الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التنوير الإسلامي وحقوق الإنسان

هوازن خداج
صحفية وباحثة

(Hawazen Khadaj)

2021 / 6 / 1
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


من رحم المعاناة التي أشعلتها مسارات العنف الديني والمذابح العرقية والحركات العنصرية، قبل قرون عديدة، تولّد التنوير مدافعاً عن فكرة وجود "حقوق طبيعية" امتلكها الأفراد بصورة مستقلة عن المجتمع أو الأنظمة "دينية أو وضعية"، وأن مهمة هذه الأنظمة حمايتها، وتقديم ضمانات أخلاقية لإمكانية اجتماع البشر مهما كان جنسهم وانتمائهم الفكري ومعتقدهم الديني، ليتم ترسيخ الحقوق عبر منظومة واسعة من القوانين للحدّ من الانتهاكات المختلفة بحق الإنسان ووجوده.
ولكنها بقيت منذ إقرارها "حقوق مجردة" لم تخرج من الممكن إلى الواجب اتباعها، مثلها مثل التنوير الذي بقي بحمولته الفكرية والفلسفية الأوروبية بعيداً عن العالم الإسلامي. ومع دخول العالم موجة القتل باسم الدين الإسلامي، واستخدامه من قبل "مدافعين" عنه تلبية لفكرة الجهاد، تأتي الحاجة للتنوير ومعركته في عقلنة الرعب الميثولوجي وإنهاء طبيعة التديّن التناقضية. فالدين الذي وُجد لأجل الإنسان، يدخل منطقة "الفراغ من المعنى" حين يتم الخلط بين "الدين والدنيا"، "المعنى والغاية" واعتبار الحقيقة المطلقة الدينية هي وحدها حقيقة النجاة في العالم الدنيوي. فمنطلقات التنوير المختلفة بين (إدارة الفضائل الاجتماعية، وعلم سياسة الحرية، وأيديولوجيا العقل) التي اشتركت في احترامها العقل والحرية والعلم والعدالة، لخلق واقع مختلف يقبل بالعقل حَكماً لبلوغ الغاية الاجتماعية في التطور، لم تصبح قانوناً عاماً. وحقوق الإنسان المشتقة من إرث مشترك "ديني ووضعي" لضبط توازن الحياة البشرية، لم تلغِ إمكانية انتهاكه بأفكار مقدسة تحميه وتحكمه.
محاور البحث
مقدمة : في معنى التنوير ومسألة الحقّ
الدين: والحقّ الطبيعي والحقّ الإلهي
التنوير: والحقّ الطبيعي والحقّ الإلهي
التنوير بين الديني والدنيوي
المجتمع الإسلامي وحقوق الانسان
دور التنوير في حقوق الانسان
خاتمة
مقدمة: في معنى التنوير ومسألة الحقّ
مع تعدد الطرق التي يُدرس فيها التنوير، تختلف التوصيفات التي أطلقها الفلاسفة والمفكرين هوبز وكانط وفولتير ومونتسكيو وروسو وموسى مندلسون وغيرهم، لكن تلك الرسالة القصيرة لإيمانويل كانط في "أن تكون للإنسان الشجاعة على استخدام عقله" شكلت ملخصاً وجذراً لما رافق التنوير من عمليات مختلفة خلّصت الإنسان من سذاجته التي جلبها على نفسه. ( )
السلسلة المتصلة من المهام والمشاكل التي رافقت مسيرة التنوير جعلته من المشاريع غير القابلة للتوصيف السريع والمحدد، والاتفاق العمومي على الحدود الزمنية والجغرافية أو الاجتماعية، لم يضع تعريفاً للتنوير بوصفه برنامجاً ثقافياً متماسكاً، أو مرحلة تنتسب لسلسلة زمنية محددة وواضحة أو لرجل عظيم، فالتنوير منذ انطلاقته لم يشكل مرحلة تاريخية منتهية، ومازال يؤثر على حاضرنا بالسلب أو الإيجاب.
التفكير بالتنوير لا يقوم على تعريفه كمصطلح، بل على اعتباره مِرجلاً تتتفاعل فيه الضغوطات والمشكلات التي صيغت واستجيب لها بطرق مختلفة. فمن الحاجة بأن تكون الشؤون الإنسانية مقودة بالعقل، كما وصفها هيغل (أن وجود الإنسان يتمركز في فكره وأنه ألهمه بناء الواقع)، تولّد الإيمان بما يسمى "الحقوق الطبيعية" القائمة على مناهضة نظرية الحق الإلهي أو الأصل الإلهي الذي تبنته الكنيسة كمنظومة تشريعية وسلطة منذ زمن القديس "أوغسطين" وتبنيه لمقولة القديس "بولص": (كل قوة تأتي من الله) وإن الإنسان لا يمتلك معنى وجوده إلا بالخضوع لوصايا الدين الكنسي (السلطة الدينية)، التي حولت "الله" إلى سلطة مشابهة للسلطة الدنيوية ومكملة لها، والإنسان "عبداً" لقانون متعالي ديني -دنيوي، لتشكل مفارقة علاقة الله وإرادته مع وجود البشر وإرادتهم، بداية التفكير بما لله وما للبشر، والانتقال إلى مساحة مختلفة من الفكر واستخدام العقل، ضمن مسار خدمة الصالح البشري.
الدين: الحقّ الطبيعي والحقّ الإلهي
شكلت ضرورة استمرار الحياة البشرية الصيغة البسيطة في دفاع الإنسان عن حقّه الطبيعي الأول في الحفاظ على هذه الحياة ضدّ أي اعتداء خارجي، ومن ضرورة اجتماع البشر في عصورهم الأولى أنتج الواقع البشري اتفاقيات ضمنية تعادل حقّ الأشخاص على أساس فطري، ومع استقرار البشر ومسألة الملكية والاستقرار أخذت الحقوق جملة من النواظم المتعارف عليها في صيغ الدفاع عن النفس والممتلكات وجرى اعتبار الحقّ مُكمِّلاً لوجودهم وأساساً أخلاقياً لانتظامهم، لترسيخ التعاون بينهم على أساس الحاجات وتبادلها، وعدم الاعتداء على الملكية مهما كانت حدودها، ومع نمو المجتمعات لم يعد العرف التعاوني كافيًا لتثبيت الحقّ بصيغته الأخلاقية. فالمزارعون الأوائل صاروا أعنف في الدفاع عن حقوقهم والقتال لأجلها نتيجة غارات الجيران.
