الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التحديث والتقليد في تونس

محمد الهادي حاجي
باحث متحصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع

(Hajy Mohamed Hedi)

2021 / 6 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يشهد المجتمع التونسي تغيرات متعددة وعلى عديد المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وهي تغيرات ارتبطت بعوامل تاريخية (الاستعمار)، وكذلك ارتبطت بسياسات التحديث التي نهجتها الدولة منذ الاستقلال تحت اشراف النخبة السياسية التي قادت مرحلة التحرر الوطني وبناء المجتمع وذلك بإنجاز التغير الاجتماعي والتنمية، واتخاذ الإجراءات في مواجهة البنى الاجتماعية التقليدية، خاصة وأن من أشد المسائل صعوبة في تجارب البناء السياسي والوطني إشكالية إدماج البنيات التقليدية في سياق تحديثي وتنموي، وهي إشكالية تطرح نفسها بإلحاح في الحاضر والمستقبل على اعتبار أن أغلب المشكلات الخاصة بالتنمية نابعة من استمرارية تحكم بعض البنى الاجتماعية التقليدية في المجتمع التونسي المعاصر. ولئن كانت خطابات الساسة والتكنوقراطيين في أغلبها قد تحدثت عن التحديث المنجز وسيرورته التي ما انفك المجتمع التونسي يشهدها، فإن البحث السوسيولوجي يلح بالمقابل على مساءلة طبيعة هذه التغيرات واتجاهات أو مسارات هذا التحديث ومدى تمكنه بالفعل من عمق البنيات الذهنية والثقافية للمجتمع .
إن التحديث من منظور علم الاجتماع لا يعني مجرد تمظهرات لقيم حداثية على مستوى السطح الاجتماعي، كما تبينه سلوكات الفاعلين الاجتماعيين وفي المعيش اليومي ، كما لا يمكن ربطه بتدخلات الدولة عن طريق سياساتها الاقتصادية أو الاجتماعية الظرفية ، بل هو سيرورة عنيفة ومستمرة من الهدم وإعادة البناء ، لا يمكن أن تشتغل إلا في العمق ، وهي سيرورة تجسد انخراط المجتمع فعليا في حركة التاريخ ، من حيث هي عملية تغير شامل من نسق اجتماعي تقليدي إلى نسق حديث، خاصة وأن المجتمع التقليدي حسب الأنتروبولوجيين يتميز بصلابة بنيانه وقوة مؤسساته ، بحيث يبدو الفرد وكأنه ليس فقط خاضعا للمجتمع خضوعا كليا، بل يبدو وكأنه غير موجود ،فهو متمثل للتقاليد والتصورات والأعراف والمثل التي يفرضها المجتمع.
ويمكن القول في هذا الإطار أن انخراط المجتمع في سيرورة الحداثة والتحديث، لا يقوم فقط على استعماله للآلات التقنية والتكنولوجية، وفي اقتباسه لبعض مظاهر الحداثة السياسية، بل إن عملية التحديث تشترط توفر الديناميكية الداخلية العميقة التي يَنبثق من خلالها الفرد الحر الفاعل، ولعل التعثر البيّن لعملية هذا الانبثاق في المجتمع التونسي خاصة والعربي عموما، هو مؤشر على قوة آليات التقليد، ضمن البنيات الاجتماعية التقليدية المؤطرة للفرد في مجتمع تقليدي في طور التحول وهي بنيات القرابة وما يرتبط بها من علاقات وتوزيع أدوار ومواقع، والبنيات القبلية بتصنيفاتها ومواقعها من النفوذ والثروة وما يرتبط بها من علاقات الخضوع والتراتيب والولاء، أضف إلى ذلك قوة رسوخ العادات والتقاليد المرتبط بكل المستويات الاجتماعية، وتمارس هذه البنيات دور امتصاص وتكييف ومقاومة تجاه عوامل التغير وسيرورات التحديث الناتجة عن الانخراط القسري للمجتمع التقليدي في سيرورة الحداثة إما بفعل الاستعمار أو بفعل الدولة الوطنية أو بفعل العولمة، فالقوى والآليات التقليدية لا تستسلم كليا لهذه