الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عدمِيَّة ... (وقليل مِنَ التفاؤل)

مصطفى حجي
(Mustafa Hajee)

2021 / 6 / 4
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الوجود البشري مخيف ومُربك!
لماذا، وكيف (مع نظرة استغراب)؟!
أَطلِق خيالَك معي:

قبل بضع آلاف السنين، أصبحنا واعين حول وجودنا ووجدنا أنفسنا في مكانٍ غريب.
كان المكان مليئًا بكائنات أخرى. بعضها استطعنا التغذي عليه، وبعضها كان بإمكانها التغذّي علينا، وجدنا سوائل لنشرب، وأشياء نستطيع صنع أشياء أُخرى منها.
سماء النهار كانت تحتضن كرة صفراء صغيرة تُدفئنا، أمّا سماء الليل فكانت ممتلئة بأضواء متلألِئَة جميلة...

فكَّرنا في البداية وقلنا: "مِنَ الواضح أنَّ هذا كلّه مصنوع لأجلنا"

ظننّا أنَّ شيئًا ما كان يراقبنا، كان شعورًا مخيفًا ومربكًا، وأحيانًا كان مريحًا (حسب تصوِّرنا لماهيّة المراقِب)، في بيوتنا كان هذا الشعور أقل إخافة وإرباكًا بكثير...

ولكن مع تقدُّم أعمارنا، تعلمنا أكثر عن العالم وعن أنفسنا.

تعلَّمنا أنَّ الأضواء المتلألِئة ليستْ تُشِعُّ بجمالها لأجلنا، بل هي موجودة لا أكثر.
تعلَّمنا أننا لسنا مركز الكون، بل نحن موجودون في زاوية من زواياه لا أكثر.
وتعلَّمنا أنَّ عمر الكون أكبر بكثير جدًا مما اعتقدنا.

تعلَّمنا أننا مصنوعون منْ أشياء صغيرة كثيرة ميّتة (أحماض أمينيّة وبروتينات و DNA و RNA) وبتجمّعها تصنع أشياء أكبر ليست ميّتة لسبب ما (الخلايا)، وبتجمع هذه الخلايا نُصنَع نحن.

تعلَّمنا أننا مجرَّد مرحلة مؤَقَّتة في تاريخٍ عمره أكثر مِنْ 13 مليار عام.
كما تعلَّمنا شيئًا أثار رهبتنا، وهو أننا نعيش على بقعة غبار رطبة سَمَّيناها "الأرض"، تدور حول نجم متوسط الحجم والحرارة، في منطقة هادئة، في ذراع من أذرع مجرة صغيرة الحجم اعتياديّة، ما هي إلا جزء من عنقود مجرِّي (Galaxy cluster) لن نستطيع مغادرته أبدًا مهما تطوَّرنا، وهذا العنقود المجرِّي واحد من الآلاف من العناقيد التي تصنع عنقودًا مجريًا هائلًا (Super cluster)...
ولكن حتى عنقودنا الهائل هذا ليس أيضًا إلا واحدًا منْ الآلاف أمثاله من العناقيد المجرِّية الهائلة الّتي تُشكِّل ما نُسمّيه الكون المرصود أو المرئي الّذي يبلغ قطره 93 مليار سنة ضوئيّة.

قد يكون حجم الكون الحقيقي أكبر بمليون مرة من الكون المرصود، لكن يستحيل علينا أنْ نتأكَّد من ذلك.

قد نستطيع التفوُّه بكلمات مثل: الكون يحوي على 200 مليار مجرة، أو تريليون نجم، وعدد يفوق ذلك بشكل كبير من الكواكب...
ولكن كل هذه الأرقام لا تعني لنا شيئًا. أدمغتنا لا تستطيع استيعاب هذه التصوُّرات عن حجم الكون وعن وهذه الأرقام المهولة.

الكون ضخمٌ جدًّا، اتِّساعه مهول!، ولكن الحجم ليس أكثر فكرة مزعجة علينا مواجهتها.

إنَّ أكثر فكرة مزعجة هي "الوقت"، وبالتحديد، {وقتنا نحن}؛ إنْ حالفك الحظ وعمّرت حتى مئة عام ففي جعبتك 5200 أسبوعًا.
وإن كان عمرك 25 عامًا، فبقي أمامك 3900 أسبوعًا.
وإن كنت ستموت في عمر السبعين، فتبقى لك 2340 أسبوعًا.

هذا كثير من الوقت تملكه... (أحقًّا هذا؟!)

وماذا بعد هذا العمر؟
عملياتك الحيوية ستنهار، والكيان المُتأقلِم الّذي يُشكّلك لن يعود كذلك؛ سيتحلل حتى لا تعود أنت موجودًا.

بعضنا يؤمن أن هناك جزءًا منا لا نستطيع رؤيته أو قياسه، لكن لا سبيل لنا لنتأكد فعلًا من ذلك، لذا قد تكون هذه الحياة كل ما لدينا، وقد ينتهي بنا الأمر أمواتًا إلى الأبد.