لقد شكل الفرق بين المؤنة والجوع، فارقاً بين حياة الشخص وحياة الآخر، بعيداً عن جدلية الأخلاق ووجودها، التي فرضت من حيث المبدأ أسس أخرى للإنتظام التعاوني تقودها الشرائع الإلهية لتشكّل بدورها إطاراً آخراً لفكرة الأخلاق والحفاظ على الحياة والملكية والمصلحة، وتم ربطها بالتدوين القانوني المقرر حسب الشرائع القديمة أو الأطر التنظيمية اللاحقة للممالك القديمة وفي الأديان، حيث عملت جميعها على تسوية الحجج لدعم صحة وجود عقيدة أخلاقية تربط البشر وتحدد حقوقهم، وكذلك واجباتهم تجاه بعضهم وتجاه القانون، باختلاف صياغته.
هذا القانون الطبيعي كان حالة مُسبقة لوجود الأنظمة الاجتماعية والسياسية الفعلية، فالحقوق الطبيعية امتلكها الأفراد بصورة مستقلة عن المجتمع أو الأنظمة " دينية أو وضعية" تسيّر وتعلي شأن الحقوق وتربطها بالحالة الأخلاقية للانتظام البشري، ليرتب هذا الربط جملة مضافة من القوننة التي أخذت تتكون عبر التاريخ في ارتباط مجالي "الدين والدنيا" واعتبار أي انتظام يجب أن يخضع لمصفوفة القوانين العلوية للأديان وما ترتبه في أمور البشر.
وقد شهدت المسيحية جملة من المتغيرات شكلت تحولاً جذرياً في النظام القانوني الديني، بصفته مؤسسة سياسية ومفهوماً فكرياً، رافق الثورة البابوية، التي حدثت حوالي العام (1072- 1121) في إعلانها تحررها من سيطرة الدولة، وتخلصها من التدخل في تعيين رجال الدين وإدارة شؤونهم من قبل موظفين حكوميين، لتُسحب السلطة الروحية بعيداً عن قررات الأباطرة والملوك باعتبارها حقهم في السابق.
لتكون فترة العصور الوسطى في أوروبا مجالاً لنمو الأفكار حول القوننة التي تجلّت عبر سيطرة السلطة الدينية ومنافستها لمجال الانتظام الطبيعي للبشر، وفي مقابل هذا الحقّ الديني قيّدت الكنيسة امتيازات السلطة الدنيوية، لتمارس بدورها كل الوظائف القانونية، بعد أن ادعت لنفسها صفة السلطة المستقلة ذات النظام الهرمي، ولها حقّ التشريع والإدارة القضائية بما في ذلك فرض الضرائب والرسوم داخل ولايتها، لتوسع مجال عملها بالسيطرة على مجالات واسعة من الأمور المدنية والعائلية، كالزواج والعائلة والإرث والطلاق.( )
لقد تم وضع القانون الطبيعي بين مفهومي القانون الرباني والقانون الإنساني، فكلاهما القانون الطبيعي والرباني هما إرادة الله، فما نجده في "الوحي" هو ما نجده في العقل الإنساني، وأن قانون الملوك "السلطة الدنيوية" يجب ألا تعلو على القانون الطبيعي ولا يناقض قوانين الكنيسة، وتضمنت هذه القوانين صفة الاستمرار والشمولية، التي أثرت على المجال الدنيوي وإدارته.
التنوير:الحق الطبيعي والحق الإلهي
لقد مثل تضيّق الحقّ الطبيعي الإنساني مقابل اتساع الحقّ الإلهي دافعاً للتنوير وتشكيله موجة التحرر لفصل مجالي (الدين والدنيا) في أوروبا، نتيجة الحاجة لمواكبة الواقع وعجز السلطات عن مواكبتها، حيث أفرز الواقع الديني في أوروبا انغلاقات مترسّخة في العقل الجمعي على مدار قرون، فمعصومية البابا ويقينيات اللاهوت، غير قابلة للانزياح أمام المتغيرات العديدة التي وضعت الدين أمام مواجهات مختلفة لا تسمح باستمرار وجوده كسلطة، ليكون التنوير أساساً لـ:
أولاً: التخلص من المشكلاته التراكمية التي تمتد لعصور سابقة، تشكلت تحت نير السلطة الدينية وعسفها، الذي بلغ ذروته وإرهابه (محاكم التفتيش) في القرنين الخامس والسادس عشر، ممهداً لانتفاضة مارتن لوثر الإصلاحية (1517) ورفضه السلطة الدينية ومعصوميتها ويقينيات اللاهوت بإرثه التاريخي وهيكله الهرمي، واضعاً اللبنة الأولى في طريق التحرر من سجون اللاهوت، وصكوك غفران الخطايا، لمسيحية القرون الوسطى. وكانت حرب الثلاثين عاماً (1618-1648) بأسبابها الدينية وبدمويتها بداية لتكوين مطالب قوننة السلطة الدينية وتخليص المؤسسة الدينية من سيطرتها على الحياة العامة والانفتاح على الأفكار الفلسفية عن الحلول لواقع يشهد اضطراباً اجتماعياً كبيراً.
