الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة الغزو الثقافي اليهودي لشعوب الشرق الأوسط بتزوير الكتاب المقدس (1)

محمد مبروك أبو زيد
كاتب وباحث

(Mohamed Mabrouk Abozaid)

2021 / 7 / 1
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


حتى القرن الثالث قبل الميلاد في عهد بطليموس الثاني فيلادلفوس، كانت الديانة اليهودية محدودة الانتشار، وكان الكتاب المقدس "التوراة" يتحدث عن قصة موسى وفرعون ويذكر أنها حدثت في بلدة مصرايم التي ذكرناها، وإن اختلف نطقها حسب اللسان واللهجة، لكن حدث تغيير تاريخي في نص التوراة جعلها تتغير إلى إيجبت، فأصبح عامة الناس يقرؤون عن قصة موسى وفرعون أنها حدثت في بلاد إيجبت..

ونتساءل بداهة، لماذا ربط اليهود بين وطننا وأرضنا وشعبنا في وادي النيل وبين قصة موسى وفرعون الواردة في التوراة رغم علمهم بأن القصة لم تحدث في أرض وادي النيل إيجبت وإنما حدثت في بلدة مصراييم؟ وتُنطق "مصرايم " أو متسرايم باللسان السرياني الأصلي للتوراة، فهل كانت إمبرطورية القبط في وادي النيل اسمها مصرايم في أي مرحلة سابقة من مراحل التاريخ؟

التوراة تقول أن موسى ويوسف وفرعون كانوا في "مصرايم"! وهي ذات القصة التي أعاد القرآن حكايتها باللهجة العربية، فتغيرت بعض الأسماء والألقاب نسبياً حسب درجة الاختلاف بين اللهجات الآرامية، فالإنجيل والتوراة نزلا باللسان السرياني، والقرآن نزل باللسان العربي ولذلك نطق مصر وليس مصرايم أو متزرايم أو مصرن أو مُصري، ونطق فرعون وليس فرعه، ونطق قارون وليس قورح العبري، ونطق موسى وليس موشيه العبري...إلخ. ورغم علم اليهود أن قرية "مصرايم " هذه التي ورد ذكرها في التوراة تحكي قصة فرعون موسى لم تكن هي " إيجبت" إمبراطورية القبط العظمى في هذا الزمن، لأنه خلال عصر نزول التوراة كانت بلاد وادي النيل تتحدث اللغة الرانكيمية وتكتب الكتابة الهيروغليفية، ولم يعرف أجدادنا كلمة "مصرايم" ولم يعرفوا أي خبر عن مصرايم ابن نوح هذا، فهل لجأ اليهود إلى تلفيق القصة للبلد البريء من باب التقديس كعادتهم بأن البلد ورد ذكرها في الكتاب المقدس؟ هل كان ذلك مجاملة لشعب وادي النيل، بحيث يصبح يوسف الصديق عاش في منف وأنقذ بلادنا من مجاعة محققة ! وأن موسى تربى على شواطئ وادي النيل وبارك مياهه بنفحات جسده المقدس؟! هل جاء اليهود بهذه القصص التي وقعت في قرية مصرايم وجعلوها تقع في إمبراطورية إيجبت مجاملة لأهل إيجبت ؟! أم لتكتمل القصة ويكون المقصود هو فرعون الظالم ؟!

