الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في كتاب -ماركس ضد نيتشه-

عماد الحسناوي

2021 / 6 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يطرح د.محمد دوير في كتابه “ماركس ضد نيتشه.. الطريق إلى ما بعد الحداثة” عدة قضايا وإشكاليات في الفلسفة والفكر السياسي ونظرية الثقافة والتحولات الاقتصادية والاجتماعية في الحداثة الغربية بصفة عامة، وانعكاس تلك القضايا على سؤال الحضارة الإنسانية في سعيها للبحث عن مستقبلها، حيث رأى دوير أن الطريق إلى ما بعد الحداثة سيشهد صراعا فكريا وأيديولوجيا يتمحور حول فلسفتي ماركس ونيتشه بالأساس. وينطلق هذا الصراع أو التضاد من هذا الفضاء النظري ليترك آثاره على كافة مناحي الفكر الإنساني.

على ضوء ذلك انشغل الكتاب الصادر عن دار روافد بعرض صور التضاد بين ماركس ونيتشه “التضاد الموضوعي ـ التضاد الواقعي ـ التضاد الفلسفي” في دراسة تحليلية نقدية مقارنة حاول فيها المؤلف إحداث مقاربة فلسفية بين المقولة الثقافية من جهة ومحيطها الاجتماعي وبيئتها السياسية من جهة أخرى. وقد جاءت تلك الضدية بالأساس انطلاقا من أن كارل ماركس كان صوت سلب البرجوازية، أي صوت الطبقة العاملة، وصوت هؤلاء الذين يقفون في مواجهة الاستلاب الاقتصادي، والاغتراب الإنساني وانتهاك موارد الطبيعة، وتدمير البيئة، وما يتبع هذا السلب من خصائص متباينة أسهمت في مسيرة نقد الرأسمالية والدعوة لتجاوزها، وذلك بالتضاد مع نيتشه الذي سلب العقل والعقلانية والحداثة ومقوماتها، وما يتبع هذا السلب من نتائج تكشف عن نفسها في معظم دراسات ما بعد الحداثة التي تسعى لضرب كل سلطة تراكمت في الخبرة الإنسانية في مرحلة الحداثة وما قبلها.

وتأتي فصول الكتاب الخمسة وفقا لـ دوير محاولة لتفسير إجابات هذا السؤال، لأنه يتضمن بداخله وفي أحشاء ألفاظه اللغوية وطاقته الدلالية: موجز قصة الحضارة في القرون الخمسة الأخيرة، وكشف لأوهام كثيرة تحاصرنا اليوم، ومن أهمها أن مرحلة الصراع القطبي قد انتهت بلا رجعة، وهي مقولة ستثبت صفحات الكتاب وأفكاره زيفها وتهافتها، فلم نزل نحيا في ظل تجاذب فكري وفلسفي بين قيم الحق والخير والجمال في مواجهة تعميم ثقافة الاستهلاك والنزعة الفردية عبر التفكيك والتشظي والعدمية”.

ويرى دوير أن ثنائية ماركس/ نيتشه ستستمر معنا خلال القرن الحالي الحادي والعشرين، وربما بصورة أكثر وضوحا من ذي قبل، ذلك أن الماركسية أثبتت قدرة فائقة على التعامل مع متغيرات الواقع، وأن النيتشوية عبرت بوضوح عن التطور المعاصر للرأسمالية العالمية، رأسمالية المستهلك ـ بحسب فريدريك جيمسون ـ التي توقفت تماما مع نظرية سلطة القارئ بوصفه زبونا مستهلكا للمنتج/ النص، أي جزءا من تدوير حركة رأس المال بالمعنى الاقتصادي، فالقرن الحالي إذن هو قرن التضاد الفكري بين النيتشوية والماركسية، تضاد يصل إلى حد النفي، بوصف النيتشوية مشروعا يهدم معظم المحددات الفكرية للحداثة. بل وللتاريخ الفلسفي المكتوب، في مقابل الماركسية التي يمكن رؤيتها كمشروع فكري يبحث في ساحة الوعي الاجتماعي ومعطاه الواقعي.

إنه ـ إذن ـ تضاد وصراع بين الإنسان كقوة عمل والإنسان كهيولي للإنسان الأعلى. بين فيزيقيا الإنسان الذي يعتبره ماركس جزءا من الطبيعة، وميتافيزيقا الإنسان الذي ينشده نيتشه في المستقبل هو صراع بين الإنسان في سعيه الثوري لتحقيق ذاته، والإنسان في سعيه الإرادي لتفي وجوده الزائف وخلق وجوده الحقيقي بإرادة القوة بين الإنسان بوصفه كائنا اجتماعيا والإنسان بوصفه ذاتا متفرده غير قابلة للاندماج أو الانقسام.

