الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كروموسومات التجريب المسرحي

أبو الحسن سلام

2021 / 6 / 24
التربية والتعليم والبحث العلمي


هل التجريب صفة في العلم أم صفة في الفن ؟!
عندما تتعدد الآراء وتتضارب حول مفهوم ما فيدلي صاحب رأي بتصريح هنا أو هناك ؛ دون استعداد ويقتحم الميدان من لم تكن له علاقة وطيدة بالموضوع المطروح الذي هو جديد أو معاد فيصرح بقول هنا وهناك دونما تحديد أو تفنيد ودون وضوح أو فهم بحيث تضيع المفاهيم أو تختلط؛ يصبح على البحث العلمي وجوب التوقف طلباً للفصل بين المفاهيم المتشابكة لتحديد مفهوم علمي تتفق الآراء على أنه يفي بالتعريف الملائم المعبر في وضوح عن الموضوع .
ولما كان الكلام عن التجريب في المسرح قد تعدد وتضارب بحيث اختلطت المفاهيم فلم يعد البعض - ممن يسيطرون على الأعمدة المخصصة للمسرح في صحفنا وفي مجلاتنا غير المتخصصة - يعرف ما هو العرض المسرحي التجريبي وما هو غير التجريبي فيسطر قلمه ما شاء له تسويده . لذا آثرنا التوقف عند مدلول التجريب ومصطلحه ومن ثم مفهومه ودور الوسط ودور الوسيط في التجريب وحتميته وأهمية فهم من يتصدون لمسرحنا بالنقد .
ولا شك أن وقفتنا عند حدود مصطلح التجريب تقليد يتبعه المنهجيون طلباً للوقاية من الخلافات وتوفيراً للوقت والجهد يقول د. محمد غنيمي هلال : " نوفر لأنفسنا كثيراً من الوقت والجهد إذا بدأنا في علاج مسألة من المسائل بتحديد المفهوم والاتفاق على معنى الألفاظ التي نستخدمها في علاجها حتى نتقي الخلافات الشكلية " والقياس هنا يكون معجمياً ويكون دلالياً .
فكلمة " ثقافة " : " ليست مجرد تعبير عن الحاضر بل تنمية لإمكاناته ، وتنويره ، وتصفيته وإثرائه ، أو تحويره "
ولقد أعدت قراءة ما كتب أخيراً حول المسرح التجريبي وحول المخرجين الأجانب الذين رأى كتّاب الأعمدة الصحافية المخصصة للمسرح - على الرغم من - عدم حاجة المسرح المصري إليهم .
ولما كانت كل ألوان الكتابة بما فيها الكتابة الصحافية الفنية والأدبية والنقدية لوناً من ألوان الثقافة لذلك توقعت أن يكون ما كتب أخيراً في صحفنا ومجلاتنا حول المسرح التجريبي ( ليس مجرد تعبير عن حاضر ) المسرح المصري ؛ بل تنمية لإمكاناته ، وتنويره ، وتصفيته ، وإثرائه أو تحويره ) ولكني أسفت حين وجدت تلك الكتابات لا تنتسب إلى تنمية إمكانات مسرحنا المصري ، ولا تسعى إلى أن تكتب عن تنويرنا بوساطته ، ولا تهدف إلى تصفيته من سلبياته الفنية أو الإدارية الإنتاجية ، لاشيء من ذلك كله هدف إليه كتّاب تلك المقالات التي ترفض تجربة الاستعانة بمخرج أجنبي ( إيطالياً كان أم لبنانياً ) بل التي ترفض إقامة مهرجان للمسرح التجريبي .