التأثيرات أو الديناميات الكاسحة، بل تكيف مقاوماتها لها، مما يجعل هذه المجتمعات تعيش بين ديناميتين تتجاذبان وتخترقان كافة مجالاتها، جاذبية التقليد وجاذبية التحديث، وهو ما يجعل هذه المجتمعات تعيش صراعا على مستوى الثقافة والوعي بين ثقافة التحديث وثقافة التقليد، إضافة للصراع على المستوى السوسيولوجي بين آليات كل منهما أي التحديث والتقليد، وإذا كانت المؤشرات السوسيولوجية لها مفعولها المباشر فإنها أيضا تتبلور على المستوى الثقافي، من خلال هذه الثقافة التقليدية المخضرمة، عبرت البنيات التقليدية عن مظاهر مقاومتها لمظاهر التحديث في إطار فكر جماعي يمارس دور المراقبة والضبط والتهديد، ومن هذا المنطلق فإن التحديث لا يعني بالضرورة الحسم مع كل ما هو تقليدي، فهناك رهانات اجتماعية يحركها منطق علاقات القوة ويوجهها نحو تملك الواقعي عن طريق الرمزي، تملك التاريخي عن طريق الحفاظ على الهوية، وتملك الفعل عن طريق البنية الاجتماعية، ثم أنه وجبت الإشارة في هذا السياق إلى الأطروحة القائلة بأن التحديث لا يعني بالضرورة الحسم أو القطع مع كل ما هو تقليدي، واعتبار أن تواصل التقليد ليس إشكالا في حد ذاته بل كيفية التعامل مع هذه البنيات التقليدية هو الإشكال الحقيقي.
ولعل من أبرز المتحمسين لهذا الطرح السوسيولوجي والانتروبولوجي الفرنسي "جون ديفينيو" في دراسة حول قرية شبيكة التونسية ( ) نجده ينتقد بشدة التجارب التنموية التي عاشتها بعض البلدان، في التنمية المشروطة أو بالأحرى المرهونة باجتثاث وتدمير كل البنيات التقليدية، وهو ما يعتبره سوء تقدير للإمكانيات الهائلة والكامنة التي تختزنها المجتمعات في عمق بنياتها التقليدية، فالمشكلة إذا ليست قائمة على النيات التقليدية وإنما في كيفية التعامل أو التفاعل معها وتطويرها وتكييفها مع كل ما هو حديث وذلك وفق رؤية شمولية ومتكاملة. وبيّن "جورج بلاندي" أيضا رفضه لكل النظريات السوسيولوجية والانتروبولوجية التي توازي بين "التقليد والسكون" فهو يقول "لا يزال مفهوم التقليدية غير دقيق، وينظر إليه كتواصل في حين أن التحديث هو انقطاع، وفي أكثر الأحيان يعرّف التقليد بالامتثال لمعايير قديمة لذا، تلك تؤكدها الأسطورة أو الايديولوجيا السائدة وتبررها والتي ينقلها التقليد عبر مجموعة كاملة من الاجراءات، ليس لهذا التعريف فعالية علمية، وبالفعل لا يمكن تعريف هذا المفهوم بدقة أكبر إلا إذا ميزنا بين شتى المظاهر الحالية للتقليدية"( )، ومن خلال الكشف عن دينامية المجتمع التقليدي بيّن "جورج بلانديي" أن هذا الأخير غير محكوم عليه أن يظل ثابتا يجتر الماضي، وهو ما يجعله يتصور بأن "انسان المجتمعات المسماة ثنائية لا ينظم وجوده لمواجهة قطاعين منفصلين ومحكومين الأول للتقليد والآخر للحداثة، وانطلاقا من التجربة المعيشية، يسمح بإدراك الجدلية العاملة بين نظام تقليدي (متدهور) ونظام حديث (مفروض من الخارج)، كما يظهر نموذج ثالث للنظام الاجتماعي الثقافي غير مستقر يرتبط بالمجابهة بين النموذجين السابقين" ( ).
إن الحديث عن طبيعة القيم التقليدية في المجتمع التونسي يجرنا للحديث عن طبيعة النظام الاجتماعي برمته، وتعتبر في هذا السياق علاقة القرابة ركيزة أساسية في العلاقات الاجتماعية، فالسلمية في العلاقات بين كبار السن والصغار من جهة وبين الذكور والإناث من جهة أخرى، وأهمية المصلحة الجماعية على حساب المصلحة الفردية.