مع ذلك، هذا الكلام أقل إخافة مما يبدو إنْ لَمْ تَكن تذكر الـ 13.75 مليار سنة اللاتي عبرنَ قبل أن تُوجَد في الحياة، لذا فتريليونات وتريليونات وتريليونات السنين التي ستأتي بعد ذلك ستمر برمشة عين بعد موتك!

أغمض عينيك لثانية، عُدَّ حتّى واحد ثم افتحها...
شعورك بتريليونات السنين بعد موتك سيكون مثل هذا تقريبًا.
وحسب معرفتنا فإن الكون نفسه سيموت ولن يحدث فيه أي شيء مجددًا.

{ ربما ستسألوني "لماذا تقول هذا؟" }
لماذا؟
ما الّذي أفكّر فيه؟
ما هو هدفي من ذكر كل كلامي السابق؟

حسنًا... كلادينيين، قد تكون بعض الأفكار والمواضيع الّتي نتحدث فيها ونطرحها تُوَلِّد رهبةً وجوديّةً لدى بعض الأشخاص.
والسطور السابقة الّتي مرَّتْ لَم تُغيِّر ذلك ربّما...

لذا، سأعرض عليكم ولو لمرّة طريقة مختلفة للنظر إلى هذه الأمور، وجهة نظر -لا علمية- موضوعية، لتكن فلسفتي الخاصة إنْ شئتم...

رجاءً لا تأخذوا كلماتي وكأنّها الحقيقة المُطلقة، بل أنصتوا إليها -بتشكُّك- فلستُ أعرف أكثر مِمّا تعرفون عن الوجود البشري:

(أُقابِل الرهبة الوجوديّة بالعدميّة التفاؤليّة)

ماذا أعني بذلك؟
باختصار، يبدو غير راجح بالمرّة أنَّ 200 تريليون تريليون نجم وُجِدت لأجلنا نحن.
بطريقة ما، القول بأن كل شيء في الكون وُجِد لأجلنا يبدو كأنّه نكتة نرجسيّة أنانيّة، نحن الآن أصبحنا واعين حول أنفسنا لنُدرك أننا لسنا موضوع هذه القصة.

مع أنّه مِنَ الرائع أنْ نتعلّم ونعرف عن الإلكترونات والذرات والخلايا، والنجوم والكواكب والمجرات. إلا أنَّ العلم لا يقوم بالكثير لجعل هذا الأمر يبدو أقل إحباطًا.

حسنٌ... وماذا إذًا؟

تملِكُ حياةً وحيدة، جميعنا كذلك، وهذا أمر مخيف، ولكنَّه أيضًا «يُطْلِقُكَ حرًّا»
إنْ انتهى الكون في موتٍ حراريٍّ بالتجمّد، أو انتهى بتمزّقٍ لذرّاته نتيجة تسارع قوّة المادة المظلمة، أو انتهى بانكماشٍ وانسحاقٍ عظيم، فكل عارٍ واجهتَه سيُنْسى.
كل خطأ تفعله لنْ يُهم في النهاية.
كل فعل سيّئ وقعتَ بِه سيُبطَل.
كل المشَقَّة والتعب، كل الألم، كل الظلم، كل المعاناة، كل الحزن...
كُلُّه سيُنْسى ويختفي ولن يعود أحد ليَعِيَ به.

(إنْ كانت حياتنا الشيء الوحيد الّذي سنختبره، فهي إذًا الشيء الوحيد الّذي يُهم)

إنْ كان الكون بلا مبادئ، فالمبادئ الوحيدة المناسبة هي الّتي نُقرِّرُّها نحن.

إنْ لَمْ يَكُن مِنَ وجود الكون أيّ هدف، فنحن مَنْ يضع الهدف منه وفيه.

بشكل شبه مؤكَّد، البشر سينقرضون في وقت ما مستقبلًا، ولكن طالما لم يحدث ذلك فالفرصة لا تزال متاحة لنا لنكتشف الكون ونكتشف أنفسنا.

{الفرصة متاحة لنا لنختبر المشاعر، لنختبر الحب، لنختبر السعادة، الفرصة متاحة لنا لنختبر قراءة الكتب وشروق الشمس، لنختبر الجلوس تحت ضوء القمر، لنختبر اللعب والمرح... ولنختبر ونعيش وجودنا مع بعض}

كوننا قادرين على التفكير في هذه الأشياء هو بذاته أمر رائع لدرجة لا تُصدَّق.

ِمنَ السهل أنْ نظنّ أننا منفصلون عن كل شيء، ولكن هذا ليس حقيقيًّا.
نحن جزءٌ مِنَ الكون بِقَدرِ كونِ نجمٍ نيوتروني كذلك، أو ثقب أسود، مثل أيِّ سديمٍ أو كوكب.

بل إننا ربما نكون أفضل أجزائِه؛ نحن جزؤه الّذي يُفكِّر ويشعر ويَستَكشِف.
نحن الأجزاء الحِسِّيّة للكون.

نحن أحرار في ساحةٍ لعبٍ كبيرةٍ اتَّخَذت حجم الكون بأكمله بالفعل، أحرارٌ كأطفالٍ مرِحين تَوَّاقون للعب في حديقة ألعابٍ واسِعة، يَهِمُّون باستكشافها بما فيها مِنْ ألعاب.

