراه. ولما انصرف وغار، استكملت طريقي الذي قطعه بضجيجه وبرسيمه ومواشيه وحماره. لكني كنت ولا زلت أتساءل: كيف لم يراني أقف أمامه مباشرة من بضعة أمتار، بينما كان يرى ويشكو شيئاً آخر في الأعلى بالسماء لا أراه؟! هل كان حقاً يحدث شخصاً أو شيئاً آخر، أم كان مجرد يحدث نفسه، يسأل ويجيب بنفسه على نفسه؟!

هل لو كان قد رآني وأنا واقف أمامه بالفعل، وكلمني واشتكى لي وفضفض معي، كنت سأرق لحاله وأتعاطف معه وأرأف به، وربما أساعده في محنته بما أستطيع؟! لكنه لم يفعل، وأنا كأنني لم أراه أيضاً، ولم أنجده بأي شيء في ذلك الصباح الأسود.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - كان الرجل يكلم نفسه
ماجدة منصور ( 2021 / 5 / 27 - 13:34 )
ثم بعد ذلك رمى بحمله الثقيل على الله
لا ألومه قيد شعرة فهذا الإيمان العفوي قد ينقذه من الجنون لأنه خسر ثروته الوحيدة و أقصد بها حيواناته كلها0
شكرا لكم...قصة جميلة و مختصرة و معبرة و نحن نفتقد هذه القصص على صفحات الحوار
تحياتي

اخر الافلام

.. على وقع الحرب في غزة.. حج يهودي محدود في تونس


.. 17-Ali-Imran




.. 18-Ali-Imran


.. 19-Ali-Imran




.. 20-Ali-Imran