وكان لابد من مسوّغ ومبرّر لهذا الواقع الاجتماعي، أي وعاء ايديولوجي، شكلت جانباً منه القيمُ العشائرية والقبلية متمثلة "في النعرة وهي الإسراع للدفاع عن القريب وعن حرمة القبيلة، وفي الشجاعة لأنها أساس البقاء في هذا العالم المملوء بالصراعات، وفي الكرم لأنه يمثل جانبا من التساند والتكافل المجتمعي في الداخل وجانبا من الفخر والتطاول في الخارج"( ) يعدّ المجتمع التونسي وبعد انخراطه في عملية التحديث، مجتمعا انتقاليا أي أنه يجتاز فترة التحول والانتقال من المجتمع التقليدي والثقافة التقليدية إلى مجتمع "الازدواجية" أو "الثنائية" الحديث والثقافة الحديثة. وتطغى في هذه المرحلة الصفة على عناصر ثقافته الاجتماعية، جراء تصادم منظومة الثقافة والقيم التقليدية التي ترتكز على قيم الشرف والطاعة والجماعية…، ومنظومة الثقافة الحديثة التي تتبنى قيم الفردانية ومعايير البضاعية التبادلية ومعايير الشيئية الأداتية، فبخصوص مظاهر الازدواجية الثقافية فقد لخّصها أحد الباحثين قائلا "إن في تكوين الثقافة (…) الحديثة تظهر الطبيعة المختلفة، "الهيكل الثنائي" صفات والشكلية، والتطابق الجزئي وعدم التوازن واللانظامية، وغيرها من الجوانب الأخر، التي حددت الخصائص الرئيسية لتكوين الثقافة(…) الحديثة وتغلغلت بكل التناقضات والتعارضات ذات الطبيعة الثقافية المختلفة في كل جوانب الحياة الاجتماعية، وسبب الاضطراب الكبير وعدم التوازن في تكوين مفاهيم الناس والسيكولوجية الاجتماعية "( )، فالطبيعة المختلفة أو اللاتكامل الثقافي يعني فقدان التكامل الثقافي والكلية الثقافية المنصهرة لحساب اللاانسجام، والتباين وكثرة البدائل الثقافية في المجتمع أما الشكلية فتعني اهتمام أفراد المجتمع بالمظاهر السطحية دون التفكير في المحتوى أو المضمون كالحرص على الهندام والمظهر الخارجي، وهو ما يوحي بالتطابق الجزئي وعدم قدرة الأنظمة والمؤسسات الحديثة على القيام بوظائفها بشكل كامل نظرا لتدخل بعض عناصر الثقافة التقليدية، أو قيامها بدور معيق بالنسبة لهذه الأنظمة والمؤسسات، مثل تدخل النسق القرابي في توزيع المناصب والوظائف، وهو ما يمكّن من القول بأن ذلك ناجم بالأساس عن الاختلاف في تقبل التحديث جراء التباين بين الأوساط (ريف، حضر) وتباين وتمايز الفئات الاجتماعية (طبقات عليا ودنيا ووسطى)، وجراء عدم التوازن بين التطور الثقافي، الاقتصادي، الاجتماعي السياسي، كما أن عناصر الثقافة الحديثة ذاتها تنقسم إلى عناصر مادية وأخرى معنوية، وتختلف سرعة انتشار ودرجة استيعابها هذه وتلك، وأحيانا ينتج نوعا من الازدواج القيمي وكذلك في نماذج السلوك، وتبرز هذه الازدواجية في المجتمع على هياكله السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتعني ازدواجية الهيكل السياسي تعايش النظام السياسي والجهاز الإداري الحديث مع الأشكال والممارسات السياسية والإدارية التقليدية، أو اعتمادها كورقة سياسية في طبيعة تفاعله والمجتمع، أما الازدواجية في الهيكل الاقتصادي فتعني تجاوز نمط الإنتاج الزراعي العتيق إلى نمط الإنتاج الحديث الذي يعتمد على الوسائل العلمية والتقنية والتكنولوجيا الحديثة في الإنتاج الزراعي والصناعي وتقديم الخدمات، ونقصد بازدواجية الهيكل الاجتماعي أو البناء الاجتماعي، بتعايش الأطر أو البنى الاجتماعية، والبنى النفسية التقليدية، مع النظم الاجتماعية والقيم الحديثة، كاستمرار الأسرة الممتدة والموسّعة في التواجد رغم اتجاه المجتمع نحو الأسرة النواتية، أو تواصل العروشية والنزعة القبلية، وهو ما يجعل الانتماءات جهوية متعددة، نموذج له تمظهرات اجتماعية متنوعة في عدة أشكال