ونعود مع التاريخ قليلاً لنستوضح السبب في بدء عمليات تغيير التوراة المتتالية، فعندما وقع بني إسرائيل في الأسر البابلي قرابة القرن الخامس قبل الميلاد، طًُمست لهجتهم الأصلية ولم يعد أحد يتحدث بها وتفتت الشعب الإسرائيلي وصارت كل فئة منهم تتحدث لهجة مختلفة إما بابلية، وإما عربية وإما فارسية، وإما آرامية، أو سريانية وغير ذلك، ولم يعد هناك شعب يسمى شعب إسرائيل، أصبح هناك يهود فقط ولغة التوراة بالنسبة لهم كانت بمثابة لغة أجنبية أو ماتت مع التاريخ ولم يعد أحد قادر على قراءة التوراة باللغة السريانية التي هي أصل العبرية، وكانت التوراة مكتوبة بالخط الأصلي العبري البدائي أي بدون حركات صوتية (الضمة والفتحة والكسرة.. إلخ)، ثم بعدما تحرروا من الأسر البابلي وعادوا يلملموا شتاتهم بدؤوا في إعادة استنطاق المدونات التوراتية من جديد، وكانت الأجيال قد تغيرت ولم يعد أحد عنده علم بمضمون التوراة ومعنى الكلمات وكيفية نطقها صوتياً، فكانت المسألة معضلة حاولوا فيها كثيراً جداً كما فعل شامبليون في حل رموز اللغة الهيروغليفية، فلم يكن شامبليون يعرف كيفية تصويت الكلمة حتى وإن فهم مدلولها الرمزي، لكن القس يوحنا الشفتشي علّمه اللغة الجبتية، وعلمه كيفية تصويت الكلمات لأن الجبتيين حافظوا على اللغة الفرعونية القديمة أو بمسمى القبطية في الأديرة والكنائس، وهذا ما مثّل مفتاح الشفرة الذي استعان به شامبليون في فهم مدلولات اللغة والكتابة الهيروغليفية..

أما هؤلاء الذين حاولوا فك الشفرة التوراتية العبرية وهم فريق من اليهود أحفاد الشتات من بني إسرائيل ويهود من جنسيات أخرى غير عربية، هؤلاء أُطلق عليهم "المسوّرين" وعند محاولتهم استنطاق اللغة مرة أخرى وإخراجها من القبور وإحيائها من جديد، حدثت أزمة في بناء الكتل الصوتية للكلمات، خاصة أسماء القرى والمدن والأماكن لأن أغلب هذه الكلمات عبارة عن كتلة اصطلاحية صلبة ولا يشترط أن تكون مشتقة من أفعال أو تصريفات أخرى، فوقعت كثير من الأخطاء في القراءة، غير أن أسماء الأماكن والمدن والقرى كانت قد تغيرت بعد مرور الوقت نتيجة هيمنة اللغة العربية خلال مرحلة الدولة العربية، وهو ما جعل من الصعب معرفة الموقع الجغرافي للأماكن والأسماء الواردة في التوراة نتيجة عدم القدرة على نطقها على الوجه الصحيح، وعدم القدرة على البحث عنها في الجغرافيا الحالية نتيجة تغيرها إلى اللسان العربي.

فاليهود لم يكن أحد منهم يتحدث اللغة العبرية، وبالتالي عند محاولة استنطاقها بعدما ماتت كانت هناك مشاكل عديدة لكنهم تجاوزوا وحاولوا الوصول لأقرب تشكيل صوتي للكلمة، فواجهوا مشكلة أخرى عويصة، وهي أن أسماء الأماكن والقرى والجبال غير موجودة في الواقع وتحول كثير منها إلى العربية، ولا يعرفوا مكانها، وما إذا كانت في الهند أو الصين أو أمريكا أو جزيرة العرب... (في الواقع هم كانوا يعرفوا مكانها جيداً لكنهم تجاهلوا)، وكان هناك فريق منهم يعلم الأسماء والموقع الحقيقية لموطن بني إسرائيل قبل السبي البابلي، لكنهم لعنوا هذه المنطقة منشأهم وموطنهم الأصلي وقرروا هجرها واحتلال منطقة أخرى بالادعاء أنها وطنهم القومي.

ومثال على ذلك؛ التوراة تقول أن قصة موسى وفرعون حدثت في بلدة اسمها "مصرايم" وهذا الاسم لم يكن معروفاً في العالم في عهد بطليموس، وقد طواه النسيان، فاستغل اليهود هذه الفكرة جيداً، وبالتالي لم يحددوا مكانها وقرروا إسقاط الخريطة على أماكن وأسماء قرى وبلدان أخرى بديلة تكون وطناً قومياً لهم في المستقبل. ذلك لأنهم رأوا وجه تقارب بين الكلمات الواردة في التوراة وأسماء بعض القرى والأماكن في منطقة الشام وفلسطين، فانتهزوها فرصة لتكملة الخريطة في التوراة. ولم يقتصر الأمر على منطقة الشام وحدها، لكنهم مددوا أطراف الخريطة التوراتية، فأسقطوا مسميات على مدن وقرى كائنة في العراق، ومدن وقرى قائمة في جزيرة العرب في مكة، ومدن وقرى أخرى كائنة في إيجبت على وادي النيل، لكنهم بحثوا في التاريخ ولم يجدوا أي أثر لكلمة " مصرايم" على ضفاف وادي النيل فكانت هذه أزمة معضلة بالنسبة لهم، ففكروا فوراً في طمس كلمة مصرايم من التوراة واستبدالها باسم " إيجبت "..

