الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رآيت مناماً

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2021 / 6 / 1
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لي جناحان أحلق بهما عالياً من فوق. في الأسفل، وليس بعيداً، أرى أشياء كثيرة أعرفها جيداً ويتوق لها قلبي ووجداني بشدة، لكن بُعد المسافة يفصلني، يقطعني عنها ويحرمني الاقتراب. لا أستطيع سوى التحليق حولها من بعيد في الجو، عيناي ترمقها بحنين وحسرة، قلبي يخفق وجعاً، ولا أستطيع لمسها وتحسسها والتدثر بها. أضرب بجناحي من فوق أحبة أعشقهم، أهل وأصدقاء ومعارف وعزوة، يكاد يقتلني الحنين لاحتضانهم ومصافحتهم والحديث إليهم بعد طول فراق. لا أستطيع. هذا المكان الذي أحلق فوقه عالياً أعرفه، أحفظه عن ظهر قلب. فيه بيتي الذي احتضن ولادتي وطفولتي وصباي وشبابي، حيث لهوت وضحكت وبكيت وعشت الحياة بكل تفاصيلها. تفاصيل كثيرة، كثيرة جداً تملء بحوراً من الذكريات السعيدة والحزينة، وتفيض. هؤلاء الناس وتلك الأماكن جزء لا يتجزأ مني، وأنا منهم. في الحقيقة، نحن كيان واحد لا ينفك ومن دونها ما عدت "أنا" كما كنت "أنا". رغم ذلك، أراني في المنام لا أستطيع أبداً أن أحط عليهم وبينهم ووسطهم، في حياتهم ومعاشهم. كأن قبة بلورية صلبة تقف صداً منيعاً بيني وبينهم. المأساة أنني أراهم، أراهم جيداً، بوضوح وصفاء بالغين. هم يتابعون حياتهم كالمعتاد في الأسفل لكن من دوني، وأنا عاجز عن الولوج إلى تلك الحياة التي كنت جزء أصيل منها في الماضي القريب. الجناحان حولاني إلى مسخ مشوه ومعذب، لا هو إنسان ولا هو طائر، بمقدوره الفكاك والنجاة من الخطر لكنه عاجز عن لمس واحتضان ومصافحة أحبته. بسبب الجناحان، أصبحت تائه عالياً، معزول عن دنياي وحياتي البسيطة التلقائية والواقعية فوق الأرض، مفصوم عن أهلي وأحبتي، عن جزء أصيل من نفسي.

نحن نحضر لمذبحة حيوانية سيحمر لها وجه الأرض خجلاً بعد أيام معدودة لأن إبراهيم رأى في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل بأمر من الله. وحين التنفيذ، افتداه الله بذبح عظيم، الذي لا يزال تُنحر رقبته حتى اليوم بعد آلاف السنين تخليداً لرؤيا إبراهيم المقدسة في منامه. هذا هو عيد الأضحى الذي سنحتفل به، ونسفك فيه دماء ملايين الأضاحي دفعة واحدة، بعد أقل من شهرين. إلى هذا الحد الرؤيا في المنام مهمة ومؤثرة؟!

هل تذكرون رؤيا البقرات العجاف والسنابل الخضر التي عرضت على يوسف، معادل رئيس الوزراء أو وزير الخزانة في مصر القديمة، وكيف ربط بينها وبين مخاطر مناخية ومائية تتهدد الدولة الفرعونية القديمة؟ هل تكفي مجرد الرؤيا في المنام لكي تشكل أساساً متيناً لضبط وتخطيط ميزانية دولة كبرى بقدر الإمبراطورية المصرية القديمة، المعادل في العالم القديم لدول عظمى في العالم المعاصر مثل أمريكا أو روسيا أو الصين أو إنجلترا أو فرنسا؟! أم هي مجرد خرافة ساذجة لإلهاء عقول الدهماء وشحذ وتجييش عواطفهم؟!

إيماننا بقدرة الرؤيا جعلنا نثبت لمحمد بدل ذراعيه جناحين عظيمين ليس لهما مثيل في القوة والطول، لدرجة تحمله طائراً في الجو من مكة إلى القدس، وصعوداً من الأرض إلى السماوات العلى في رحلة الإسراء والمعراج. ربما كانت مجرد رؤيا لمحمد في منامه، لكن الإيمان المطلق بقدرة الرؤيا حولها إلى حقيقة مادية مؤكدة حدثت في الواقع، وهي ليست كذلك. رؤيا المنام هي وحدها القادرة على تحقيق المعجزات. ونحن نيام نستطيع تحقيق وتعويض كل ما نعجز عن تحقيقه في الواقع. نحن نحتاج المعجزات، فإذا لم توجد اختلقناها؛ ونخاف الحقائق لأنها صعبة، لذا نهرب منها بإنبات الريش فوق أذرعنا في رؤانا أثناء النوم.