لذا قد يجدر بنا أيضًا أنْ نَصبو إلى السعادة، وربّما قد نبني مستقبلًا مدينةً فاضلةً "يوتوبيا" تكون جوّالَةً ما بين النجوم "Interstellar".

صحيح... ليس الأمر وكأننا قد عرفنا كل شيء يمكن معرفته...
لسنا نعرف لماذا قوانين الكون هي على الشكل الّذي هي عليه، ولا لماذا أتت الحياة إلى الوجود وكيف نشأت بالتحديد، ولا "ما هي الحياة" أصلًا.

لا فكرة لدينا عن ما هو الوعي (رغم وجود بعض التعريفات لكنّها ما زالت لَمْ تأتِ بالجواب الكامل عن ماهيّة الوعي).
لا فكرة لدينا إنْ كُنّا الوحيدين الواعين في الكون، أو إنْ كانت الأرض هي المكان الوحيد الّتي تحتوي حياةً ذكيّة...

ولكن ومع ذلك، يمكننا أنْ نحاول إيجاد بعض الأجوبة؛ ثَمَّة آلاف المجرّات لنستكشفها، وملايين النجوم لندرسها، ومليارات الكواكب لنزورها.
ثَمّة آلاف الأمراض لنعالجها، وأشخاص لنساعدهم، ومشاعر سعيدة نختبرها، وأصدقاء لنحبّهم، وأهل لنهتمَّ بهم.

ثَمَّة الكثير لنفعله.

لذا وخِتامًا عزيزي القارِئ، الأرجح أنّك استخدمتَ مسبقًا جزءًا غير صغير مِنَ الوقت المتاح لك، إنْ كانت هذه فرصتك الوحيدة في الحياة فلا سبب لديك لأنْ لا تستمتع وتعيش سعيدًا بقدرِ استطاعتك.

ولك نقاط إضافيّة إنْ جعلت حياة أناس آخرين أفضل.

ولك المزيد من النقاط الإضافيّة إنْ ساعدتَ بأيّ شكلٍ كان في بناء إمبراطوريّةٍ بشريّةٍ مجرّيّةّ متطوِّرة يوتوبيّة .

افعل ما يَجعلك تشعر بالرِّضى.

أنتَ وحدك مَنْ يُقرِّر معنى أيَّ شيء وكلَّ شيء لنفسك.

والسلام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعقيب
على سالم ( 2021 / 6 / 5 - 06:07 )
هذا بلا شك مقال حيوى وهام ويبعث على التفاؤل وترك اليأس


2 - مقالة تُحفزّ على إنتاج فكر
شيرزاد تركي ( 2021 / 6 / 5 - 14:56 )
تُحفزّ على الإبداع الحضاري الأصيل والحوار المدني المُعاصر البديل للانحطاط في التعبير عن النفس السّلبيّة حيال الاعتزاز بالهُويّة الكرامة الإنسانيّة لأجيال جميع الأقوام الأطول عُمراً مِن مُعلّق السَّبّ والشَّتم الذي يحظره الموقع الإلكتروني، احتراماً للقارىء.


3 - ذبابه اليكترونيه
على سالم ( 2021 / 6 / 6 - 16:43 )
لماذا تتعقبنى فى كل تعليق ؟ ماهى مشكلتك ؟ هل تعانى ؟ لماذا لاتغرب عن وجهى ايها المتطفل الثقيل ؟


4 - صديقي علي سالم
مصطفى حجي ( 2021 / 6 / 7 - 01:22 )
أنا كالطفيليات بالنسبة للقارئ فيما يخص مقالاتي ومواضيعي، حيث أستحوذ على عقل القارئ شيئًا فشيئًا حتّى يغدو مرافقًا لي في جميع ما أكتُب
فيُعلِّق عليها طالما أكتُب... ولا سبيل له في الخلاص منّي

⁦-;-^_^⁩-;-
تحيّاتي.


5 - علي سالم يشتري تعليقنا ويبيعه علينا
شيرزاد تركي ( 2021 / 6 / 7 - 07:54 )
الطَّبيبة Aruna Khilani، هنديّة الأصل، لديها عيادة خاصّة في نيويورك، تقول “ ديناميكيّة نفسيّة تتكرّر على اضطراب ما بعد الصّدمة ” إذ ينكر الأشخاص البيض هجماتهم على المُلوَّنيين ولا يعترفون بدوافعها العنصريّة، لكن عندما يغضب شخص مُلوَّن؛ يستخدم البيض هذا الغضب لتأكيد جنون الشَّخص المُلوَّن أو أن لديه مُشكلة عاطفيّة أو نفسيّة.


6 - على سالم
عبد الجبار ( 2021 / 6 / 7 - 22:57 )
اخي على سالم
شيرزاد تركي هو رجل وهو مذكر وليس مؤنث
انه احد المخلفات التركية في العراق، انه يفتخر بتاريخ الاتراك العثمانية المجرمين
هذه حقيقة ارقداش لا تزعل

اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س