وكذلك دافعاً لعلماء اللاهوت للسعي إلى إصلاح دينهم مع الحفاظ على إيمان حقيقي بالله، فعقب حركة الإصلاح البروتستانتية على يد مارتن لوثر، قامت العديد من الحركات الإصلاحية كالحركة "الميثودية" في الكنيسة الأنجليكانية، والحركة التقوية في الكنيسة البروتستانتية، والحركة الينسيتية في الكاثوليكية، وظهرت الهاسكالا حركة التنوير اليهودي التي قادها موسى مندلسون، والمذهب الرباني، الذي يقوم على أن الدين فطرة موجودة في الإنسان أساساً والمعلومات الدينية يمكن تحصيلها بإعمال العقل دون الخضوع لتعاليم وطقوس أي مذهب ديني بعينه.
ولم يعد الدين منظومة اعتقال للروح والفكر بعد الإصلاح الديني اللوثري (مازرعه لوثر في القلوب هو حرية الروح) كما قال هيغل، ولم يعد الفكر خاضعاً لقيود قيم السلطة الدينية التي ترسّخت ورسّخت معها التعصّبات والخرافات، بتأثير فلاسفة التنوير.
ثانياً: ترسيخ انفتاح آفاق التبادل الشامل للأفكار والثقافات والمواقف التي مكّنت من فهم التصادمات العنفية بين الأفكار الجديدة والتقاليد القديمة، فالثورة الصناعية والتوسع الاقتصادي وما رافقهما من متغيرات اجتماعية وسياسية ساهمت في تحطيم الحواجز بين النظم الثقافية والانقسامات الدينية بين الجنسين وبين المناطق الجغرافية، فقد حمل التنوير الفرنسي أفكار التنوير البريطاني بطرحه لمسألة (الفضائل الاجتماعية) التي تربط الناس بعضهم ببعض بطريقة طبيعية لا تهمل دور العقل، ولما ابتدعته المستعمرات البريطانية في أمريكا بنشر علم جديد للسياسة الذي كان له دوراً في إدارة الغرب نحو وجهته الحداثية.
ثالثاً: عدم قابلية يقينيات اللاهوت واعتبارها كل مايأتي من خارجها كفراً وهرطقة، للصمود بوجه فكرة التقدم القائمة على العلم الذي تبلور رسمياً مع الثورة الشاملة في أوروبا. فمنذ نظرية "غاليليو" حول دوران الأرض (1543)، وتشكيكها بنظرية بطليموس التي تدعم يقينها الكنيسة، اتسعت حدود المواجهة بين الدين والعقل (العلم، المعرفة)، ومع نمو الوعي الجديد المحمول على النموذج الكوبرنيكيّ/النيوتني ومنهج الشك في كل الأشياء (المنهج الديكارتي) تغيّرت نظرة الإنسان إلى نفسه كحجر الأساس في الخلق، وتغيّر معها الفهم اليهودي/المسيحي للكون المُسلّم به. فالنهضة العلمية أسست لعالم متحول من الناحيتين الثقافية والمادية، فتفوق الإنسان لا يكمن سوى بالعلم وغائياته في العمل والممارسة لتسيير الوجود بما يتماشى مع كل عصر، وصار العلم والعقل أداة لمعرفة الخالق وفهمه، فلم يعد متداخلاً ومتفاعلاً مع الأحداث ومستجيباً لأفعال وصلوات مخلوقاته، إنما دوره متلازماً مع القوانين الأبدية وترتيب القوانين الفيزيائية الصارمة للكون التي لم يملك لها العلم تفسيراً ولم يدحض بأنها من عند الله.( )
رابعاً: لتحديد علاقة القانون الإلهي والطبيعي بالقانون الإنساني، وعلاقة القانون الكنسي بالقانون الدنيوي، وعلاقة القانون الذي شرّع بالعرف والأنواع المختلفة من القوانين الدنيوية – الاقطاعي، الملكي، الحضري..- بعضها ببعض. فقد مهدت ثورة التنوير وبداية الصراع بين الدين والدنيا "مطالب المسيح ومطالب القيصر" في إيجاد "كيان قانوني" من القواعد والمفاهيم، والنصوص والإجراءات القانونية للقضايا المتغيرة كالولاية القانونية، الجريمة، العقد، الملكية وغيرها التي تحولت لعناصر بنيوية تتشكل منها النظم القانونية الغربية. بعد تمكنها من فصل الدين عن الدولة.
التنوير بين الديني والدنيوي
السعي لعقلنة الرعب الميثولوجي، وإنهاء طبيعة التديّن التناقضية، المرتبط بالمواقف ضد الدين التي دعمها التنوير والثورة الفرنسية 1789، جعل الغالبية تعتقد أن التنوير لم يُعنَ بشيء سوى الدين، وإنه عصر نفي وجود الله، أو الإقلال من شأن المعتقد الديني، لكن مراجعة رسالة التنوير التي قدمت في إنكلترا وأمريكا وحتى فرنسا، تدل على أن الأساس في عمل التنوير هو إعادة الترتيب للوضع الاجتماعي، فالهامش الأكبر لعمل الفلاسفة كان قائماً على إخضاع مشكلات الواقع لمعالجات عقلية وفكرية، فمن ضرورة نشر الفكر الحر التنويري وقابلية تجذيره في البُنى الاجتماعية التقليدية العاجزة عن حلّ المعضلات، نتجت الحاجة للتنوير في فكره الإنساني. ومن رفض الأسطرة (الصياغات التاريخية للدين) تشكّلت ضرورة قيام مجتمع يصل إلى السيطرة على ذاته من أجل المصالحة مع الجميع.