من التنظيم الاجتماعي المركب من الجهوية والوطنية لأن مسار تحول هذه الأنسجة التقليدية يشير إلى نوع من المقاومة التي ترتكز على ديناميكية اجتماعية داخلية تستند لمرجعيات الانتماء الضيق من خلال الرموز والتعبيرات والمعاني، ومن خلال انتقال المجتمع من التقليدية إلى التحديث سادت قيم اجتماعية وسياسية متباينة بين الوحدات الاجتماعية والسياسية حيث احتاجت البيئة الداخلية إلى نوع من التصالح، خاصة وأن النخبة السياسية في تونس والتي أشرفت على عملية "بناء المجتمع" تصورا وتنفيذا عملت طوال عقود على إحداث التغيير وإنجاز التحديث وتوجيه التنمية نحو إضعاف سلطة القبيلة وشرعيتها. وذلك لتعزيز سلطة الدولة ودعم مركزيتها، لكن هذه البيئة بقيت تتسرب على مستوى الراهن الاجتماعي، فلا أحد اليوم ينكر مسؤولية الدولة وعبر سياساتها التنموية السابقة عن الوضع الذي أصبحت عليه مستويات التنمية بسبب التهميش والإقصاء من خلال المخططات المتبعة، ولعل ظهور الأزمات الاجتماعية والسياسية والحركات الاحتجاجية خير دليل على طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، كالأزمة النقابية لسنة 1978( )، حركة قفصة المسلحة لسنة 1980( )، وانتفاضة الخبز لسنة 1984 والأزمة اليوسفية والمحاولة الانقلابية لسنة 1962( ).
هذه أحداث على تعددها فإنه لا يمكن تناولها خارج إطار ردود الفعل الاجتماعية. فرغم محاولة النخبة السياسية تضييق الخناق على القبيلة –على الأقل بعد الاستقلال- فإنه لم يقطع معها، وهي إشارة تدل على أن البنيات التقليدية بقيت تتنزل في عمق النسيج الثقافي والذهني والاجتماعي، ولا يمكن للخطاب السياسي وحده إلغاء هذه البنية، وما الازدواجية التي تعيشها المجتمعات الريفية من حيث تشتتها بين قيم التقليد وقيم التحديث إلا دليل ينضاف إلى أدلة عديدة لتواصل النزعة القبلية في الهياكل الفكرية الجماعية، ويدل أيضا على أن البنيات التي استحدثتها دولة الاستقلال كانت قليلة التأثير على المجتمع، ولعل الانتفاضات الشعبية وآخرها "الثورة" دليل على توتر العلاقة بين الدولة والمجتمع، وهي مناسبات "تمثل مجالا خصبا لظهور التوترات وأشكال التضامن القبلي"( ) وهذه الأحداث تبين أن البنية التقليدية القبلية بقيت تقاوم مما دفع بالدولة أحيانا إلى العمل على احتوائها وتوظيفها، وهو ما يكشف عن غياب استراتيجية واضحة لإدماج القبيلة في المجتمع، هذا يعني أيضا أن من أشد المسائل صعوبة في تجارب البناء السياسي والوطني إشكالية إدماج البنيات التقليدية في سياق تحديثي وتنموي، ذلك ما يجعل من البنية القبلية مكونا من المكونات الثقافية والاجتماعية التي تمثل موضوعا للمساومة( )، مما يدلل على استمرار هذه النزعة في شكلها العائلي والعروشي والجهوي، وقد توصلنا في هذه الدراسة إلى أن التضامن واللحمة والخصوصية في الهوية والانتماء كلها قيم مازالت تشكل وعي الفرد ولاوعيه في ذات الوقت، وتغذي تصوراته وتعبر عن طموحاته وأدواره، وتقوم بحمايته ومساعدته، وهي وظائف تقليدية للقبيلة، خاصة أمام عجز المؤسسات الرسمية للدولة وتنظيمات "المجتمع المدني" في تحقيق الإشباع للأفراد على المستوى المادي الاقتصادي التنموي وعلى المستوى الثقافي الرمزي، مما يجعل تلك المؤسسات ذات تأثير محدود أو ينعدم أحيانا على المستوى الفردي والجماعي على حد السواء، وهو ما يساهم في تنامي تأثير المرجعيات الأولية التقليدية، وهي نتيجة لسوء التكيف والتوافق الاجتماعي والنفسي، ولسبب الانسلاخ الثقافي الذي يشهده المجتمع، خاصة وأن الهوية الثقافية للفرد معرضة دائماً للاختراق إما من المؤسسة الرسمية أو من الخارج (العولمة)( ).
