الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل لحرية الإرادة وجود في العلوم الإنسانية ؟

عبدالله محمد ابو شحاتة

2021 / 6 / 25
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


حرية الإرادة تظل من الأمور الجدلية في الكثير من أوساط وحلقات النقاش بالرغم أن الرأي العلمي قد حسم أمره بخصوصها منذ عهد ليس بقريب. فحرية الإرادة من وجهة النظر العلمية لا تتعدى كونها مجرد ميتافيزيقيا قديمة تفتقر للعلمية في الطرح وعدم القابلية للتحليل أو الإثبات. وما لاحظته دائماً عند محاولة طرح موضوع حرية الإرادة من جهة علمي النفس والاجتماع، أن البعض يظنها مسألة خلافية في تلك العلوم، وهو ما يخالف الواقع تماماً. فأكاد أجزم أنه لا يوجد عالم نفس أو اجتماع واحد يؤمن بما يسمى حرية الإرادة، ولا يمكن له أصلاً أن يفعل دون أن يقوض دعائم علمي النفس والاجتماع وينفي عنهما صفة العلمية من الأساس. فعلمي النفس والاجتماع ككافة العلوم تفترض وجود قوانين وظواهر ثابتة يمكن دراستها وتحليلها مما يمكننا من فهم واقع الظاهرة واستشراف مستقبلها. والظاهرة موضوع الدراسة في علمي الاجتماع والنفس هي الفعل والسلوك الإنساني. فعلم النفس يعالج السلوك الإنساني من جانب التأثيرات الذاتية بينما يتناوله علم الاجتماع من جهة التأثيرات المجتمعية للوحدات النسقية الصغيرة والكبيرة داخل المجتمع.
وطالما أن السلوك الإنساني هو موضوع علمي النفس والاجتماع، فلكي تنطبق عليهما صفة العلمية وجب أن يكون السلوك الإنساني ذو مظاهر ثابتة خاضعة لنواميس وقوانين ومحددات مادية يمكننا معالجتها معالجة علمية ويمكننا كذلك التنبؤ بها والتأثير فيها، ومجالي التحليل النفسي الإكلينيكي والخدمة الاجتماعية يقومان على حقيقة كون السلوك الإنساني يمكن تبديله باتباع مناهج علمية ثابتة ومحددة. فالسلوك الإنساني عند علماء الاجتماع و النفس ليس إلا ظاهرة مادية ككافة ظواهر الكون. ولا يعني الادعاء بوجود حرية الإرادة إلا نفي تام لصفة العلمية عن علمي النفس والاجتماع بنفي الثبات والتحديد عن موضوعهما الذي هو السلوك الإنساني؛ فلو كان السلوك الإنساني نابعاً من إرادة ذاتية غير مادية ولا يخضع لنواميس وقوانين حاكمة لما أمكننا دراسته أو معالجته أو التنبؤ به والتحكم فيه، وبالتالي فلا يصبح لعلوم النفس والاجتماع أي معنى أو أساس تستند إليه. ولذلك فعندما تقول أن هناك عالم نفس أو اجتماع يؤمن بحرية الإرادة فإنك في الواقع وكأنك تقول أن هناك عالم نفس أو اجتماع يؤمن بأن علمي النفس والاجتماع ليست إلا علوم زائفة أو هذيان عجائز. وهو بالطبع إقرار لا يمكن أن يخرج من أحد علماء النفس أو الاجتماع، وليس البحث عن عالم نفس أو اجتماع يؤمن بحرية الإرادة إلا كالبحث عن مسلم لا يؤمن بوجود إله، أو ملحد يؤمن بوجود إله. فلو آمن إنسان بحرية الإرادة لما جاز أن نسميه عالم نفس أو اجتماع، ولو أسميناه عالم نفس أو اجتماع لما جاز أن نقول عنه مؤمن بحرية الإرادة، فالأمران بمثابة متناقضات لا يمكن أن تجتمع. بل ويعد مجرد التلميح لوجود مجال ولو ضيق من الفعل الحر أو التحرر الجزئي موجباً للنقد الشديد من علماء الاجتماع، مثل النقد وجه لكارل مانهايم حينما وضع مفهوم المتحرر اجتماعياً، فعند علماء الاجتماع يكون التحرر من موجهات السلوك شيء لا وجود له، قد يضيق أفق شخص أو يتسع بضيق أو اتساع مؤثرات و موجهات سلوكه الخاص، لكن لا معنى في أي حالة للحديث عن إنسان حر بالمفهوم الميتافيزيقي، وهو أمر تتفق عليه كافة النظريات في علم الاجتماع سواء النظريات المحافظة كالبنائية الوظيفية أو النظريات التقدمية واليسارية كالماركسية.
ومن الأمثلة الساخرة اعتدت أن أضربها في هذا الصدد، هو أني طوال فترة دراستي لعلم الاجتماع لم أصادف باحث أو أخصائي عكف على دراسة سلوك جنوحي أو انحرافي لإحدى الحالات ثم خلُص في تقريره إلى أن سبب جنوح الحالة أو انحرافها هو أنها أرادت تكون كذلك، أو أنها انحرفت بفعل خيارها الحر وإرادتها المستقلة. فأي باحث اجتماعي يؤمن قبل أن يشرع في بحثه بأن كل سلوك إنساني أياً كان نوعه يمكن رده لأسباب مادية سابقة عليه، ويمكن كذلك التنبؤ به حال استطاع الباحث كشف الظروف الاجتماعية للحالة بصورة شبه متكاملة.
*****
ومن الاعتراضات التي عادة ما يقدمها رافضي هذا الطرح هو ادعاء ثنائية الروح والعقل، أو ثنائية المادة واللامادة، فالمعترض هنا قد يقول أنه لا يرفض حقيقة كون السلوك الإنساني يتأثر بالأسباب وخاضع لنواميس تحكمه، ولكن تلك الأسباب والنواميس الإجتماعية تتفاعل مع حرية الإرادة، أي أن السلوك الإنساني ناتج عن الجانبين معاً. والحقيقة أن هذا الطرح توجد بها إشكاليات كثيرة؛ فهو لا يقدم لنا تصور واضح عن كيفية تفاعل ما هو غير مادي مع ما هو مادي، ولا الآلية التي يمكن من خلالها لهذا أن يؤثر بها في تلكم والعكس. فالافتراض يظل غامضاً وغير مفهوم. كما أنه يقلل من القيمة العلمية لعلوم النفس والاجتماع بافتراضه أنها علوم عوراء لا ترى ولا تعالج سوى نصف الظاهرة السلوكية الإنسانية المتعلق بالأسباب المادية بينما لا ترى ولا تستطيع أن تعالج النصف الآخر المتعلق بحرية الإرادة للامادية، وهو ما يعد تشكيكاً في جدوى تلك العلوم وفي صحة ما تصل إليه من نتائج.
ولذلك فإن ثنائية المادي والروحي المتفاعلان هي مثال للتعارض ونقد العلم في صلب مفهومة بادعاء إمكانية تأثر ظواهره بما لا يُدرك، وهو ادعاء يفتقر للمنطقية من حيث ادعاءه التواصل بين متعارضات ذات طبيعة مختلفة دون أن يقدم رؤية واضحة لكيف يمكن لذلك أن يتم، كما أنه يظل ادعاء لا تدعمه الوقائع العلمية السيسيولوجية والسيكولوجية والتي تُظهر لنا بوضوح أنها قادرة على تفسير الجانب الأكبر من الظواهر السلوكية الإنسانية بالاستناد فقط للتحليل المادي العلمي.
****
ومن الأسئلة أيضاً التي تطرح في هذا الصدد أنه لماذا لا يمكننا التحليل والتنبؤ اليقيني في العلوم الانسانية على نحو ما يحدث في العلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء طالما أن السلوك الإنساني مادي هو الآخر وبالتالي كلاهما علوم مادية، لماذا تظل العديد من الظواهر السلوكية الإنسانية النفسية والاجتماعية مستغلقة على الفهم والتحليل !؟
وإجابة هذا السؤال تكمن في أن العقل البشري بالرغم من ماديته التي لا تُنكر، إلا أنه يُعد أعقد تمظهرت المادة في الكون بأكمله. وهو ما يجعل منتوجات هذا العقل من سلوكيات نفسية و اجتماعية من أعقد ما يمكن أن يتناوله العلم. فيقينية الفيزياء والعلوم الطبيعية راجعة لبساطة الصور المادية التي تتخذها تلك العلوم موضوعاً لها حال مقارنتها بما ينتجه العقل الفردي والجمعي من تعقيد شديد وتشعب كبير للغاية مما يجعل تتبع ظواهره وعلاقاته والإحاطة بها بشكل كامل أمراً في غاية الصعوبة
****
ولكن قد يتساءل البعض عن السبب الذي جعل الإرادة الحرة من المسلمات بالنسبة للبشر طوال عقود طويلة وحتى وقتنا هذا؟ إن هذا السؤال تكمن إجابته في أن الإنسان يميل للإيمان بما يختبره بإحساسه المباشر دون تمحيص، فقد آمن الإنسان قديماً بأن الأرض ثابتة ومسطحة وهي مركز الكون لكون أحاسيسه المباشرة تخبره بذلك، وهو لا يميل بالطبع بحكم طبيعته لتمحيص تلك الأحاسيس أو التشكيك فيها، وكذلك الأمر بالنسبة الإرادة الحرة، فيكفيه أن يشعر بأنه حراً حتى يصرخ قائلاً أنا حر، متناسياً أن المجنون يشعر بأنه أعقل العقلاء والمضطرب عقلياً يرى نفسه في غاية المنطقية.
السبب الثاني هو في نظري راجع لرغبته في تبرير الحقد والكراهية الغريزية لديه، ففكرة حرية الإرادة تعطيه المسوغ والتبرير لإشباع رغباته الانتقامية التي سيجد صعوبة حتماً في تبريرها حال هو أنكرها. ولهذا تجد أن أول سؤال يتبادر إلى ذهنه هو "لو لم توجد إرادة حرة فكيف سنعاقب المجرمين !؟" والواقع أن فكرة العقاب لم يعد لها صدى في علم الاجتماع الحديث، والذي أصبح ينظر للمجرم كمريض وللسجون كمؤسسات للعزل والعلاج وليست مؤسسات للعقاب والتنكيل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أنس الشايب يكشف عن أفضل صانع محتوى في الوطن العربي.. وهدية ب


.. أساتذة ينتظرون اعتقالهم.. الشرطة الأميركية تقتحم جامعة كاليف




.. سقوط 28 قتيلاً في قطاع غزة خلال 24 ساعة | #رادار


.. -لن أغير سياستي-.. بايدن يعلق على احتجاجات طلاب الجامعات | #




.. هل يمكن إبرام اتفاق أمني سعودي أميركي بعيدا عن مسار التطبيع