وهكذا تم ترسيم خريطة جديدة في أماكن جديدة لكن ليست بنفس المساحة، بل تمددت الخريطة التوراتية، فبعدما كانت خريطة الأحداث بكاملها محصورة في إقليم لا تتجاوز مساحته مقاطعة حجازية تمتد من الطائف جنوب مكة إلى اليمن، أصبحت الخريطة بحجم قارة بأكملها ! وذلك بالاعتماد على سفه وسذاجة عقول الناس بالمنطقة، حيث استغل اليهود كون التوراة تحكي أحداث وقصص حياة أنبياء فغرسوا خيالات كثيرة وروايات باعتبارها خاصة بالأنبياء وغير قابلة للطعن فيها أو إعمال العقل بالمعايير الموضوعية، فتمكنوا بذلك من غرس قصص وحكايات وذكريات لأنبياء بني إسرائيل وشعبهم في مناطق شاسعة، وتقبلت شعوب المنطقة هذه الذكريات والقصص بالترحاب كونها قصص أنبياء الله...! فجعلوا منها خوازيق في عقول الناس ! خاصة إذا كانت سيرة أنبياء الله تجد ترحيباً واحتفاءً خاصاُ ، فمن السهل جعلها خوازيق لهم لاحتلال أوطانهم ..

... كان بطليموس الأول لديه طموحات عظيمة، وتحرك بحملة عسكرية لوأد حركات التمرد اليهودية التي استوطنت حديثاً في جنوب سوريا، وعثر هناك على حفنة من اليهود على ما يبدو أنه وجدهم مصدر الشغب في المنطقة، فجاء بهم سبايا إلى الإسكندرية عاصمته، وكان عددهم يقدر بمائة وعشرين ألف يهودي وفقاً لتقديرات المؤرخين، وفي تقديرات أخرى كان عددهم أربعين ألف فقط ، واستمروا في العبودية فترة بالإسكندرية ثم زهد فيهم بطليموس فأعاد بعضهم إلى فلسطين ورفض بعضهم العودة واستقروا في العاصمة البطلمية الإسكندرية، وهنا تجمع السندريون، وهو مجلس يضم أكبر سبعين كاهن يهودي، وهذا المجلس قرر ترجمة أسفار التوراة والديانة اليهودية في الإسكندرية، لكن ذلك لن يكون سوى بنقل نصوصها إلى اللغة التي يستخدمها الناس في إيجبت والكافة ربوع الإمبرطورية اليونانية البطلمية، فقرروا ترجمة التوراة إلى اليونانية وأقنعوا بطليموس بهذا المشروع.

وعندما بدأ مشروع ترجمة التوراة من السريانية النسخة الأصلية (على الوضع الذي أعده المسوّرين) إلى اللغة اليونانية التي كانت منتشرة في منطقة شاسعة من المناطق الخاضعة للإمبراطورية الإغريقية، واجتمع الكهنة اليهود السبعون في الإسكندرية عند محاولتهم ترجمة التوراة إلى اليونانية، ووقعوا في ذات المشكلة، فأرادوا التكملة على مذهب المسوّرين، فلم يجدوا الأسماء والأماكن الواردة في التوراة على أرض الواقع في بلاد وادي النيل بطوله وعرضه، ولم تنجح محاولات التقريب والتخمين، فإن كان المسورين قد قاموا باستبدال الكلمات الواردة في التوراة بكلمات موجودة في الواقع على الأراضي الفلسطينية والجبتية في عهد بطليموس واعتبروا أن هذا هو اسم جديد وحديث لهذه المنطقة أو غيرها، فقاموا بكتابة الاسم القديم (التوراتي) والجديد(الواقعي) في كثير من الأحيان، فمدينة بيت لحم وردت في النص التوراتي هكذا " ثم ماتت راحيل - زوجة يعقوب - ودُفنت في الطريق المؤدية إلى أفراتة ؛ أي بيت لحم" تكوين 35:19 في حين أن مدينة بيت لحم الفلسطينية لم تكن موجودة في عصر يعقوب، فهي مدينة حديثة، بينما أفراتة هذه تقع جنوب غرب الجزيرة العربية وهم لا يعلمون أو لا يريدون أن يعلموا.. أو يريدون إخفاءها... وكذلك كلمة تهامة" تحولت إلى "تهوم" التي وردت في التوراة لأكثر من ‏ثلاثين مرة‎، ما يجعل ذلك قرينة واضحة الدلالة على أن الكثير من فصول التوراة وأحداثها قد وقعت في النطاق الجغرافي لجبال تهامة وقريب منه، لكن تحويل المسورين تهامة إلى تهوم مكنهم من تغيير الموقع الجغرافي بسهولة نسبية.. وهذه الظاهرة يمكن لقارئ التوراة أن يلحظها بوضوح، فلا يوجد كتاب مقدس يذكر اسمين لكل مدينة أو قرية باعتبار أحدهما اسم قديم والآخر جديد ظهر بعد نزول النص المقدس! ما يعني بجلاء أن هذه الأسفار التوراتية تم تطعيمها بمعلومات جديدة لا يستبعد أن تكون لأهداف استراتيجية صهيونية.