الحقيقة مرة، مرة أشدة مرارة من الحنظل. الجناحان يمنحاني قدرة افتراضية وهمية لابتلاع مرارة الواقع والنجاة من ألم الحقائق. أعرف أنني خائف، متوتر وغير مطمئن. حياتي مضطربة وغير آمنة. وهذا الخوف الدفين هو ما ينبت لي جناحان أحلق بهما عالياً في منامي هرباً من مخاطر الواقع. أنا غير آمن على نفسي ولا زوجتي ولا ابنتي ولا ابني ولا أحبتي وأعزاءي. أنا غير آمن على عملي ولقمة عيشي، على حاضري ومستقبلي. أنا أعيش في عالم من الخوف، خوف من كل شيء، حتى من مجرد الكلام والفضفضة بمكنون النفس والشعور والقناعة. أنا إنسان خائف وغير آمن في يقظتي. وهذا هو الذي ينبت لي ريشاً لتتحول يداي إلى جناحين أنجو بهما في نومي بعيداً عن أخطار الحقيقة. لكن هذا لا يصبح نوماً مطمئناً وصحياً، بقدر ما يكون كابوسا مرضياً. أنا في الحقيقة شخص مريض.

لكنني ليست شيئاً في فراغ أو من فراغ. أنا من وسط وبيئة، تشكلت منها. مخاوفي هي ذات مخاوفها، ورؤاي هي ذات رؤاها، ومرضي من مرضها. ثقافتي وحضارتي مثلي تماماً، تحيا في منامها بجناحين لتنجو من مخاطر واقع أليم. لقد سيطرت علينا الرؤيا لدرجة جعلتنا نعيش في الرؤيا المنامية، في الافتراض الوهمي، وليس في الواقع الفعلي، على حقيقته حتى لو كانت مرة ومبرحة. نحن نجيد الهروب، لا المواجهة.

لا أستطيع بعد تحمل ألم هذا الريش النابت فوق أذرعي. أريد بتر جناحي. أريد العودة إلى حياة البشر السوي أمشي على الأرض، أواجه حقيقة الواقع، أمسك بها وأشتبك معها وأعالجها مهما كانت حارقة ومؤلمة. لكن هل سيبقي البتر شيئاً من ذراعي لأحيا به حياة طبيعية؟ البتر لن يفيد. لابد من نتف الريش ريشة ريشة حتى تنظيف الذراعين بالكامل. عملية مؤلمة وشاقة وتستلزم صبر أيوب.

يبقى السؤال: إذا نتفت كل الريش، هل سأطيق العيش بلا جناحين وسط بيئة كبرى مجنحة؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تقريبا
عدلي جندي ( 2021 / 6 / 1 - 18:04 )
أجنحة كثيرون مثلك يعطلها الخوف لئلا يطيرون بعيدا فيفقدون (يبتعد عنهم) أحباء
تحياتي


2 - ليس بعيدا
ايدن حسين ( 2021 / 6 / 2 - 06:15 )
في الأسفل، وليس بعيداً، أرى أشياء كثيرة أعرفها جيداً ويتوق لها قلبي ووجداني بشدة، لكن بُعد المسافة يفصلني، يقطعني عنها ويحرمني الاقتراب
لم افهم هل هي بعيدة ام انها ليست بعيدة
فمرة تقول ليس بعيدا
و مرة تقول .. بُعد المسافة يفصلني
و احترامي
..


3 - في مرأى البصر
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي ( 2021 / 6 / 2 - 06:24 )
عزيزي ايدن حسين،
شكراً لمرورك واستفسارك الجميل. تخيل نفسك بالضبط طائراً يحلق في السماء، يقترب من الأرض حيناً ويبتعد حيناً إلى الأعلى وقت الخطر، لكنه لا يحط عليها أبداً، ودائماً هي ومن عليها في مرآى بصره بصورة واضحة. ومن ثم يأتي الوجع والألم النفسي من وضوح الرؤية والعجز عن الاقتراب في الوقت نفسه، رغم كونهم أهله وجزء منه وحنينه إليهم بلا حدود.
تحياتي،
عبد المجيد

اخر الافلام

.. أول موظفة يهودية معيّنة سياسيا من قبل بايدن تستقيل احتجاجا ع


.. البابا فرانسيس يعانق فلسطينياً وإسرائيلياً فقدا أقاربهما على




.. 174-Al-Baqarah


.. 176--Al-Baqarah




.. 177-Al-Baqarah