وقد شهدت رسالة التنوير اختلافاً كبيراً في الطرح بين الفلاسفة وعلى صعيد الواقع، نتيجة اختلاف البُنى السياسية والمجتمعية في بلدان مثل بريطانيا وأمريكا وفرنسا والتفات كل منهم نحو ما يخدم واقعها المجتمعي وحاجتها، فبريطانيا شهدت إصلاحاً دينياً مُبكراً أدى الى استقرار سياسي جعلت من (إدارة الفضائل الاجتماعية) أصلاً للتنوير. وأمريكا حملت الإصلاح الديني والثورة السياسية كميراث من بريطانيا وبحثت عن الاستقلال اعتبرت (علم سياسة الحرية) جزء من هذا الميراث، أما فرنسا التي كانت بعيدة عن الإصلاح الديني والثورة السياسية فكانت على أتم الاستعداد لتحقيق (أيديولوجيا العقل) بالثورة. ( )
لتكون منطلقات التنوير المختلفة بين (إدارة الفضائل الاجتماعية، وعلم سياسة الحرية، وأيديولوجيا العقل) واشتراكها في احترامها العقل والحرية والعلم والعدالة، أساساً لخلق واقع مختلف يقبل بالعقل حكماً لبلوغ الغاية الاجتماعية في التطور، وجزءاً من مسار تاريخي لعقلنة العالم، عبر:
أولاً: فصل الديني عن الدنيوي: سعى رواد التنوير لتثبيت الفهم القائم على "معقولية الدين" وتخليص الدين مما يحتويه من متناقضات كجزء من مساعدة الإنسانية على الانتقال المتدرج من "الإيمان النظامي" إلى "الإيمان الحر" المبني على العقل الذي به وحده يمكن تبليغه إلى أي كان بغرض الإقناع.( )
وكانت الدعوى للفصل بين(الديني والدنيوي) والتحول إلى الدنيوية إصلاحاً لوظيفة الدين في المجتمع، دون أن يعني هذا تغييراً في الدين نفسه، ففكرة هيغل عن (دهاء العقل) لم تحول العناية الإلهية إلى شي دنيوي، ومجتمع ماركس اللاطبقي لم يحول العصر المسيحي إلى شيء دنيوي. واعتبار الإيمان شأناً حراً، لم يُفقد الدين معناه ويحوله إلى مسألة شخصية معزولة، فهذا النوع يأتي حين تمنع حكومة استبدادية أماكن العبادة، وتحرم المؤمن من ممارسة طقوسه علناً، بل أفقدته العنصر (السياسي – الدنيوي) الذي اكتسبه خلال القرون التي تصرفت فيها الكنيسة كوريثة لإمبراطورية روما، مرسّخة لعلاقة تصادمية مع السلطة والدين معاً لا يمكن التخلص منها ما لم يستطيع المؤمن أن يكون عضواً في الكنيسة ويتصرف وفقاً للتحول إلى الدنيوية، باعتبار الميدان الدنيوي العام أو السياسي، يستوعب الميدان الديني العام لا العكس.( )
ثانياً: التسامح وأنسنة اجتماع البشر: بغض النظر عن تسامح الدين أو عدمه، فإن المجتمعات الدينية لا تعتبر بعمومها مجتمعات متسامحة، كونها مبنية على أحكام وشروط مسبقة في قبول الآخر، ومبنية على أحكام مطلقة بالدين "الحقّ" التي تمثل حقيقة إيمانية لدى المتدينين تُفقدهم معنى التسامح، مقابل تعزيز التعصب للدين وإشكالياته المتراكمة مع اكتساب الدين لقوة سياسية مضافة على قوته كمقدس، وهو ما يمكن استخلاصه من الحروب الدينية لتوحيد الكنائس تحت النظم الملكية، وما خلفته من دمار احتاج لصلح إنساني (وستفاليا 1648) لوضع حدّ للنزاع بين الطوائف، وفتح المجال للدول المختلفة أن تستوعب في حدودها أفراداً من انتماءات دينية مختلفة. لقد شكل إخضاع كافة الظواهر الاجتماعية والروحية المتصلة بها، للفكر الإنساني التنويري للوصول إلى مجتمعات قابلة للتقدم، وهذه لم تتحقق إلا عقب صراع لخّصه نيتشه بأنه( يجب أن يكون التنوير منتشراً في الشعب بعد أن أصيب الكهنة بسوء الضمير من كونهم كهنة. ويجب فعل الأمر نفسه مع الدولة، ومهمة التنوير جعل الناس يعون طبيعة الأمراء ورجال الدولة وأن جلّ أفعالهم أكاذيب ملفقة).( )
ثالثاً: شرعية استقلال الحقوق الطبيعية الإنسانية: شكلت جملة المفاهيم مثل: الأخلاق والكرامة الإنسانية والعدالة وغيرها، التي تتداولها الأديان باعتبارها مطلقات دينية، أساساً لتسوية الحجج والتأكيد على ضرورة اجتماع البشر، فالأديان بعمومها عملت على دعم صحة وجود عقيدة أخلاقية تربط البشر وتحدد حقوقهم، وكذلك واجباتهم تجاه بعضهم وتجاه القانون الديني، باختلاف صياغته.
لكن اعتبار هذه الحقوق الممنوحة دينياً هي الأساس الأخلاقي "الوحيد" الصالح لكل زمان ومكان وإلى الأبد، لم تكن تتناسب مع تطور العصر والحاجة لقانون عام. فالقانون الكنسي الذي وضعه الراهب الإيطالي غريشِيَن سنة 1140، استكمالاً للإصلاح "الغريغوري" استند على مدوَّنة جستنيان "القانون الروماني" وغيرها من المصادر، كان قاصراً عن استيعاب المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكان ضمن مسعى الكنيسة في الحفاظ على نظامها المؤسسي الديني وتأكيد انفصالها عن السلطة السياسية وتدخلها بالأمور الدنيوية، لم يكن يتماشى مع قيام الحكومات الدنيوية الدول القومية، ودول المدن وغيرها باعتبارها مؤسسات مستقلة خلال فصل الحق الإلهي عن حقوق البشر.
لقد شكلت جملة المطلقات الدينية أساساً في جدل التنوير وأفكار الفلاسفة، والعمل على تأصيل مبادئ حقوقية لا تتعلق بالاعتقادات الدينية، وإن تقاطعت معها؛ فالبشر لم يعيشوا يوماً بلا حقوق، ومنذ أرسطو والمدرسة الرواقية شكّلت الحجّة الأخلاقية ووجود "نظام أخلاقي طبيعي" يوفر الأساس لكل الأنظمة المنبثقة دينية أو وضعية، ويقدم المعايير الشاملة لتقييم شرعية النظام القانوني الفعلي.