ويوضح أن نجم ماركس نجم من لب الفلسفة والاقتصاد السياسي وفلسفة التاريخ وعلم الاجتماع والدراسات الثقافية، وكل فريق من هؤلاء يبحث عنه في موقف نقدي أو تطوري أو تحليلي أو كشف بنيوي، محاولا بيان حقيقة العالم، وإدراك عقلانية الوجود. نعم، لقد قال ماركس “إن رأس المال هو شاهد قبري”. ولا شك أن الحديث عن ماركس يجب ألا يتجاهل إسهامه العبقري في الاقتصاد السياسي، بيد أن الحضور الماركسي طوال مائتي عام يؤكد على أن أثره لم يقتصر على تخصص دون آخر، وعلم دون غيره من العلوم الإنسانية، بل لا يتوقف عند حدود ما طرحه من أفكار في مؤلفاته، فقد خضعت المقولة الماركسية لأكبر عمليات تفسير وتأويل وشرح وتناول وتفاعل، وفي حدود درايتي الشخصية أنه ليس هناك من مفكر أو فيلسوف في التاريخ القديم أو الحديث انتشرت مؤلفاته وذاعت أفكاره بالقدر الذي حظيت به المقولة الماركسية، حتى أرسطو نفسه، الذي ظل موضوعا للدرس الفلسفي على مدار ألفي عام تقريبا، لم يحظ تاريخيا بتلك المكانة في الانتشار التي حظي بها ماركس، فمؤلفات ماركس ظلت يين أيدي الجميع بدءا من كبار المفكرين في كل أنحاء العالم وحتى صبية مدارس الثانوية في أصقاع الأرض.

ويلفت إلى أنه في المقابل لم نجد في فلسفة هيجل ما يستدعي مقاربة نظرية معاصرة نظرا لتراجعها إلى حد كبير في العقود الأخيرة. لتحل محلها فلسفة نيتشه ومقولاته، فالمؤكد أن الثقافة الغربية المعاصرة لم تنشغل بفيلسوف مثلما انشغلت بفيلسوف ألمانيا فريدريك نيتشه الذي سجل حضورا ملحوظا في العقود الأخيرة وبات جزءا رئيسا من الدراسات الثقافية الراهنة في أهم جامعات العالم، بحيث يصدق القول بأن الفكر الغربي يعيش الآن مرحلة المقولة النيتشوية سواء في الدرس الفلسفي الأكاديمي أو الاتجاهات ما بعد الحداثية أو دراسات النقد الأدبي أو دراسات علم النفس، وانعكاس ذلك على مجمل أنشطة الانسان الأخرى، ولما كان للمقولة النيتشوية من انتشار تناسب طرديا مع مرحلة الحداثة السائلة ـ كما يقول زيجمونت باومان ـ كان من المهم أن ننشغل بدراسة أسباب وحدود ذلك الأثر النيتشوي على الثقافة العالمية، ليس بوصفها اتجاها فلسفيا يدفع باتجاه العدمية فحسب، بل لأنها تدعو من بين ما تدعو إلى هدم أفكار الحداثة وفي القلب منها الماركسية من هنا جاء التضاد وأتى الصراع الفكري.

وفي تقدير دوير أنه لم يتبق للفكر العلمي سوى الماركسية القادرة على مواجهة هذا التجلي الفلسفي ـ بدءا من أرسطو حتى نيتشه ـ وتأويلاته التي أفرزتها المجتمعات التي استندت على الملكية الخاصة من العبودية إلى الرأسمالية التي تمر بأسوأ مراحلها التاريخية وأحط صورها الإنسانية وأعني بها طور العولمة، أو مرحلة ما بعد الحداثة، كما يطلق عليها البعض، وقيمة الماركسية ـ في تقديري ـ أنها لم تزل تحتفظ بمشروعيتها النظرية ومصداقية مقولاتها الأساسية التي تنطلق أساسا من نقد قانون حركة رأس المال، بل والنقد الجذري للملكية الخاصة وتجلياتها في الفلسفة والسياسة والاجتماع والثقافة.. إلخ.