و من هذا المنطلق فإنه يمكن القول أن القيم التقليدية لم تندثر ليقع تعويضها كليا بأخرى جديدة، بل هناك تعايش بين التقليدي والحديث، حسب استراتيجيات الفاعلين الاجتماعيين ومواقعهم وأدوارهم وظروفهم، في عملية الفعل الاجتماعي، وما يتوفر من "رساميل" في كل حقل من الحقول الاجتماعية وفي صورة لتفاعل الأفراد مع وضع لا يملكون فيه الأرصدة الضرورية، فإنهم يرجعون إلى المرجعيات التقليدية لملاءمتها مع المرجعيات الجديدة التي أنجزتها الدولة الحديثة، لتعبر بذلك البنى القرابية القبلية والعشائرية و"العروشية" عن استمراريتها وتواصلها وتعيد إنتاج ذاتها في أطر ومسالك جديدة تسمح لهم بأدوات جديدة تتصدى "للهامشية" وعدم الاندماج.
ان العصبية القبلية شكلت تحدياً كبيرًا في طريق بناء الدولة الوطنية الحديثة، ونحن في هذا السياق نود التأكيد على العصبية والنزعة القبلية وليست القبيلة في المطلق، وعمق المشاعر والعواطف القبلية التي تقاوم مقاومة عنيدة ضد الدولة الرافعة لشعارات التحديث في مختلف جوانب الحياة، ويمكن القول في هذا السياق أنه لا يمكن لأحد إنكار التحولات الحاصلة على جميع المستويات وأوجه الحياة الاجتماعية، ولكن هناك من ينكر استمرارية القبيلة حتى على مستوى النزعة، فليس السياسيون وحدهم ينكرون ذلك بل هناك من المثقفين والباحثين حتى في علم الاجتماع من لا يعترفون بمبدأ الاستمرارية، ربما يكون ذلك نتيجة ظروف أو سياقات معينة أو تحت مظلة إيديولوجيا ما، ولكن الموضوعية لا تترك لهم طول الاستمتاع بتصوراتهم التي تجانب الواقع، وإنما تكشف أن "القبائل في تونس عاشت خلال هذه الفترة (منذ أواخر القرن 19) نوعا من دراما التحديث، حينما هدم التحديث بنياتها، ولكنه لم يقض عليها تماما، ولذلك لم تعد القبيلة موجودة كهيكل وبنية، وإنما ظلت موجودة بالمعنى الرمزي الثقافي رغم ذلك فهي تحاول إعادة بناء ذاتها خارج أطرها التقليدية نتيجة لما تعرضت له من حصار"( ) ويمكن الإشارة في هذا الإطار إلى أن التوجه المنهجي القطيعة والتواصل قد سمح لنا بضبط مستويات التغير والاستمرار "لذلك فإن الاستعانة بالمقولة المنهجية "التواصل والقطيعة مقرونان ببعضهما" جعل هذا التناول السوسيولوجي ممكنا لأنهما يتابعان صيرورة المجتمع ويرصدان ما ينقطع منه وما يستمر وما يندثر وما يستجد"( ).
إنها ثنائية مهمة من الناحية المنهجية كشفت عن أزمة اجتماعية، قد تترجم فشل الإيديولوجيا الموحدة أمام ارتداد ذهني ومرجعي لصالح القبيلة، أين يعرّف الفرد نفسه تعريفا قبليا، وهي ولاءات يقول الخطاب السياسي في تونس أنها تهدد الانتماء الوطني الأشمل الداعي إلى تقليص التمايزات الداخلية للمجموعات القبلية لإنجاز مشروع التحديث، وهذا التسرب في النزعة لم يكن وليد الفترة المعاصرة وانما هو يخضع لتراكم عقود من التفاعل الأحادي للسلطة مع البنية القبلية، وهو ما يمكّننا من القول بأن دينامية الدولة تاريخيا في تونس هي أقوى من دينامية المجتمع أي القبيلة.