وتمّ الاستكمال الأخلاقي الفلسفي لإطار الحقوق مع "أمانويل كانط" في تقديمه التبريرات الفلسفية لإمكانية تأمين مبادئ المساواة والاستقلالية، وتبرير الحقوق وتقرير الذات على أساس سلطة العقل البشري، في فعل الصحيح من خلال التزام جميع الأفراد العقلانيين وليس من خلال سعي الفرد وراء مصالحه أو رغباته الشخصية، ليصل إلى مفهوم الحقوق بشكلها المجرّد والقطعيّ من الناحية الأخلاقية بعبارته الشهيرة " تصرّف بحيث يصبح تصرّفك قانونًا عالميًا".
شكلت أهمية الأفكار حول الاستقلال الأخلاقي والكرامة الإنسانية والحرية والمساواة، التي قدمها فلاسفة التنوير أساساً للخروج عن أن الحياة البشرية قائمة ومتأسسة على الدين وحده، وللخروج عن حالة التفاوت بين البشر واعتبارهم متساوين في مسألة الحقوق الإنسانية الطبيعية، كما شكلت أساساً للعديد من المواثيق، مثل: ميثاق الاستقلال الأمريكي، وإعلان الجمعية الوطنية الفرنسية لحقوق الإنسان، ومواثيق حقوق النساء التي دافعت عنها “ماري ولستونكرافت” وتوسيع دائرة الاقتراع السياسي لجوانب المجتمع التي حُرمت من امتلاك الحقوق السياسية والمدنية.
المجتمع الإسلامي والحقّ الطبيعي
رغم أن المبدأ الديني الإسلامي لم يقم على نكران الحقوق الطبيعية للمسلمين، بل أكد عليها في تنظيم المجتمع، إلا أن مسألة الخضوع للتنظيم الديني والعادات والتقاليد والتوفيق بينهم، كوّنت مع الزمن جملة مفارقات، ففي الدين الإسلامي حمل النص القرآني العديد من الوصايا التشريعية التي تحولت لنظام عقوبات ديني عبر ما يسمى بتطبيق الحدود الشرعية، ورسم صوراً لمسالك مجتمعية تاريخية أو أسطورية ( قوم فرعون، قوم لوط، .. ) كانت سبباً في دمارها، وبالتالي هي منافية لما أرادت الرسالة الإسلامية تأصيله من قيم أخلاقية ومسلكية اعتماداً على قاعدة (التفكير والتذكر والتعقل والتدبر ثم التوسّم).
لكن اتباع هذه القاعدة القابلة للتجدد والتغيير حسب متطلبات العصر، لم تكن هي أصل القانون. فمنذ قيام الإمبراطورية جرى اعتماد قانون "الشريعة الإسلامية" الذي يعادل السجل الكامل للأوامر "الربانية" النافذة في البلاد، وكان من المسلّم به أن الحاكم الدنيوي سواء أكان خليفة أم أميراً، هو أمير المؤمنين ومُطبّق للنظام الشرعي، ولم يكن هناك تفريق في المفاهيم بين الديني والدنيوي.الأمر الذي جعل التفكير بالحقوق مرتبطاً بما أقرّه القرآن أولاً ثم السنة النبوية وإجماع الفقهاء، لتتقلص إمكانية قيام قوانين وضعية تتناسب مع متغيرات الحياة العامة، إلى حدود ما يجب على المؤمن اتباعه ليفوز يوم الحساب.
لقد لعبت مسألة الإختلاف بين الدينين من ناحية القوننة دوراً كبيراً في تطور "القانون الديني" ومسألة الحقوق الإنسانية القائم على حاجة الدينين إلى هيكلة اجتماعية- سياسية لدعمه. ففي الوقت الذي عملت فيه الكنيسة على إخضاع كافة المصادر القانونية والعرفية لمنهج الجدل الذي طوره "بيتر أبيلار" ليقوم على نمط جديد من التحليل والتركيب، وجرى تطبيقه على القانون واللاهوت ليتيح للكنيسة إعلان نفسها "كيان مستقل من الناحية القانونية والسياسية" لها قوتها وتأثيرها على المجتمع الغربي باعتبارها مسؤولة عن إدارة الأمور الدينية والدنيوية. كان الدين الإسلامي في عصر قوته بحيث لم يحتاج إلى القيام بتعديلات تخصّ قانون الاجتماع الأساسي وما كانت تفرضه الحاجة تجري إضافته ودمجه تباعاً في الشريعة للحفاظ على الوضع القانوني الشرعي.
ومع مرور الزمن توقف غنى الحضارة الإسلامية فكرياً، ولم يتحقق أي تحول جذري في الأشكال السياسية والتشريعية والاجتماعية والمؤسسية، حيث اتجه تطوير النظام الشرعي الإسلامي، القائم أصلاً على أساس مصادر مقدسة، إلى ترسيخ هذه المصادر وتدعيمها، دون أن يُدخل معها مصادر قانونية أخرى قد "تنافس" الشريعة أو تندمج معها، كما فعلت الكنيسة.