وتساءل دوير ما الذي يجعل من المقولتين الفلسفيتين عند ماركس ونيتشه فاعلية دائمة قابلة لتجاوز صعوبات ثقافية وفكرية كثيرة وقادرة على النفاذ للقرن الواحد والعشرين؟ وهل الموضوع متعلق بالأصالة الفلسفية أم بالمنهج أم بعناصر الخطاب الفلسفي لديهما؟ وقال “لقد أشار كثير من المفكرين إلى القضية الاجتماعية والصراع الاجتماعي وضرورة التخلص من الرأسمالية، ولا أعتقد أن قيمة لاسال أو رودبروتس أو بردونى أو ريكاردو من الناحية العملية تقل عن القيمة العلمية لماركس أو على الأقل تقترب منها. ورغم ذلك لم يحققوا حضورا طاغيا كالذي شهد به التاريخ لماركس. الأمر نفسه قد ينطلق على نيتشه الذي تتلمذ على يد شوبنهاور إذ قال عنه نيتشه ذات مرة “إنه يحبه حتى التقديس”. وكذا لا أعتقد أن قيمة هيجل وشبلنج ونيشته وكانط الذي وضع الفلسفة في إطار استمرت عليه ربما حتى اليوم، بأقل من القيمة الفلسفية لنيتشه، فلماذا بقي نيتشه يحاصرنا بمقولاته كل صباح ومساء، ويجد كل يوم زبائن جددا يتلون مما كتب في القرن التاسع عشر؟

ويعتقد أن “الأصالة الفلسفية ليست هي العنصر الحاسم بمفردها، فالأمر في حاجة إلى دراسة تضع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والفلسفي والتاريخي في حيز الاهتمام بالإجابة عن مثل هذا السؤال، سؤال، لماذا ماركس ضد نيتشه في القرن الحالي؟”.

ويشير دوير إلى إننا أما صراع وتضاد وحوار بين الفيلولوجيا والمادية التاريخية كمنهجين يبحثان في أنماط وصور التغيير في العالم، وبين الفلسفة العدمية في مواجهة النظرة المادية، وذلك في بحث نيتشه عن الإنسان الأعلى وبحث ماركس عن الشيوعية وإنسانية بلا استغلال واغتراب، وما ترتب عليهما من بحث نيتشه في أصل الأخلاق ليحل تلك الإشكالية. وبحث ماركس في أصل التراكم للقضاء على الملكية الخاصة بوصفها أصل كل الشرور. وأمام تضاد دور الغريزة وقيمة قوة العمل، حيث اعتبر نيتشه أن الغرائز هي سر تقدم الإنسانية واعتبر ماركس أن قوة العمل هي سر التقدم. فالعمل الواعي المنظم التراكمي هو النشاط المميز للإنسان، ومن ثم تمحورت نظريته العامة حول مفهوم العمل ونتائجه.

ويضيف: فيما رأى نيتشه أن الألم هو معيار الإنسانية وبمقدار قدرة المرء على تحمل الآلام تقاس درجة درجة إنسانيته. ومن هنا اكتشف ماركس فائض القيمة وكشف نيتشه قيمة اللاشعور.. إلخ. ثم إننا أيضا أمام صراع بين الإنسان الأعلى بوصفه الكلمة الأخيرة عند نيتشه، والتي تسبقها عدة مراحل أهمها موت الإله وإقصاء الميتافيزيقا، وإرادة القوة التي تمكن الإنسان الأعلى من تحقيق غائيته، والشيوعية بوصفها الكلمة الأخيرة عند ماركس والتي تمر أيضا بأكثر من مرحلة، وهي الثورة على الرأسمالية ثم بناء الاشتراكية حيث من كل حسب قدرته إلى كل حسب عمله، ومنها إلى الشيوعية حيث من كل حسب قدرته إلى كل حسب حاجته. وبناء على ذلك سيبقى التضاد الفلسفي قائما، حتى تستقر البشرية على رسم ملامح مستقبل جديد يعبر بمصداقية عن ما بعد الحداثة الجذرية التي تزيح ستار الرأسمالية عن وجه الإنسانية للأبد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نيويورك تايمز: صور غزة أبلغ من الكلمات في إقناع الآخرين بضرو


.. فريق العربية في غزة.. مراسلون أمام الكاميرا.. آباء وأمهات خل




.. تركيا تقرر وقف التجارة بشكل نهائي مع إسرائيل


.. عمدة لندن صادق خان يفوز بولاية ثالثة




.. لماذا أثارت نتائج الانتخابات البريطانية قلق بايدن؟