وهو ما جعلها تتواصل اليوم ثقافيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا، عبر ظواهر تتكرر في الزمان والمكان، مما يؤكد صعوبة صهرها أو دمجها في مشروع سياسي نخبوي، وهذا ما يطرح مفهوم الحاجة الاجتماعية وسبل توفيرها، أي بين المصلحة في إطارها الضيق وايديولوجيا الدولة الموازية ومدى التطابق بينهما فإذا كان بعض السياسيين يتصورون أن البنية القبلية قد تم القضاء عليها وتدميرها، فإن ذلك يعد دليلا على استمرارها وتواصلها، إذ أن البنية الشكلية لم تعد دليلا على اختفائها، وإنما لابد من التأكيد على أهمية البعد الرمزي الثقافي من خلال الرؤية للعالم والتصور وطرق التفكير والذاكرة الجماعية ضمن صراع رمزي يفرض التصور الذي يقترب من المصالح المادية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يمكن الجماعة من فرض ذاتها. وتقوم الذاكرة بدور مهم في حفظ المخزون الرمزي للجماعة الذي يلجأ إليه وقت الحاجة أو الأزمة، حيث يتم استحضارها حسب الظروف الاجتماعية التي تدفعها لذلك.
ورغم استمرارية هذه المرجعيات التقليدية كمحدد للانتماء والتضامن، فإن مظاهر التغير والتحول تبدو جلية خاصة على المستوى المادي كطرق اللباس والأكل والسكن وتغير طرق والاحتفال والترفيه… أما على المستوى اللامادي فإن السلوكات والقيم تحت تأثير وسائل الإعلام والعولمة قد تغيرت كذلك كبروز النزعة الفردية، لأن سيرورة التحديث التقني والتنظيمي رغم تعثره وبطئه (منذ دخول الاستعمار كقوة مزدوجة الوظيفة تحديثية واستعمارية) قد أدت إلى انبثاق حر وتلقائي لذاتية الفرد، وكذلك يمكن الإشارة إلى التحولات في المستوى الأسري وفي العمل والمرأة وانتشار التعليم وانفتاح الريف وتفكك القبيلة كبناء اجتماعي متكامل والتبدل على المستوى الاقتصادي وتحطيم القاعدة الاقتصادية التقليدية واعتماد التقنيات الحديثة واستغلال الأرض ونشأة ثقافة تخضع الاجتماعي للاقتصادي وتضفي على السوق فضيلة تحررية وتقدمها كآلية طبيعية لضبط العلاقات الاجتماعية، كلها عناصر تعكس التحول والتغير على مستوى المجتمع المدروس.
إن تناول عناصر التقليد أو المحافظة وقيمها الخفية الباطنة مكننا من معرفة أو كشف الستار عن مدى تقبل الثقافة التقليدية للمشروع التحديثي للدولة، من ذلك برزت ثقافة خاصة ليست تقليدية وليست حديثة هي ثقافة يتداخل فيها القديم والجديد، وهو ما يمكّن من القول بأن هناك نموذجا اجتماعيًّا ثقافيًا قائم الذات يمنع بروز وتحقيق نموذج ثقافي حديث. والتالي، فإن المجتمع يعيش هذه الثنائية ويحملها في باطنه، وهوما يجعل من الصعب الحديث عن أفق حداثي فعلي كما وقع الإعلان عنه نظريا، وهنا هناك إمكانية لِتصور نموذج ثالث، هو ليس تقليديا وليس حديثا، بل هو يستمد وجوده من ذلك الصراع أو التصادم بين النموذجين التقليدي والتحديثي.
فهل يعتبر قانون إلغاء القبيلة حتميا لتحقيق التحديث؟
فكيف نفهم انهيار النظام الشيوعي في الاتحاد السوفياتي ولم يحصل نفس الشيء في الصين؟ المشكل في نظر "جون ديفينيو" هو في تصور كل من البلدين لسياسة التحديث والتنمية، ففي الوقت الذي سارعت فيه الدولة السوفياتية إلى تدمير كل البنيات التقليدية بالمجتمع، وخاصة البنيات القروية الزراعية لتأكيد خيار التصنيع، فإن الصين انتهجت استراتيجيا مختلفة فهي لم تغفل القيمة المركزية للتصنيع والتكنلوجيا الحديثة، بالتوازي مع ذلك لم تلجأ إلى استئصال الإمكانات والموارد التقليدية، سواء كخبرات أو مهارات أو أشكال تنظيم الإنتاج التقليدية، لذلك ضمنت التجربة الصينية استمراريتها حسب "ديفينيو"، حيث التقليد يصبح إمكانا للتحديث.