فقد عمل الفقهاء على:
أولاً: تثبيت النظام القانوني في مسألة حقوق المسلمين، واستكمال البنية "المقدسة" له من خلال ضمّ الأحاديث النبوية للبنية التشريعية القضائية، وإن أخضعت صحة "الأحاديث النبوية" إلى فكرة التحقق، لكنها بقيت إسناداً إلى أقوال مضى عليها زمن طويل، تم اعتماده بتنظيم أصول الفقه: مصادره، ومادته، وأنماط الاستدلال المباحة فيه، التي بدأ العمل عليها الفقيه الشافعي، لتثبيت الشرع الإسلامي بحيث ما عاد ممكناً إضافة تجديد جديد، وإن جرى بحثه ضمن مبادئ فقهية مختلفة مثل( الولد للفراش) أو (لا طلاق ولا عتق بالإكراه) ولكنها لم تدخل أصول الفقه إلا إذا ثبت سندها باعتبارها جزء من السنة.( )
وكذلك لم يتم النظر في الظروف المتعلقة بتشكل نظام العقوبات، إن في القرآن أو المجتمع النبوي، فنظام العقوبات في النص القرآني غالباً ما جاء داخل سياق سوسيواقتصادي، يقوم أساساً على التجارة فجرائم السرقة وقطع الطريق هي أكبر المخاطر التي يخشاها التاجر، وتندرج ضمن نظام الحدود التي لا يجوز معها التساهل أو العفو. وتكون عقوبتها بقطع يد السارق، وبقطع أطراف قاطع الطريق (حدّ الحرابة) ورغم تجريم الربا وتحريمه (سورة البقرة : 275 -276) فإن النص لم يشملها بالحدود، وكذلك الغش والرشوة والاحتكار وهي جرائم اقتصادية قد يقترفها التاجر، وذكرها القرآن بالتنديد فقط. ( )
ثانياً: لم تعد البنية القانونية الشرعية تقتصر على حدود النص والسنة في المجتمع النبوي، الذي يمكن حصره بمرحلة النبي "الأحاديث" والخلفاء الراشدين "تنظيم المجتمع"، بل امتدت القوننة إلى الإقرار الفقهي الذي أضاف بدوره عقوباته كقتل المرتد، فإن لم يُقرّ النصّ بعقوبات لتارك الصلاة دشّنت السلطة الفقهية أدواتها في إنتاج مُتخيل ديني رعبي يتطور مع كل عصر – مسألة الجهاد في عصرنا- ليناسب الإشكالية المعقدة في رصد المتناقضات القائمة بين النصّ الأصلي القرآن والنصوص المؤسسة عليه وميراثه الفقهي السلطوي.
وكان لهذا أثره الكبير على الواقع الاجتماعي الإسلامي، من خلال تغييب الحقّ القانوني للأفراد، وللفاعلين الاجتماعيين الذي لا يمكن نزعه أو احتكاره، بل يمكن البناء عليه للوصول إلى التوازن مع السلطات القانونية الأخرى من جهة، ومن جهة ثانية كان أثره بالغاً على واقع الدول الإسلامية، وخصوصاً في جزئها المتمثل بالمجال السياسي ومسألة التمثيل الجماعي، كبداية للحكم الدستوري على أساس حقوق الإنسان " المواطن". فهذا التنظيم القانوني الذي ظهر في القرن التاسع عشر نتيجة الوجود الأوروبي في الشرق الأوسط، قام على استعارة العديد من المبادئ القانونية الأوروبية أو استخدمها أساساً لخلق نظام قانوني يعترف بالمبادئ الإسلامية، ولكن لم يجرِ فصل الدين عن الدولة.
ليترتب عليها من الجهة الأولى: فشل هذه الصياغات المختلطة في إدراك الحاجة إلى التمييز بين المبادئ المنصوص عليها في المصادر الإسلامية والأنماط التاريخية لتفسير هذه المصادر، ونتائج الحكومات المعاصرة التي كانت تسعى لتحويل الفقه الإسلامي إلى سياسات وأنظمة.( )
خصوصاً أن هذه البنى القانونية الدينية صارت خاضعة لأنظمة سياسية تمتلك القدرة على وضع الحدود على فعالية المؤسسات الدينية الإسلامية، وتجييرها لخدمتها. فالصدام الأساسي ليس بين بُنى قانونية شرعية دينية وبين أنظمة سياسية حاكمة وقادرة، بل بين تحالف البنيتين ضد قيام الشخصية القانونية والحقوقية للأفراد أو للجماعات، وما ينشأ عنها من مفاهيم تخصّ السلطة القانونية؛ فالشريعة لا تنصّ على مبدأ الحقوق القانونية إلا بحدود الحقوق التي يمتلكها أفراد العائلة، والأنظمة غالباً لا تعتمد المبدأ القديم القائل " إن ما يمسّ الجميع يجب أن ينظر فيه ويقرّه الجميع".
من الجهة الثانية: الرفض لمسألة حقوق الإنسان كقضية معيارية حيث تتبنى الدول العربية ميثاقاً مشتقاً من الشرعية الدولية لحقوق الإنسان وخاصاً بها، جرى اعتماده في القمة السادسة عشرة لجامعة الدول العربية عام 2004. بحجة الخصوصية الثقافية، والجدل لاعتماد النسبية الثقافية، وهو مبدأ تم تطويره في مجالات الأنثروبولوجيا الثقافية والفلسفة الأخلاقية في السياق الغربي، ولا تمثل الخصوصية التي يجادل بها أصحاب الموقف التقليدي من المسلمين، في طرحهم قانون فقه الأسرة وتغيير الدين وغيرها من مواضيع، تكون منها هامش الرفض وعدم المصادقة على كافة البنود في إعلان حقوق الإنسان، علماً أن القانون الدولي نفسه يضع معايير عدم التقيد بحقوق الإنسان الدولية، وأنه لا يسمح بتقديم قوانين دينية لتقييد حقوق الإنسان الدولية أو إلغائها.
التنوير الإسلامي وحقوق الإنسان
العالم الذي شهد تطورات مختلفة قائمة على فرضيات قانونية وعلمية وفلسفية شكلت أعمدة التفكير بالقضايا الدنيوية وإمكانية استقلالها عن الدين في عصر التنوير الأوروبي، لم يستكمل مسيرته إلى التنوير بمعناه الإسلامي، فمفهوم التنوير بقي متوارياً خلف مفاهيم الإصلاح الديني والتجديد الإسلامي، ويقدمون مقارباتهم ضمن هذا الإطار كرواد المدرسة الإصلاحية جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، وإلى حد مقارب رفاعة الطهطاوي وسيد أمير وغيرهم الذين اجتهدوا في الإصلاح الديني من داخل البيت الإسلامي، وبنوايا صادقة في الإصلاح والتجديد، لكن مشاريعهم اصطدمت مع رافضي التنوير أو الإصلاح ولم تحظَ بالقبول المطلوب في الأوساط الإسلامية.