وعلى ذات المنوال استمرت عمليات الترجمة بتحويل أسماء واستبدال أخرى، ومثال على ذلك مدينة حبرون، فتقول التوراة (تك2:23): ثم ماتت سارة في قرية أربع؛ أي حبرون في أرض كنعان " وهنا ذكر الناسخ الاسمين معاً القديم والجديد برغم أن القديم غير معروف، فعلى أي أساس وضع الجديد؟.. وإذا كان الناسخ بخبرته يعرف الموقع القديم فلماذا لم يحدده ؟! وإذا كان الموقع القديم هو ذاته الموقع الجديد، فلماذا لم يرد أي خبر عن عملية تغير وتبدل الأسماء هذه في أي مراجع تاريخية؟! ولماذا حدثت عملية التغير الجيوجغرافي الفجة والمفاجئة هذه وفي هذه المنطقة تحديداً دون كافة بلاد العالم ؟! وهو ذات الوضع إذ ذكر سفر التكوين تحولت كلمة صوعن إلى مدينة رعمسيس في عصر يوسف برغم أن هذه المدينة بناها الملك رمسيس الثاني بعد عصر يوسف وموسى بمئات السنين. تقول التوراة" فأسكن يوسف أباه وإخوته وأعطاهم ملكاً في أرض مصر في أفضل الأرض في أرض رعمسيس كما أمر فرعون " (تك11:47)

وتذكر موسوعة وصف مصر على لسان الباحثين والعلماء الفرنسيين الذين أعدوها حيث سجلوا شهادتهم بشأن ما حدث للتوراة خلال عليات الترجمة، تذكر الموسوعة بالحرف:" إن من الأفضل لنا - بالأحرى - أن نعتقد بأن هؤلاء المترجمين المتبحرين لم يسيئوا هنا ترجمة كلمة من كلمات لغتهم، ولكنهم أضافوا -فيما يرجح -شيئاً ما إلى النص العبري لكي يجعلوا الترجمة أكثر وضوحاً وليرسخوا معنى بعينه، والأمر الذي حدث منهم في أماكن عديدة (من ترجمتهم هذه) فلنقارن إذن النص العبري للآية التي نحن بصددها بالترجمة اليونانية، سنجد أن " السبعين" لم يشاءوا مطلقاً أن يترجموا هذا النص ترجمة حرفية، وإنما شاءوا أن يفسروه... ويدل على ذلك كلمتي هيروبوليس ورعمسيس اللتين لا توجدان مطلقاً في النص العبري، ولا يمكن أن يعود هذا الاختلاف وغيره كثير إلى خطأ يمكن أن نلصقه بالسبعين، وزيادة على ذلك فليكن هؤلاء قد تصرفوا تبعاً لدافع قد نفترضه فيهم".