وتعبر النزعة القبلية في تونس عن نوع من الانتكاسة للماضي لأنها كانت الأصل والمفر والقاعدة نتيجة ردة الفعل على غياب البديل العميق والجوهري الذي يحل مكان الهوية التقليدية وهو الوطن بمفهومه الحديث والشامل.
- إن غياب البنى التقليدية كمؤسسات اجتماعية واقتصادية تقليدية ليس معناه غيابها كأطر للانتماءات الأولية وتحديد للهوية الفردية والجماعية، فالعناصر الثقافية التقليدية، ومنها النزعة القبلية لم تندثر نهائيا من المجتمع المدروس بل هناك تراكم وتعايش بين ما هو قديم تقليدي وجديد حديث، ويستخدم الأفراد كلاً منهما حسب استراتيجياته ووضعه اليومي واستجابة لدوره ومتطلباته وضغوطاته، ومن هذا المنطلق فإن الفرد تتحدد رؤيته والمعاني التي تصبغ سلوكاته وردود فعله وفق السياق الاجتماعي الذي يتموقع فيه والمكتسبات والمعاني التي يحملها، فالنزعة القبلية تختلف من جيل إلى جيل نظرا لتأثير عدد من المتغيرات في تشكيل التصورات والرؤى في المكان والزمان، لذلك تختلف الذهنية من جيل إلى جيل لكنها ليست في وضع قطيعة بين العناصر الثقافية التقليدية والحديثة بل هي تتكون في شكل التراكم المستمر والمتواصل للتفاعل بين الموروث التقليدي والجديد، وهو ما يجعل الوسائل المتاحة تتغير أثناء هذا التفاعل.
إن الأحكام المسبقة أو الأفكار المعيارية التي يطلقها بعض الباحثين - وليس في علم الاجتماع فحسب، وإنما في عديد الاختصاصات المعرفية الأخرى، "كعزلة المجتمع الريفي"، و"التحضر العشوائي"، و"التخلف"، و"معوقات التنمية" و"انتهاء القبيلة" - لا تجد سندا لها في البحث الميداني في المجتمع المدروس، الذي كلما كنت محايدا كشفت أكثر، وقد حاولنا ذلك بكثير من الصّبر لأنه مجتمع تراءى لي وأنا أنتمي إليه وكأنني أكتشفه لأوّل مرة، لأنه بفضل الأدوات المنهجية في علم الاجتماع تبدلت الصورة وأصبحت أكثر موضوعية، بما أنها ليست نفسها التي كنت أعرفها، فالقبيلة في مجتمع الدراسة مازالت كعقلية حيّة في النفوس، ويتضح ذلك من خلال القرابة وأشكال التضامن في الحقول الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومن خلال عديد المظاهر فقد تبيّن أن الرّابطة العصبية القائمة على القرابة وكذلك بوصفها رابطة اجتماعية سيكولوجية شعورية( ) مازالت قائمة، وتشتد وتبرز عند وجود خطر يهدد الجماعة. ومهم في هذا السياق الإشارة باختزال إلى النظريات المفسرة للاتجاهات التعصبية وهي :
- نظرية الصراع الواقعي بين الجماعات وتقوم هذه النظرية على أنه حين يحدث صراع بين جماعات معينة لأي عوامل تهديد خارجي، فإن ذلك مدعاة لوجود مشاعر عدائية فيما بينهما، وهو تعصب ينشأ وفق حدث واقعي( ).
- نظرية الصراع بين الريف والحضر والتي تفترض أن مصدر التعصب يرجع إلى الخوف التقليدي والعداوة المتبادلة بين أهل المدينة والريف، فالتشكيك والتهديد والحذر مميزات الحياة الحضرية المدنية تؤدي إلى وجود مشاعر الاستياء والكراهية للجانب الآخر ( ).
- نظرية الحرمان النسبي: تعترف هذه النظرية بأن الحرمان النسبي لشخص دون غيره أو مجموعة يؤدي إلى تكوين التعصب لديه( ).
- نظرية التهديد الجماعي في مقابل الاهتمام الفردي حيث الشعور بالاستهداف من قبل جماعة أخرى يؤدي إلى التعصب لديهم.