فهناك تيار كبير مازال يعتبر ما قدمه التنوير للبشرية مُسيء للأخلاق وللدين وللمجتمع الإسلامي، هذا التيار الواسع وصل ليقين قطعي بأن الابتعاد عن الدين هو العلّة، وجلّ ما قدمه العلم الحديث منصوصاً عليه في القرآن أو هو محض وهم.( )
تجنباً للدخول في جدل التنوير ومساراته على الصعيد الإسلامي يمكن التوجه نحو إشكاليات غياب التنوير على صعيد حقوق الإنسان وأثرها على الفرد والمجتمع الإسلامي وعلى الدين الإسلامي نفسه وأهمها:
أولاً: أنتج غياب التنوير وتقييد المجال الدنيوي بالحق التديني، مشكلات معاصرة يترسخ فيها نهج التخلف الحضاري، خصوصاً أن قوانين التقدم والتطور لا تختلف من أمة لأخرى ومن شعب لآخر، وامتلاك الإنسان لعقل فطري قادر على التفكير التجريدي، شأن عالمي لا استثناء فيه. فالمجال الدنيوي الممتد من العلم والنهضة المعرفية إلى بناء الدول وتطورها قائم على الفعل الإنساني، وليس على الاجتماع الديني، الأمر الذي حَمّل الدين الإسلامي مالا يحتمل فليست مهمة الأديان الإجابة عن أسئلة دنيوية أو حقائق علمية.
ثانياً: اعتبار التنوير في مواجهة مع الدين، وسّع دائرة الأضداد ليصبح الإيمان مقابل العقل، والعملي مقابل النظري، والحياة الحسية الفانية مقابل الحقيقة الأزلية والفوق حسية، وغيرها من الأضداد التي تخصّ التفاعل البشري في الدنيا، وجميعها تجعل الدين الاسلامي يفقد معقوليته كونه دين بعيد عن الكهنوت ولا ينهى عن استعمال العقل ولم يصرح بعدم اتباع العلم أو رفض الإرادة الإنسانية. فمصاب المسلمين ليس في الدين نفسه إنما في الخطاب الديني، لتكون أزمة المسلمين اليوم متشابهة مع أزمة الكنيسة منذ القديس أوغسطين في إلغائه المبرر لوجود أي نظام في المجال الدنيوي سوى نظام الكنيسة مدينة الله على الأرض، إلا أن توجّه أوغسطين كان لدعم المعتقد بحيث لا يكون سقوط روما شأناً قاهراً للمسيحيين، وجرى حلّها بطروحات التنوير، بينما يأتي رفض التنوير دافعاً لتحويل الدين إلى سلطة قهرية تفقد الدين معناه ورسالته، وهذا يستدعي التنوير كضرورة لإنقاذ الدين وإعادته كمقدس.
ثالثاً: أدى غياب التنوير لانتشار حالة متعارضة مع الدين ومع الحضارة، تعمل على فرض يقينية الحلول بالعودة الارتجاعية الإحيائية للتراث، هي تعامي عن صعوبة العودة بالزمن، فالتعارض بين عرف التقاليد القديمة وما أضيف حديثاً، فكك إمكانية إحياء تراثٍ ماضٍ، ولم يعد قائماً سوى كصورة ذهنية، والمشكلات والمعضلات الجديدة تعجز تقاليدنا الفكرية عن معالجتها. فانفصام التقاليد تم نتيجة المسار التاريخي فهو أول بديل للتقاليد وبواسطته تتضاءل الكتلة الضخمة من القيم المتباينة والأفكار المتناقضة، لتجد المجتمعات حلولها التوفيقية، بردم التعارض بين (الإيمان والعقل، المتعالي والمعطى الحسي) أو بدمج ما يمكن دمجه في الأنظمة الدينية وإدخالها في المعتقدات كونها لا تستطيع الإجابة على الأسئلة التي يثيرها الدين أو التراث الديني.
رابعاً: شكل رفض التنوير وفصل الديني عن الدنيوي تجذيراً لغياب "معنى" وجود الدين ، خصوصاً مع وصول الحياة العامة مرحلة تحوّل فيها التدين إلى سلعة، والدين إلى أداة لخدمة غايات شخصية أو لعنف ضد الآخر، التي حولت العنصر الإيجابي في الدين وأخلاقياته إلى أمر سلبي، بل مدمّر يمسّ الدين كله. فسيرورة الدين الإسلامي سواء من خلال الأسطرة ( التدين التاريخي) أو الدين الشعبي، أو من خلال تحويله لعدد كبير من التأويلات والفتاوى المتضاربة، وأخيراً استخدامه أداة للإرهاب وقهر الآخر المختلف، جعل من إعادته لموقعه المقدس يحتاج البحث عن الإصلاحات وإعمال العقل المعرفي لمعالجة كمّ من الظواهر الاجتماعية التي تبتعد عن الدين وعن الأنسنة وتهيئة لأجيال أخرى ستكون عرضة للغرق أكثر في واقع المشكلات.