يقول الأستاذ عاطف عزت حول هذه الفقرة، " هذا هو نص ما جاء بالموسوعة ولم أتصرف إلا في الخطوط التي وضعتها تحت بعض الكلمات لأشدد على المعنى محاولاً معرفة الدافع..." والحقيقة وراء هذا الدافع لم تكن سوى الرغبة اليهودية الصهيونية الحالية في بناء إمبراطورية إسرائيلية تمتد أطرافها من النيل إلى الفرات، تلك الحركة الصهيونية التي ظهرت إلى الوجود في القرن الخامس عشر لكن أفكارها قديمة قدم الزمان بدأت حياكتها قبل القرن الثالث قبل الميلاد، وهذا الدافع لم يكن برغبة الحاخامات السبعين وحدهم، وإنما بمساعدة بطليموس الأول الذي أراد أن يجعل من بلده "إيجبت" إمبراطورية عالمية بذكر اسمها في الكتاب المقدس، وهو الكتاب السماوي الوحيد في العالم آنذاك، فقام بإسقاط خريطة التوراة على خريطة وادي النيل وحمّلها بعض الأسماء لتبدوا مقنعة لعوام الناس في عصره، خاصة وأن بطليموس حينما استقل بحكم بلادنا أرض وادي النيل، حاول أن يجعل منها إمبراطورية مستقلة وذات ثقل عالمي، حتى أنه أمر القديس الجبتي مانيتون السمنودي بالسياحة في طول البلاد وعرضها لجمع وتوثيق تاريخ هذا البلد العريق، فعلى ما يبدو أن بطليموس كان معجباً بهذا البلد ومؤمن بمقدراته، فقد أنشأ المكتبة الملكية بالإسكندرية، وأنشأ منارة الإسكندرية في ذات الوقت وقد صارت إحدى عجائب الدنيا السبع، وأمر مانيتون بتدوين تاريخ هذا الشعب وعمل مسح جغرافي شامل لأسماء القرى والأقاليم، وتنقل مانيتون بين المعابد والمكتبات في أقاليم إيجبت والدلتا والصعيد وجمع لنا أول مصدر للتاريخ، وهو من قسّم تاريخ أجدادنا إلى واحد وثلاثين أسرة، وقسم هذا الزمن إلى ثلاث حقب تاريخية متتابعة سماهم الدولة القديمة والدولة الحديثة والدولة الوسطى...

كان بطليموس يريد أن يجعل من هذا البلد مركزاً إشعاعياً للعالم كله من حيث العلم والحضارة والاقتصاد والتجارة البحرية، وربما سعى إلى ذلك بتقديسها كأرض مذكور اسمها في الكتاب المقدس، لكن استغل اليهود هذه الرؤية السياسية ليس في بناء إمبراطورية بطلمية في إيجبت، وإنما في بناء إمبراطورية إسرائيلية من النيل إلى الفرات ! فقد لاحظوا أن البطالمة أسسوا إمبرطورية إغريقية تمتد حدودها أبعد من النيل والفرات، وهؤلاء البطالمة كانوا عدداً محدوداً لكنهم نجحوا في بسط نفوذهم على هذه المنطقة بفعل القوة العسكرية، فتساءل اليهود لماذا لا ننجح نحن في تأسيس إمبراطورية إسرائيلية على ذات النطاق الجغرافي لهؤلاء البطالمة ؟! هل تنقصنا القوة العسكرية ؟ نعم.. فلماذا لا نستعيض عنها بالقوة الذهنية؟!

كان بطليموس يحلم بإمبراطورية تمتد من النيل إلى الفرات بينما اليهود يحلمون بإمبراطورية تمتد على ذات النطاق الجغرافي! فقد مددوا أطراف الخريطة في كل الاتجاهات بذات المقاييس، ليس في إيجبت وحدها، وليس في الشام وحدها، إنما في بلاد العراق أيضاً، فغرسوا كلمات مثل نهارين ورفديم وغيرها لتبدوا الخريطة محكمة الصنعة، وليس ذلك فقط، بل غرسوا بعض الأفكار التي تبتعد كلياً عن موضوع الجغرافيا والسياسة، وهذا ما يؤكد نية العبث بالتوراة لترسيخ أفكار بعينها، وفي الحقيقة لم يكن ذلك عبثاً من وجهة نظرهم لأنهم يعلمون جيداً أن التوراة الأصلية قد فقدت تماماً وبدأت عمليات تأريخ ولملمة لشتات نصوص مشوهة بعد مرحلة السبي البابلي..