ومن هذا المنطلق فإن العصبية كنظام من القيم ينصر فيه الأخ أخاه ظالما أو مظلوما والأخ قد يكون أخ الرحم أو الايديولوجية الحزبية أو الدينية أو القبلية( )..
وما القول بـ "أنصر أخاك ظالما أو مظلوما" إلا مبدأ قائم على قيم العصبية الملزمة، من وجهة نظر علم النفس الاجتماعي فإن التعصب هو اتجاه يتم تعلمه واكتسابه بنفس الطريقة التي تكتسب بها سائر الاتجاهات والقيم النفسية والاجتماعية( ).
- ومن خلال تسليط الأضواء على هذه الإشكالية، فإنه جدير بنا الإشارة إلى أن الحاجة ماسّة لإنتاج قراءات جديدة في مجال دراسة المجتمع وخاصة "التقليدي" لفهم شمولي وأعمق، وهذا من شأنه أن يتجاوز كثيرا ممّا هو سائد في حقل الدراسات الوصفية والموغرافية والايديولوجية التي طالت ظاهرة البنى التقليدية، وأن يتم تجاوز ما قدمته الكتابات الأنثروبولوجية والاستشرافية التي لا تخرج عن خدمة أهدافها الايديولوجية، خاصة المرتبطة بالدراسات الكولونيالية والتي تقودها مجموعة من الأحكام الجاهزة مثل تصوير التضاد بين القبيلة والدولة وارتباط هذه البنية القبلية بالتخلف والحياة البدائية. وقد ظلت المفاهيم الغربية شديدة الالتصاق ببحوث بعض الدارسين للمجتمعات المحلية، وفي ذلك إسقاط وتعسف على الموضوع المدروس لذلك علينا أن نأخذ بعين الاعتبار في حديثنا عن التحديث والتغير في المجتمع التونسي الخصوصيةَ الاجتماعيةَ لما لها من عمق وأصول وتمظهرات وفي نفس الوقت التغيرات والتحولات الكبرى المؤثرة في هذا المجتمع. وهذه الخصوصية أيضا على مستوى المقاربة والمفهوم..
كما لا يفوتنا في هذا السياق القول بأن الاهتمام في هذا الموضوع بالبنى التقليدية القبلية ما هو إلا مدخل من عدّة مداخل منهجية لدراسة التحديث في تونس، فمفاصل وإشكاليات هذا الإطار البحثي كثيرة عديدة
يمكن تناولها من وجهات نظر أو مداخل متعددة ومختلفة، ومقاربة هذه المسألة سوسيولوجيا في ارتباطها بعديد المفاهيم الأخرى كالعلاقة بين النخبة السياسية والحقل السياسي وطبيعة أشتغال النسق السياسي التونسي ومدى ارتباطه بالموروث السياسي التقليدي ضمن ما يسمى في العلوم السياسية بالسّلوك السياسي على اعتباره الجوهر الاختياري الأساسي للوسائل المسلكية السياسية( )، فكيف يتمظهر التقليدي في المستوى السياسي في تونس؟ وماهي آليات اشتغال الظاهرة السياسية؟ هل هي تقليدية أو حديثة؟ ما هي تمظهرات أو تجليات الإرث التقليدي السياسي في تونس؟ هل يمكن اعتبار النسق السياسي التونسي مدخلا لدراسة العلاقة بين التحديث والتقليد وطبيعة التقاطع بينهما؟ فهل يمكن إخضاع العلاقة بين الدولة والمجتمع ضمن الاهتمام؟ فكيف نفهم التوتر بين الدولة والمجتمع من هذه الزاوية السياسية إذا؟ هل "الثورة" هي انعكاس لأداء سياسي معين؟ هل هو أداء "تقليدي"؟ 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تشاد: انتخابات رئاسية في البلاد بعد ثلاث سنوات من استيلاء ال


.. تسجيل صوتي مسرّب قد يورط ترامب في قضية -شراء الصمت- | #سوشال




.. غارة إسرائيلية على رفح جنوبي غزة


.. 4 شهداء بينهم طفلان في قصف إسرائيلي لمنز عائلة أبو لبدة في ح




.. عاجل| الجيش الإسرائيلي يدعو سكان رفح إلى الإخلاء الفوري إلى