إن تنمية إمكانات مسرحنا تتحقق بالنقد الموضوعي الذي يعطي أسباباً مقنعة لاستمتاعه بالعرض المسرحي أو يعطيه أسباباً مقنعة لعدم استمتاعه بالعرض المسرحي . والكثير مما كتب لم يكن موضوعياً بل لم يكن نقداً بحال ؛ وإنما هو انتقاد والفرق كبير ، لأن النقد تنوير وكشف للإيجابيات وللسلبيات التي يتضمنها العرض موضوع النقد بهدف تنمية إمكانات الكتابة والعرض المسرحي وتنمية الإمكانات الإنتاجية ، ما كتب كان هجوماً على وزارة الثقافة من حيث فلسفتها وتوجهاتها وآليات تحقيق تلك الفلسفة في الحقل المسرحي ، دون التفات إلى ضرورة التجريب كوسيلة متجددة ، رافضة للثبات اعتماداً على المصكوكات الفنية وربما دون معرفة تذكر بمفهوم التجريب بل دون قدرة على الوقوف النقدي المحايد أمام أحد العروض التجريبية ليدلل على تدني مستواه الفني أو فشله في تنمية إمكانات ممثلينا وعروضنا ومسارحنا أو تنمية الارتياد الجماهيري للمسرح أو تنوير الجمهور بماهية التجريب وتأصيل مفهومه . فلو رجع الذي يهاجم فكرة التجريب في المسرح إلى مصطلح التجريب في أي قاموس لوجد مادته اللغوية : من جرب أي اختبر وجرب أمراً أي اختبره .
To atempt : endeavour
وجرب : أغرى : To tempt : entice
جرب نفسه في كذا : To try one’s hand at
جرب : اختبر : To try : test
التجريب : الاختبار Experimental
تجريبي : Experimental
ولو راجع المصطلح نفسه مراجعة دلالية لوجد معناها : " المعرفة أو المهارة أو الخبرة التي يستخلصها الإنسان من مشاركته في أحداث الحياة أو ملاحظته لها ملاحظة مباشرة .
( وهي غير التجربة التي تعني التدخل في مجرى الظواهر للكشف عن فرض من الفروض أو للتحقق من صحتها : Experimental , Experience)

التجريب نقد بإبداع لإبداعات سابقة :
والتجريب على ما جاء ( بمعجم مصطلحات الأدب ) يشمل التعريفين الدلاليين إذ أن (التدخل في مجرى الظواهر للكشف عن فرض من الفروض أو للتحقق من صحتها ، يتطلب معرفة ومهارة وخبرة وقدرة على الملاحظة بالتمييز الذي حدده الشاعر الإنجليزي تسوشر وعلى ذلك يكون التجريب في الأدب بصفة عامة وفي المسرح بصفة خاصة مهمة يضطلع بها أصحاب خبرة من رجال الأدب أو من رجال المسرح ونقده ؛ وهو أمر يغلق الباب أمام المبتدئين ؛ فما يؤيده غير الخبير. وما يفعله المبتدئ - يسمى ( التدريب ) ولا يسمى ( التجريب ) بأي حال من الأحوال . لأن التجريب ينطوي على عملية نقدية ضمنية لما هو قائم ، وهو نقد إبداعي معارض لإبداع سابق ، وعلى ذلك فواجبات المجرب هي - أولاً - واجبات الناقد والمؤرخ الفني ، ثم هي _ ثانياً _ واجبات المبدع . فالناقد له منهجية العالم في التوصيف والتقويم دون حاجة للارتقاء إلي حالة التأصيل - يقول د. محمد زكي العشماوي : ( الناقد هو الذي يعطيك أسباباً ممتعة لاستمتاعك بالفن ) وهو إذ يفعل ذلك ؛ لابد وأن يستوعب ويحلل ويفسر ثم يقيم ويقوم . والتقويم هنا بمثابة التجريب ، وتجريب المبدع يتأدي بإبداع مغاير ومؤثر في حركة المسرح القائمة .
وعن التجريب في عمل الناقد يقول د. محمد مندور : ( إن النقد ينهض بوظائف ثلاثة هي : تفسير الأعمال الأدبية والفنية ، وتمييز جيدها من رديئها ) إلى جانب ( توجيه الأدب والفن ) .
إذا فالتجريب إبداع يتضمن نقداً للإبداع النوعي السابق عليه ، ويطرح مغايرا جديدا عن طريق العبث الواعي بمكونات المنتج الإبداعي السابق – سواء أكان هدما لسياقه ومعارضة لخطابه أو مزجا لخيوط حديدة إلي لحمة نسج وسدي شكل أو اتجاه إبداعي قائم ، بشعرية جديدة مبتكره - وذلك مستحيل على مبتدئ .