يقول عاطف عبد الغني: " كلمات هذه التوراة الموسوية كانت أقل بكثير مما وصل إلينا الآن.. موسى طلب من الشعب في وصيته الأخيرة أنهم حين يعبرون نهر الأردن يشيّدون حجارة كبيرة ويُكلّوسنها بالشيد ويكتبون عليها جميع كلمات الناموس نقشًا جيدًا (تث27: 1-8) كما أن تابوت العهد لم يكن يحوي في الأساس أكثر من لوحي الحجر الذي نقشت عليهما الوصايا العشر.. أما عزرا صاحب التوراة العبرانية في صورتها الأخيرة فهو رجل صاحب أيديولوجية سياسية دينية كان كل هدفها أن تجمع شتات بني إسرائيل من المنفى.. تجمعهم نفسيًا قبل أن تجمعهم عدديًا.. كان عزرا يجمع الأسفار والمدونات التي يشتبه في قدسيتها وتتفق مع فكره وتقبل هوى الجماعة اليهودية فينقح فيها ويحذف ويضيف بمقدار، ولم يلق معارضة حيث كان أكثر الشعب المنفي قد ابتعد عن ديانته وأكثرهم لم يعد يتحدث العبرية بينما عزرا كان قد أُشتهر بينهم بأنه كاتب ماهر في شريعة موسى. وعلى الأسس السابقة نستطيع أن نفسر ذلك الخليط غير المتناغم في لغة الأسفار وفي محتواها".

ويقول الدكتور أحمد حجازي السقا : " إن توراة موسى كانت صغيرة جدًا بحيث تُكتب على اثني عشر حجرًا بخط واضح (ولو نظرنا لحجم التوراة الآن) لأدركنا الزيادة الكثيرة التي أضافها الكاتب من بعد موسى. ففي سفر التثنية ( وأوصى موسى شيوخ إسرائيل والشعب قائلًا: أحفظوا جميع الوصايا التي أنا أوصيكم بها اليوم. فيوم تعبرون الأردن إلى الأرض التي يعطيك الرب إلهك تقيم لنفسك حجارة كبيرة وتُشيّدها بالشيد. وتكتب عليها جمع كلمات هذا الناموس.. وتكتب على الحجارة جميع كلمات هذا الناموس نقشًا جيدًا"(تث27: 1-8) وفي موضع آخر".. وكتب هناك على الحجارة نسخة توراة موسى التي كتبها أمام بني إسرائيل" (يش8: 30-32).

ويقول بعض النُقَّاد لو أن التوراة بالكامل نُقشت على ألواح حجرية لجاءت هذه الألواح في حجم الهرم الأكبر، فكيف حملها موسى وشعبه في البرية طيلة هذه السنين؟!، وأورد الدكتور مصطفى محمود بعض المقاطع من سفر الجامعة وأيوب والأمثال وقال " هذه هي التوراة.. كلمات تلمع وحيدة كفصوص الماس، وسط دشت كثيف من صفحات كبيرة من القصص والتاريخ.. هذه الكلمات التي تتألق كالماس، وهذه اللمحات الخاطفة من الحكمة يجدها قارئ التوراة غارقة في خضم من التشويش.. وبعد عدة مئات من الصفحات يُصاب بالدوار ويتساءل.. أهذا الكتاب بصورته الحالية هو ما أنزله الله منذ ثلاثة آلاف سنة على موسى".

فالواقع أن النص التوراتي الذي تركه موسى (ع) فُقد تماماً إبان مرحلة السبي البابلي، وأما هذه الأسفار الموجودة قد تم تدوينها فيما بعد بالاعتماد على الثقافة الشفوية المتبقية في أذهان الشعب اليهودي، وبالتالي تم عصر هذه البقايا مختلطة بأفكارهم وأمنياتهم وآمالهم في التعويض عما عانوه خلال مرحلة السبي، ولم يتذكروا أن مرحلة السبي هذه كانت بسبب الصعلقة التي كانوا يمارسونها في المنطقة، ما دفع نبوخذ نصر إلى اعتقالهم دون باقي سكان المنطقة، لكنهم استمروا في تمديد أحلامهم وتوسيع الرقعة التوراتية في البلاد المحيطة، وقدسوا ذلك في مدونات التوراة خلال المرحلة الأولى لجمعها... أما بعد مرحلة السبي السكندري، بعدما شن بطليموس حملة تأديب عليهم وجمعهم من جنوب سوريا وأخذهم سبايا إلى الإسكندرية، وبعدما زهد فيهم وقرر تركهم لم يعد أغلبهم إلى الشام وإنما استقروا في الإسكندرية وبدؤوا حملة توطين أفكارهم وأمنياتهم في التوراة من جديد فيما عُرف بالترجمة السبعونية للتوراة من السريانية إلى اليونانية .