وتبقى مشكلة التنوير الإسلامي وكيفية توجيهه قائمة، فبعض الخطوط التنويرية الإسلامية لا تختلف عن نقيضها " الواقفون بوجه التنوير" كونها تنطلق من استخدام نفس الأساليب والأدوات من تفسير النصوص إلى تأويلها، إلى اعتماد التحليل اللغوي والنحوي والاستدلال بالقياس، التي تجعل الخط التنويري غارقاً بالانتقاء لنصوص معينه وتفاسير محددة لدحض الحجة المقابلة، فكلاهما يُقرّان بأن أوامر الله أعطيت بشكل كامل للإنسان وإن عليه العمل فقط ضمن هذا الكيان المعرفي المحدد، بحيث تبقى دعوات التنوير على أنها "هداية" وأن واجبهم هداية المؤمنين للصواب، بدل العمل على طرق أخرى وأساليب مختلفة لنشر التنوير، باستخدام مناطق محايدة كالعلم والمعرفة والملاحظات والتجربة والمنطق التي وصلت إليها البشرية، في تحليل الخطاب الديني ومعرفة ما الذي يمكن تجديده ومن شأنه أن يعكس ماهية الدين "ورسالته"؟، وما الواجب اتباعه للتخلص من الأعراف التي تتعارض مع الضمير والعقل، والقانون الطبيعي؟ وكيف يمكن وضع صيغة مفتوحة لا تقوم على تكفير البشر بناء على تفضيلاتهم؟
وغيرها الكثير من الأسئلة التي تتطلب أن يكون المفكر التنويري واضحاً في تصوراته تجاهها، تبعاً لاختلاف العصر واختلاف التفكير في مسائل الدين والتدين، والانسان وقضياياه. فمفهوم التنوير لا يقوم سوى بالبحث عن معقولية الدين واستعادته للمعنى "رسالة الدين"، واتباع الثقة بقدرة الفرد على استخدام عقله وحكمته وإنسانيته وبأن ملَكات الفكر تضبط توازنها وتراقب بعضها بعضاً بحيث لا تطغى إحداها على أخرى، للحكم بين الصحيح والزائف.
وهذا لا يقتصر على التنوير وآليات نشره، إنما يمتد إلى الحرية وحقوق الإنسان وغيرها من المفاهيم الإنسانية التي لا يمكن الوصول إليها إلا باتباع أساليب جديدة من خلال تحويل الاهتمام من التعارض بين حقوق الإنسان والحق الديني، وبين مجالي الدين والدنيا، إلى مساحة أخرى من التآلف لأنسنة الدين الإسلامي، فالتنوير الذي مثل أولاً حركة أفكار، كان في حقيقته حركة اجتماعية للاستقلال عن القوى الغيبية والخروج عما تحرمه السلطات الدينية أو تحلله الهيمنة العليا لأي شخص، في إدارة الحياة وإحلال التشريع القانوني والحقوقي بدل الشرع والعرف التقليدي كنظام قديم فقد جدواه. ورجال التنوير الذين مهّدوا للحياة الدنيوية وأرسوا قواعده لم يكونوا ملحدين فالإله عند نيوتن (موجود باستمرار وفي كل مكان... )، و(هوبز مات وهو يخاف نار جهنم أشد الخوف، وكان ديكارت يقرأ أدعيته لمريم العذراء)، ومهما كان إيمانهم أو إلحادهم، فقواعد القانون الطبيعي تشكل أساساً للنظام البشري ، وهذا ليس إنكاراً لله بل اكتشافاً لمعنى مستقل ملازم للميدان الدنيوي. ( )
خاتمة:
لقد سعى المسلمون يوماً لاكتشاف حجر الفلاسفة وأكسير الحياة، ولم يكتفوا بالمعرفة فقط عن العالم المعاش، وأثناء تتبعهم لبحوثهم اكتشفوا العديد من حقائق الكيمياء (لكنهم لم يتوصلوا إلى القوانين، وفقدوا التقنية). كما يقول برتراند راسِل. ومع الأزمة المركبة التي تعيشها هذه الدول من السلطة إلى الدين وصولاً للمجتمع يجدر البحث عن آليات وتقنيات جديدة لصياغة حلول مركبة لإنقاذ الإنسان والدين معاً. والربط بين التنوير والأنسنة والحاجة إلى الحرية والمساواة والعدالة "حقوق الإنسان" سيبقى طريقها متعثراً ما لم يتم تحويل التركيز من نيل الأجر بالآخرة إلى عمل الصالح للحياة البشرية. فمدينة الله على الأرض أصعب تحققاً من مدينة الإنسان.
- إيمانويل كانط. الدين في مجرد حدود العقل. ترجمة: فتحي المسكيني. دار جداول. ط 1( 2012) ص:30
- توبي أ. هيف. فجر العلم الحديث: الإسلام، والصين، والغرب. ترجمة: د. محمد عصفور. عالم المعرفة 1997. ص148
- برويز أمير علي. الإسلام والعلم (الأصولية الدينية ومعركة العقلانية). ترجمة: محمود خيال. دار السلام ط1(2015) ص: 51
- غيرترود هيملفارب. الطريق إلى الحداثة. ترجمة: محمود سيد أحمد. عالم المعرفة سبتمبر( 2009) ص:29.
- إيمانويل كانط. الدين في مجرد حدود العقل. ترجمة: فتحي المسكيني. دار جداول ط 1( 2012) ص:175
- حنة آرندت. بين الماضي والمستقبل. ترجمة: عبد الرحمن بشناق. دار جداول. ط1 ( 2014) ص: 115
- فريدريك نيتشه. هكذا تكلم زاردشت. ترجمة: فليكس فارس. مطبعة الاسكندرية ط1 (1938) ص: 76 و 208
- توبي أ هيف. فجر العلم الحديث. ص:141- 152
- سعيد ناشيد. الحداثة والقرآن. دار التنوير ط1( 2015) ص: 79
- آن إليزابيث ماير. الإسلام وحقوق الإنسان: التراث والسياسة. مراجعة: محمد مدثر علي. مجلة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية مجلد 36- عدد1. ص: 13
- الشيخ محمد قطب. قضية التنوير. ملف التنوير موقع الصحوة، http://www.sahwah.net .
- حنة آرندت. بين الماضي والمستقبل. ترجمة: عبد الرحمن بشناق. دار جداول. ط1 ( 2014) ص: 101 - 116








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز


.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب




.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53