• تأصيل مفهوم التجريب :
قد كنت أتوقع ممن يكتبون عن المسرح متقنعين بأقنعة النقد التجريب ، ونقد التجريب أن يحكموا وضع القناع علي ما يصدرون ؛ عن طريق التخصص الدقيق المتدّرع بالنظرية في توجهاتها المتباينة والمتناغمة مع المنتج الإبداعي الذي يتناوشونه نقدا ، ضرورة أن يصدر الواحد منهم نقده باتخاذ نظرية نقدية مناسبة يشير إليها العرض المسرحي نفسه وأن يكون قبل ذلك عارفاً خبيرا بنشأة الحياة المسرحية وتفاعلات أثرها عبر تطور العصور قديمها ووسيطها وحديثها وصولا بمعاصرها ؛ بوصفها الشغل الشاغل لكل فاعل خبير قادر علي ابتكار فواعل غير مسبوقة في ما نعرف من المسرح ، ذلك أن التجريب مبدعين ومنتجين وعلماء ونقاد وإعلاميين وفلاسفة ، تدور إبداعاتهم أو توجهاتهم أو بحوثهم أو كتاباتهم حول إثبات علاقة نشأة المسرح بالعقائد ثم انفصاله عن العقائد مع تتبع فعاليات هذه المراحل اتصالا وانفصالا ، وأثرا لفاعليات عوامل فعل الاتصال وفعل الانفصال وأثره سلبا وإيجابا وصولا إلي أهمية تجديد خلاياه ، تجديد نبضه ليطابق كل مرحلة من مراحل تجديد حياتنا في ثوب هويتنا الحضارية المتجددة شكلا ومضمونا .
• في الإطار المنهجي للتجريب :
وإذا كان العلماء يضعون نصب أعينهم دائماً القانون العلمي الطبيعي : ( الجديد ينبع من القديم ويجبّه ) إلاّ أنهم يتعرفون على عوامل انفصال الجديد عن القديم ، برصد صفات القديم وتحليلها ؛ ومن ثم يتعرفون على الجديد في حالة اكتشاف صفات مغايرة للصفات القديمة المعلومة لهم . وذلك كله من منطلق فهمهم لقانون الطبيعة القائل بأن: ( كل شيء مرتبط بكل شيء ) والناقد - الناقد - باحث أيضاً وفق منهجية ما ، وله موضوعية العلماء .
فإذا كان العلماء والفلاسفة في تحديدهم لبعض الصفات المميزة لسائر الأحياء عن الجمادات قد توصلوا إلى أن أولي صفات الكائن الحي تتمثل في قدرته على الحركة والنمو ؛ فما من كائن حي إلاّ و يتحرك ، سواء لاحظنا ذلك أو لم نلحظه ، وإن ثاني الصفات فسه هي التغذية . فكل كائن حي لابد له من غذاء يستمد منه مادة نموه وبناء جسده وفكره . كذلك يستمد منه الطاقة اللازمة للنمو والحركة والتكاثر و طاقات التفكر والتفكير والتأمل والتخيل والمحاكاة والتصور والتصوير. أما ثالثة الصفات فهي قدرة الكائن على التكاثر وومد جسور لاستمرار وجودية جنسه وكينونة طموحه إلي الخلود سواء عن طريق إنتاج سلالة جديدة مشابهة لأصوله أو بما يترك من إنجازات للبشرية في حدود تخصصه النوعي ؛ وذلك بغرض حفظ النوع واستمرار الحياة ، ونشدان الخلود . وتلك هي الحياة الإنسانية .
فإذا فهمنا أن المسرح هو الحياة الإنسانية بشخوص لهم دوافع وعلائق وبواعث يتفاعلون بأحداث نامية في حيز مكاني وزماني داخل ذهن الكاتب ومشاعره ، ويلحون عليه لينطلقوا من سجن ذهنه إلى عالم افتراضي أرحب .. خارق الورق ؛ لتتحقق لهم رغبتهم القوية في الفراق الطبيعي للمنتح الإبداعي عن خالقه – الفراق الطبيعي الذي تضمنته دعوة محاكاة الفكرة المطلقة التي دعت إليها مثل أفلاطون ، الشاعر والأديب وفنان المسرح - وهو قراق لتكوين وجود مستقل يتحجج أو يتوالد في حيوات متجددة ما دام هناك أناس يتلقون ، وهكذا تنشر المقولات والمواقف وتتوالد الافتراضية في نصوص عظماء الكتّاب في سائر العصور والأزمان . و إذ تتحقق هذه الإرادة في الكينونة أو الوجود ، بتجسيد حي متوالد على منصات المسارح العالمية كائنات حية خروجا من حالة سكون وموات نصي ، أو صورا عبر تصورات ذهنية في أثناء القراءة على شاشة عرض مرئي وسمعي في ذهن القارئ ،بوسيلة الترجمة الذهنية الفورية بدون وسيط خارجي عن طاقة القارئ ؛ إذ تقوم عينه محل الوسيط الخارجي بتوصيل الرموز المكتوبة ؛ فتترجم مفردات العبارة ترجمة تجسيدية ذهنية؛ ذلك ما يعادل قدرة الكائن الحي على الحركة والنمو - الصفة الأولى للكائن الحي وفقا للقانون الطبيعي .
إذاً فالصفات المحددة للكائن الحي ، كما حددها العلماء وكما هو معلوم ومشهور تتركز في ثلاثة خصائص هي ( القدرة على الحركة والنمو - التغذية - حفظ النوع بالتكاثر ) والشخوص المسرحية التي تولد على الورق ، لابد وأن تكون قادرة على النمو والحركة . زإن كانت كامنة في رسمها علي الورق فهي مدفوعة ببواعثها وعلاقاتها المتصارعة علي صفحة المنصات المسرحية في حالة توالد مخيلات التلقي المتوالدة أبدا .
وهذه الصفة تتضح من قدرة الشخصية على الصراع بأن تناضل من أجل إثبات إرادتها وتوكيد فعلها المحقق لإرادتها عبر علاقات متصلة ومتفاوتة .
أما الصفة الثانية التي إن اتصفت بها الشخصية المسرحية ؛ كانت محققة لشرطين من شروط الكائن الحي ، فهي حاجتها إلى التغذية لتوليد طاقتها توليداً داخلياً :
إذ أن الشخصيات المسرحية تمارس هذه الصفة - التغذية - في حالة واحدة ، شبيهة بالتمثيل الضوئي عند النبات . فالنبات يمتص الضوء ثم يحوله إلى طاقة ثم يبني من غاز ثاني أوكسيد الكربون والماء أعقد المركبات العضوية اللازمة لتركيب النبات والحيوان الذي يتغذى عليه .
والشخصية المسرحية كذلك تمتص الضوء المشع من ذهن القارئ - في حالة القراءة - فتنعكس على شاشته الذهنية صورة تجسيدية متحركة . فالإشعاع الذهني هو بمثابة الضوء الذي تمتصه الشخصية المسرحية على الورق - في النص - فتحوله إلى طاقة تمكنها من القفز خارج النص والتجسيد في ذهن المتلقي قراءة أو علي منصات التمثيل تجسيدا في عروض متجددة .
والشخصية المسرحية تتغذى بإشعاع الممثل في دوره في أثناء العرض بالإضافة إلى حصولها على التغذية المعرفية المتكاملة في تحصيل الممثل وحضوره ، لكي تشحن بالطاقة عن طريق تغذية الممثل بتواصل الجماهير الإشعاعي أي تأتيها الطاقة من الممثل الذي تأتيه الطاقة من الجماهير في أثناء العرض ومن النقاد المنهجيين بعد مشاهدته لفن الممثل . يقول ألفريد فرج : " إن المتفرجين الذين تحيا بأنفسهم فرقنا المسرحية المتعددة لهم حق وعليهم واجب أن يعرفوا أسرار هذه اللغة السحرية " " فالجمهور العارف بأسرار فن المسرح هو الجمهور الذي سيضمن للنهضة المسرحية في بلادنا التقدم والنماء" فهل أدرك أصحاب المقالات النقدية و الانتقادية لمسرح الدولة شيئاً من هذا .
أما الصفة الثالثة التي يتصف بها الكائن الحي وهي : التكاثر للحفاظ على النوع . وهي خاصية تتحقق وفق تطور العصور الفنية فالرومنتيكية وإن خرجت من أحضان الكلاسيكية الجديدة فإنها تحمل بعضاً من خصائصها ، إلى جانب ما نبع منها هي كاتجاه جديد ؛ يزيح الموضوعية ويحل محلها الذاتية المخايلة بما هو فائق . وهكذا الطبيعية والواقعية والتعبيرية والرمزية والعبثية والملحمية - وكع أن كلا منها صنيعة مغايرة لما قبلها سياقا وخطابا إلاّ أن كل نزعة فنية أو مدرسة منها فيها من الصفات الوراثية للمدرسة السابقة عليها إن لم تكن تحمل من الصفات الوراثية بعضاً من المدارس السابقة جميعها .
إن من يتصدى للنقد لابد وأن يعي ذلك كله ، فهل وعى أؤلئك الذين نسبوا كتاباتهم إلى النقد شيئاً من ذلك ؟ هل عرفوا خاصية الحفاظ على النوع ( التكاثر ) وهي التي تدعو إلى ابتداع طرائق ومسالك للحفاظ على النوع عندما يخشى الكائن فناء نوعه إنها مسألة غريزية ، كما كانت الحركة والنمو غريزة في الكائن الحي ، وكما كانت التغذية ؛ فضلا عن كونها مكتسبة عبر ممارسات التخصيل والتأصيل المعرفي لشعرية النوع وطرائق تجدد فعالياتها المتوالدة .
المسرح إذن كائن حي يتصف بالحركة والنمو ( صفة أولى ) ، ويتصف بالحاجة الغريزية إلى التغذية ( صفة ثانية ) ، ويتصف بالتكاثر ( صفة ثالثة ) .
وغريزة التكاثر في المسرح وإن اتخذت مسمى آخر هو التوالد المتنوّع ؛ تدعو إلى ابتداع أشكال جديدة . وهذا الابتداع يستلزم التجريب ، والتجريب يستلزم المعمل ، والمعمل يستلزم المادة والأجهزة والباحث، والفرضية ، ثم التجربة المعملية نفسها . ولاشك في أن هذه هي عناصر التجريب .
لا يختلف التجريب في المسرح ، كثيراً عن أي تجريب في أي مجال بحثي إنساني افتراضي . فهو يحتاج إلى العناصر السابقة نفسها ، فكيف يرفض من ينسب نفسه إلى الحياة الثقافية عامة والمسرحية خاصة تكاثر النوع الذي يعتبر نفسه واحداً من قطيعه ؟!!
• مادة التجريب :
إن الكلام عن المادة في المسرح شبيه بالكلام عن المادة في الكائن الحي ومادة الكائن الحي تتكون من خلايا . والخلية تنقسم إلى نواة وبروتوبلازم وسيتوبلازم وكروموسومات - وهي تلك التي تنقل الصفات الوراثية للوالدين - وإذا كانت المادة في المسرح تتكون من نص المؤلف ونص المخرج فإن الخلية فيه هي الحدث . ونواة هذه المادة في النص المؤلف تتمثل في الفكرة الدرامية . وتتمثل النواة في نص المخرج في الرؤية أو الأسس النظرية لإخراج النص ( ترجمة لمعني النص أو تفسيرا له أو تأويلا أو نقضا ) والمسرحية نفسها مجموعة من الخلايا تتكون الخلية الواحدة منها من نواة وبروتوبلازم وسيتوبلازم وكروموسومات .
وإذا كانت وظيفة النواة في الخلية الحية هي التحكم في عمليات البناء لاسيما المركبات البروتينية التي هي من أهم مركبات البروتوبلازم الذي هو عبارة عن مادة هلامية ليست متجانسة ؛ فإن الفكرة الرئيسية في المسرحية هي بمثابة النواة في المسرحية ؛ تتحكم في بنائها : شخوصاً – نمطية أم نامية – وأحداثاً صراعية درامية ، كما تتحكم في مكونات الحوار وتباينه ، وتحديد وظيفته ودوره في تغذية ااتفاعل الصراعي وتنميته وصولا للذروة فالانفراج . كذلك تعد الأفكار الفرعية الخارجة عن الفكرة الرئيسية بمثابة البروتوبلازم في الخلية الحية ، حيث " تنتقل صفات الوالدين إلى الأبناء " حيث يمثل النص والمجتمع - والدي العرض وحيث تنتقل صفاتهما الماهوية إليه .
والتجريب هنا يكون في محاولات مبدع النص ، ومبدعو العرض العبث بمعايير عناصر مسرحية تكلست فاعليات عطائها عبر مراوغات طاقة البحث المعمليلتغيير هذه المعادلة ؛ وصولاً إلى خلق إبداع جديد لمجتمع جديد لجمهور جدبد عليه خلقه أو استدعائه إلي خلية مخصبة بأفكار الوسيط التجريبي:( العرض )

التجريب إذن لابد وأن يكون غير تقليدي بمواد تكون صالحة للتفاعل ، قادرة علي المراوغة عبر التورية الدرامية وتقنيات المسكوت عنه والمباغتات في سياق التشكيل غير المعتاد الذي يستهدف وسيطاً جديداً للتعبير المسرحي ؛ فالتجريب في المسرح وارتياد لون جديد بغية الخروج عن المألوف الموجود للشعور بالتناقض مع هذا المألوف التقليدي والإحساس بأنه لا يعبر التعبير الحقيقي عن رؤية المجتمع وخاصة الغالبية الصاعدة من الشباب "
والتجريب هو سبيل البحث عن شكل ومعنى جديدين يكونان أكثر ملاءمة وأكثر تعبيراً عن هويتنا المتوالدة وروح التحضر الدائمة فينا و انفتاحا أكثر كشفاً عن تيمات حياة الشعب في غالبيته العظمى ومفارقات هذه الحياة .
• خلاصة البحث :
مما تقدم نخلص إلى أن المسرح التجريبي نشاط مسرحي طليعي متمرد في مجتمع يتوق إلى التغيير ، كما نخلص إلى أن مادة التجريب تكون في ( الكروموسومات ) وهي هنا ( المجتمع والنص ) بحيث تعطينا وايداً يتمث في ( العرض ) يختلف في صفاته عن أبويه وإن هذا يكون بمثابة طفل الأنابيب المسرحي .

وهذا ما فعله ( هنريك إبسن ) مع بداية القرن العشرين حيث رأى أن ( الدولة نكبة على الفرد وينبغي إلغاء الدولة ) ومن ثم ألف نصوصاً مسرحية تتوافق مع رأيه هذا . وفي ذلك تغيير لنسب كروموسومات الخلية المسرحية السابقة عليه ومثله فعل ، ( بريشت ) وكذلك فعل العبثيون في بداياتهم إلى أن أصبح كل تجريب منهما مدرسة طليعية قائمة و تيارا مستقرا بذاته ومن هنا كان التمرد عليها وارداً ، وواجبا .

التجريب بين الوسط والوسيط
والمركب والبسيط

على ضوء ما تقدم يمكننا أن نخلص إلى أن التجريب في المسرح هو مرحلة وسط بين مسرح سابق ومسرح مأمول ، وسط بين ما كان وما سوف يكون أو هو بتعبير الدكتور لطفي فام " مسرح يعد لمسرح آخر أكثر استقراراً ودواماً ، ولكنه لن يكون دائم الاستقرار والبقاء ، فكل مسرح ليس سوى مرحلة في التطور المسرحي ، بل إن حياتنا نفسها حياة عابرة ورحلة انتقال هي الأخرى . فكل محاولة مسرحية هي نهاية عمل وبداية آخر في آن واحد ، ومن ثم يمكن القول : إن المسرح الكلاسيكي كان طليعة للمسرح الرومنتيكي الذي كان بدوره طليعة للمسرح الشاعري أو الرمزي وهكذا .
التجريب إذاً فترة انتقال ، بعد وقفة تأمل ، فالمسرح التجريبي يشكل فترة انتقال استثنائية ، لا تتوقف ، فما أن تنتهي إلاّ وتعقبها حالة استثنائية أخرى جديدة ، حيث لا يتوقف التجريب ، لكونه سنة من سنن الحفاظ على النوع . وعملية الانتقال المسرحي من شعرية إلي شعرية مغايرة ، نظرا لطبيعة موقعها الوسطي بين ما كان وما سوف يكون تنحو نحو التبسيط ، بعد أن تأزم المسرح - الذي كان - نتيجة التركيب والتشابك والتعقيد الفني ، لذلك –غالباً- ما يخلد الإبداع الذي قصد به التجريب فخرج عن القوالب السابقة عليه . هكذا كان إبداع سوفوكليس ناتجا عن تجديد بوساطة التجريب في قواعد وأساليب سابقة عليه تمثلت في إبداع اسخيلوس وكذلك تجديد يوربيديس من بعدهما في سياقات نصوصه وفي خطابه الأقرب إلي التفاعل مع مجتمعه وكذلك الحال مع التجديدات الإبداعية لشكسبير وتجريبه لأشكال مسرحية جديدة تدمج بين نوعي الدراما ( المأساة والملهاة ) فتجعل النقيضين في وحدة - عن قصدية لم تكت لكتابات مسرحية في العصور الوسطي لم تحفل بالوحدات الثلاث ولا لنظرية الفصل بين الأنواع - لإبطال أصولا في المسرح واستحداث أسس جديدة ، لها من الإبداع شعرية مبتكرة تخلدها.
وكذلك كانت إبداعات إبسن وبريشت وبيكت وبيرانديللو، كلها كانت وسيطة تستشرف مستقبلا مسرحيا ، وسيطاً للتكاثر المسرحي المتنوع .. حفاظاً على النوع . يقول إيفانز : " المسرح التجريبي ينظر دائماً إلى المستقبل وغزو المجهول أو في الواقع يخطط للمستقبل فالتجريب اليوم يمكن أن يصبح جماهيرياً بعد عدد من السنين " -
• المسرح التجريبي دراسة جدوى في بيت خبرة :
بوصف التجريب وسطا بين الموجود والمستهدف فهو أشبه ما يكون( بدراسة جدوى) لنص مسرحي. دراسة جدوى لعرض مسرحي بل دراسة جدوى لحركة مسرحية . ودراسة الجدوى يجريها بيت خبرة . ودراسة الجدوى مصطلح اقتصادي عرفه العالم الغربي وارتبط بمصطلح غربي آخر هو مصطلح بيت الخبرة ، وارتبطا معاً بفترة ما بعد حرب 1973م بمصطلح ثالث هو الانفتاح الاقتصادي وهو مصطلح مصري سياسي . والتجريب في المسرح المصري ارتبط من حيث الزمان والمكان بفترة ما بعد حرب أكتوبر 1973م . وبعد الحرب تظهر ردود الأفعال ، تتضح المسالك ، ينكشف كل ما هو موجود ، يفسر سبب وجوده على هذه الكيفية ويقيّم ومن ثم يقوم أو يستبدل بجديد .
ولأن الوطن العربي مأزوم اقتصادياً ومصدوم نفسياً وممزق قوميا ؛ فإن الإسراع إلى الجديد يكون غير مطلوب بل لا يمكن طلبه إلاّ من خلال وسيط . وهو إن يطلب فلا يطلب إلاّ وسطاً بين ما كان وما يؤمل أن يكون .
فإذا انتهينا إلى التسليم بأن المسرح التجريبي دراسة جدوى يقوم بها بيت خبرة ؛ فإننا نسلم بأن هذه الطريقة ما هو إلاّ تجربة يجريها عالم في معمل وهذا العالم وسيط وهذا المعمل وسيط ، وهذه التجربة وسيط بين حالة أو ظاهرة يراد تجاوزها و ظاهرة يراد استنباطها أو اكتشافها . وإن هذه العملية التجريبية بهدف من ورائها أن تكون وسطاً بين موجود وغائب بهدف الحفاظ على النوع بنقل بعض صفات وراثية من الأبوين النص والمجتمع أو النص والعرض والمجتمع للتأثير الإيجابي عليهما بإيجاد غائب منفلت من الموجود المسرحي عن طريق التجريب في نسب الكروموسومات في الخلية المسرحية . وهذا يتأتى مع العلماء ومع الخبراء من أهل التخصص المسرحي الباحث الممارس في آن ويمتنع تماماً على المبتدئين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. !ماسك يحذر من حرب أهلية


.. هل تمنح المحكمة العليا الأمريكية الحصانة القضائية لترامب؟




.. رصيف غزة العائم.. المواصفات والمهام | #الظهيرة


.. القوات الأميركية تبدأ تشييد رصيف بحري عائم قبالة ساحل غزة |




.. أمريكا.. ربط طلاب جامعة نورث وسترن أذرعهم لحماية خيامهم من ا