فيقول الكاتب اليهودي النكرة (جيمس هنري برستد – كتاب " فجر الضمير " ترجمة د.سليم حسن صفحة 373)، يقول: " حقاً إن التوسع الذي أُدخل على تلك التعاليم كثمرة من ثمرات الفكر والحياة العبرانية، يعد ذا قيمة عظيمة للإنسانية لا تقاس بأي مقياس كان، غير أننا عندما نعترف بهذه الحقيقة يجب ألا يفوتنا أن تلك المشاعر الخلقية التي تسود المجتمع المتمدين الآن ترجع أصلها إلى عصر أقدم بكثير من عصر النبوات المعترف به من زمن بعيد، وأنها قد انحدرت إلينا نحن أهل هذا العصر الحاضر من عهد لم تكن فيه الكتابات العبرانية قد وجدت بعد. وعلى ذلك تكون مصادر تراثنا من التقاليد الخلقية بعيدة كل البعد عن انحصارها في فلسطين وحدها، وأنه يجب اعتبارها مشتملة كذلك على الحضارة الجبتية "... هكذا يرى سيادته صراحة وبجاحة أن احتلال فلسطين ليس كافياً، وأن عليهم اعتبار حضارتهم مشتملة كذلك على الحضارة الجبتية !

ثم يقول:" على أن السبيل الذي وصل منه هذا التراث المجيد إلى العالم الغربي هو على وجه خاص ما بقي لنا من الأدب العبراني وحفظه لنا " كتاب العهد القديم ". فإن زوال مدنيات الشرق القديم التي بنيت على أساسها المدنية العبرانية، وما نتج عن ذلك من حرمان العالم الغربي من فهم كل كتابة وكل لغة لتلك المدنيات البائدة حتى ظلت في عالم صمت مدة ألفي سنة. وقد ترك الأدب العبراني يضيء لنا وحده كأنه شعلة وحيدة النور تحيط بها الظلمة الدامسة من جميع جهاتها، وعلى ذلك يكون ما ورد إلينا حديثاً بالوسائل العلمية من بعض المعلومات عن المدنيات الشرقية المفقودة هو بمثابة قبس يضيء تلك الظلمة ويحيط بني إسرائيل بنور يرجع إلى ما قبل عهدهم ببضعة آلاف من السنين...."

هكذا يتخيل هذا اليهودي النكرة أن له تاريخ يمتد إلى ما قبل عصر النبوات، فهو يتجاهل أصله ولا يذكر أن العبرانيين الإسرائيليين هم أبناء إسحاق ابن إبراهيم أبو الأنبياء، أي لم يكن هناك أي وجود عبراني قبل إبراهيم وابنه إسحاق، ثم أنهم عاشوا عبيداً يخدمون في حظائر فرعون مقابل ملء بطونهم مجاناً، وبعدما خرجوا ظلوا فترة طويلة في التيه والتشرد في الصحارى والجبال حتى بداية الألف الأول قبل الميلاد.. فعن أي تاريخ يتحدث هذا الكاهن؟ وعن أي أدب هذا الذي يقول أنه كان موجوداً قبل عصر النبوات؟ وما هي حضارات الشرق التي قام على أساسها الأدب العبراني هذا، وما هي ملامح المدنية العبرانية التي يتحدث عنها ؟! وأين هي أخلاقيات الأدب العبراني التي انتشرت في العالم الغربي اليوم ؟! ... فهو يحاول أن يصنع من الوهم حضارة ثقافية على مسار موازي للحضارة الجبتية، فهل تقترن عشيرة من المطاريد بحضارة ثلاثين ألف عام قادها شعب تجاوز تعداده السبعة ملايين ؟!.. لكن هكذا العقلية اليهودية تقوم على التمدد في الجغرافيا وفي التاريخ، فلو كان لدينا كاهن يهودي مولود عام 1950م، سيقول عن نفسه أنه تراث مولود قبل ميلاد المسيح وأن له تاريخ من الإنجازات لم تدركه البشرية ! .. ولو كان يمتلك حديقة في منزله بمساحة 100 متر مربع، سنجدها تتمدد في مذكراته كل يوم بمعدل 100 متر أخرى، وبعد ذلك تتمدد عملياً !، ولو كان يملك مكتبة بها تسعة كتب سيقول أنها مكتبة تراثية عريقة وبها تسعمائة ألف كتاب... فهم لا يكتفون باحتلال أرض فلسطين وإنما يسعون جيل وراء الآخر لاحتلال أرض وادي النيل والعراق، ليس ذلك فقط بل واحتلال الحضارات والقوميات بادعاء ملكيتهم لحضارة وثقافة تاريخية قبل عصر التدوين !

فقد حاول الكاتب بخبث أن يتحدث في طول متن الكتاب عن القيم والأخلاق المدنية ودعائم الحضارة الجبتية القديمة، ثم جاء في الفصل الأخير من كتابه ليضع العصارة ! ليقرن كل هذا الرقي الحضاري بروث حفنة من المطاريد العبرانيين، معتبراً إياهم شركاء في الإرث الحضاري العظيم ! وأن تراثهم أسبق من وجودهم ! والأغرب من ذلك أن يقوم العلامة الآثاري العظيم سليم حسن بترجمة الكتاب والسير على نفس المنوال للكاتب دون أن يدرك الغاية من وراء تأليف هذا الكتاب، فيقول في مقدمة المترجم أنه لا شك أن العبرانيين كانوا حلقة الوصل بين الحضارة الجبتية القديمة والحضارة الأوروبية الحديثة، باعتبار أن تراث أجدادنا قد انتقل إلى اليونان والرومان من خلال اليهود في فلسطين !! فهل لا يعلم أن الوجود اليهودي في فلسطين خلال حقبة الحضارة اليونانية الرومانية وحتى القرن الأول ميلادي لم يتجاوز 3% من سكان فلسطين ! وأي عبرانيين هؤلاء الذين يستطيعون نقل تراث الحضارة الجبتية إلى الغرب ! ألم يكونوا هم الأولى به إن كانوا موجودين أو عرفوا عنها شيئاً ؟! بل إن أول معرفة لليهود بالحضارة الجبتية كان في عام 282 عندما جاء بهم بطليموس سبايا إلى الإسكندرية، وخلال عملية ترجمة التوراة السبعونية بعدما اطلعوا على المدونة التاريخية والجغرافية التي أعدها الكاهن الجبتي مانيتون السمنودي بأمر بطليموس. ولهذا نحذر أبناء شعبنا العظيم من هؤلاء الصهاينة وعملائهم المدسوسين لدراسة آثار الحضارة الجبتية القديمة، فما يتجاوز نسبته 90% من عدد الخبراء وعلماء الآثار المنتدبين من الخارج في بعثات علمية للتنقيب عن الآثار والبحث في تاريخنا هم يهود مقنعين أو صهاينة متقنعين بأقنعة علم الجبتيات، بينما هم يأتون في حملات تجسس آثاري وتزوير تاريخي يمولها الموساد عن طريق جامعات وجمعيات وشركات أجنبية. ولو بحثنا في كل بعثة تأتي إلى بلادنا فحتماً سنجد وراءها أموال صهيونية هائلة تم توظيفها لأغراض معلومة، أما قنوات التوظيف، فغالباً ما تكون مخفية بعناية.
.... في المقال القادم سنعرف كيف انتقلت خريطة أسماء القرى الصحراوية والنجوع الجبلية الإسرائيلية من غرب الجزيرة العربية إلى مجموعة إمبراطوريات الشرق الأوسط كله ... ( إيجبت وسوريا وفينيقيا وأكاديا ..إلخ ) لنعرف كيف كان اسم (مصر) اسماً لقرية عربية يمنية ثم أصبح اسماً لدولة إفريقية عظمى في وادي النيل هي (إيجبت ) ويستمر مع إيجبت حتى يومنا هذا .

رابط المصدر:
https://www.neelwafurat.com/itempage.aspx?id=egb248820-5263951&search=books








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -