الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل قُتِل فؤاد سَفر؟

حامد خيري الحيدر

2021 / 7 / 3
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الساعة بحدود التاسعة صباحاً من يوم الأثنين المصادف التاسع من شهر كانون الثاني عام 1978، يوم ماطر مُدلهم بالغيوم كـأحد أيام هذا الشهر المعتادة حيث شتاء العراق في ذروة شدته، سيارة حكومية مخصصة للأعمال الحقلية تابعة للمؤسسة العامة للآثار والتراث (كما كانت تسمى في ذلك الوقت الهيئة العامة للآثار والتراث الحالية)، تغادر مقر المؤسسة في بغداد الكائن بجانب بناية المتحف العراقي في منطقة الصالحية، مُتجهة صوب منطقة التنقيبات الأثرية الجارية في "حوض حمرين"(1) ضمن محافظة ديالى، السيارة تقّل ثلاثة من المنتسبين، الأستاذ "فؤاد سفر" مفتش التنقيبات العام، وكان يجلس في المقعد الأمامي الى جوار السائق كما أعتاد أن يفعل دائماً، ثم الآثارية الراحلة السيدة "مَهاب درويش" وتجلس في الجانب الأيمن من المقعد الخلفي، والى جانبها يساراً كانت تجلس أحدى موظفات قسم الحسابات، إضافة الى السائق.
المطر يزداد غزارة وحالة الطريق تصبح أكثر سوءاً بفعله، ثم عند أحدى تقاطعات الطرق بين بلدتي بعقوبة والمقدادية تنطلق سيارة حِمل كبيرة (لوري) بسرعة شديدة وتصدم الجانب الأيمن من سيارة المؤسسة، الساعة قاربت الثالثة ظهراً، وقت الدوام على وشك الانتهاء، الموظفون يستعدون لمغادرة مقر عملهم، جرس الهاتف يرّن في مكتب رئيس المؤسسة الدكتور "مؤيد سعيد"، ليخرج بعد المكالمة دامع العينين مُعلناً الخبر الأليم الذي نزل كالصاعقة على الجميع.. (البقاء في حياتكم، الأستاذ فؤاد قد لاقى ربه).
هكذا كان السيناريو المُفترض لرحيل عالم الآثار العراقي الكبير الأستاذ "فؤاد سفر"، حسب الرواية المعلنة لموظفي المؤسسة العامة للآثار والتراث آنذاك، وبعد مرور كل تلك السنين وأصبحت القضية بمُجملها مع فقيدها في ذمة التاريخ، فأنه لابد من طرح الكثير التساؤلات التي من شأنها أن تثير الشكوك حول هذا الموضوع، الذي ظل طيلة تلك الفترة كأنه حادث طريق ليس إلا قد حصل قضاءً وقدراً، لكن لو تم أخذه بخلفياته وجميع ملابساته وحيثياته، فأن النظرة حوله ربما ستتبدل والقناعة بقدريته الربانية ستتغير، وستعطي انطباعاً قوياً بأنه حادث مُدبّر قد خطط له مسبقاً وتم تنفذه في ذلك اليوم، خاصة إذا علمنا أن الفقيد كان الضحية الوحيدة في ذلك الحادث المفجع الغريب، حيث نجا بأعجوبة بقية من كان في السيارة، باستثناء السيدة "مهاب درويش" التي فقدت ذراعها اليمنى من جراء الحادث كونها كانت تجلس خلف الفقيد في الجهة اليمنى من السيارة (جهة الاصطدام)، وكما هو معلوم للجميع وخاصة الذين واكبوا تلك الفترة، كيف كانت حوادث الطرق تعتبر من الوسائل الشائعة التي استخدمتها سلطة البعث المقبور آنذاك، لتصفية خصومها السياسيين والعلماء والمفكرين، وكل من كره فترة حكمها البغيض، لتحصد من خلالها آلة الموت الرهيبة التابعة للنظام العشرات من خيرة أبناء شعب العراق.
بداية لابد من التنويه أن ما سيتم التطرق اليه في السطور القادمة ما هو إلا محاولة لكشف حقيقة ذلك الحادث الذي ظل حبيس النسيان طيلة تلك السنين، وأيضاً إدانة لتلك الحقبة السوداء المظلمة التي أبتليَّ بها عراقنا العزيز على مدى سنين طوال امتدت لما يقارب الأربعة عقود من تاريخه، خاصة بعد تلك المحاولات البائسة المفضوحة من قبل بعض الجهات الصفراء المسمومة، التي أخذت تبّث أكاذيبها هذه الأيام للأسف الى مسامع وعقول العراقيين، وكذلك من بعض الانتهازيين والمنتفعين وقصّار البصيرة، لإعادة تجميل وتزويق تلك الفترة الدهماء بأيامها العجاف القاسية، ورسم صورة وردية مغايّرة لما كانت عليه حقيقتها المرّة الكريهة، كما أن الكاتب باستثناء سلطة البعث الحاكمة، لا يوجه بما سيذكره أتهاماً لأشخاص بعينهم، يمكن أن يتصور القارئ من خلال ما سيطلع عليه بأنهم قد تواطئوا في ذلك الحادث أو كان لديهم يد فيه، لكن هناك بلا شك تفاصيل عديدة مريبة قد رافقت ما جرى لابد أن تُثير تساؤلات واستفسارات تستحق أن تطرح للإجابة عليها.
وأيضاً إكراماً ووفاءً للعالم القدير "فؤاد سفر"، الذي قضّى حياته في سبيل خدمة العراق واستظهار تاريخه المجيد، وكان بحق مدرسة معطاء نهَل من علمها الغزير وفكرها النيّر، ولايزال جميع الآثاريين العراقيين يشعرون بفضله عليهم وعلى الآثار العراقية بأكملها. كما يقتضي التنويه أيضاً على أن الكاتب بحكم العمر لم يعاصر تلك الحادثة، إذ كان حينها لا يزال طالباً في المرحلة المتوسطة، وأن كل ما سيتم الخوض فيه والحديث عنه، أستند أساساً الى ما كان قد سمعه بشكل شخصي من زملائه موظفي ومنقبي الآثار الذين زاملهم، خلال عمله منقباً للآثار في الهيئة العامة الآثار والتراث العرقية عند عقد التسعينات من القرن العشرين، من الذين عاشوا تفاصيل تلك الواقعة بما سبقها وما تلاها، وكانوا شهوداً على مجريات أحداثها، لكن معظمهم للأسف قد غادر مسرح الحياة اليوم وغدوا الى جوار ربهم.
وقبل الخوض في حيثيات الموضوع لنعرّج بعُجالة على سيرة حياة العالم الجليل "فؤاد سفر"...
ولد عالم الآثار العراقي "فؤاد سليمان سفر" في مدينة الموصل عام 1913 ، وفيها أكمل دراسته الثانوية، أرسل ببعثة دراسية الى جانب عالم الآثار الراحل "طه باقر" الى الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة علم الآثار والحضارة في المعهد الشرقي التابع لجامعة شيكاغو"، حيث حصل منه على درجتي البكالوريوس والماجستير عام 1938، ليعمل بعد أنهاء دراسته مباشرة في مديرية الآثار العامة في بغداد، إضافة الى التدريس الجامعي في دار المعلمين العالية. عمل على مدى أربعة عقود في مجال التنقيب والتحري والمسح الآثاري، وشكلّ مع زميله عالم الآثار الراحل "محمد علي مصطفى" ثنائياً علمياً رائعاً عمل في معظم مناطق العراق، كان أهمها الأعمال الآثارية التي أجرياها في مدينتي "أريدو" السومرية و"الحضر" الآرامية. له العديد من الكتب والتراجم، كما نشر عدد كبير من البحوث الآثارية في المجلات الأكاديمية العالمية عن نتائج أعماله في العراق. حصل على العديد من شهادات التقدير التي منحتها إياه المؤسسات والمؤتمرات الآثارية العالمية، كما تولى العديد من المناصب الادارية والفنية في المؤسسة الآثارية العراقية، كان آخرها منصب مفتش التنقيبات العام(2)، توقفت حياته ومسيرة عطائه الكبيرة بالصورة المؤلمة التي تم وصفها.
أن أول الشكوك التي ينبغي البدء بها تكمن في الرحلة الآنفة نفسها والتي لم يكن مخططاً لها مُسبقاً، حيث كانت تُجري في الأيام التي سبقتها استعدادات واسعة في المؤسسة العامة للآثار والتراث، لعقد مؤتمر كبير في اليوم العاشر من شهر كانون الثاني، يحضره كبار علماء الآثار في العالم، لبحث النتائج الأولية لعمليات التنقيب في "حوض حمرين" بعد مرور أكثر من عام على بدأها، وكان مقرراً أن يُجرى على هامش المؤتمر تكريم خاص للأستاذ "فؤاد سفر"، بمناسبة أحالته الى التقاعد في نهاية الشهر لبلوغه السن القانونية، وما حدث في يوم المأساة أن رئيس المؤسسة الدكتور "مؤيد سعيد" أبلغ الفقيد مع بداية الدوام الرسمي لذلك اليوم بوجوب السفر شخصياً الى منطقة التنقيبات في "حوض حمرين" لأعداد تقرير مفصل عن الأعمال الأثرية الجارية هناك، كي يلقيه في المؤتمر بحكم منصبه كمفتش للتنقيبات العام، ولم يجدي نفعاً اعتذار الفقيد عن هذه المهمة كون الأجواء ماطرة وجميع التنقيبات الأثرية كما هو معتاد تتوقف بسبب ذلك، إضافة الى أنه لا يوجد مبرر فعلي يستوجب الذهاب الى هناك، إذ أن التقرير المطلوب قد أعده سلفاً قبل عدة أيام وهو جاهز ليوم المؤتمر، لكن الدكتور "مؤيد سعيد" أصّر بشكل غريب على سفره مُعللاً ذلك بأنه أمر من وزير الأعلام آنذاك "طارق عزيز" شخصياً(3) وأنه لا علاقة له بهذا الأمر، فما كان من الأستاذ "فؤاد سفر" إلا أن رضخ للأمر وجرى ما جرى.
أما طبيعة الحادث نفسه فكانت حقاً تثير الريبة، حيث ذكر شهود العيان (أصحاب بعض المحال على جانب الطريق)، أن سيارة الحمل كانت متوقفة عند ذلك التقاطع ثم انطلقت بمنتهى السرعة لتصدم بشدة جانب السيارة الحكومية، التي كانت تسير ببطيء بسبب المطر وسوء حالة الطريق الزلقة عند مرورها في هذا المكان، أي كما لو كانت بانتظارها، وهذا ما أكدّته أيضاً السيدة "مهاب درويش" (رحمها الله) للكاتب لدى سؤاله إياها عن هذه القضية، حيث ذكرت رغم الحزن الذي أنتابها وهي تستعيد تفاصيل تلك الفاجعة التي أبتلعها الزمن.. (لم يكن في الطريق سوى بعض السيارات التي كانت تسير بسرعة قليلة بسبب الجو الماطر، وانهم لم يشعروا إلا وسيارة الحِمل تصدمهم بقوة، تدل على أنها كانت تسير بسرعة كبيرة جداً). وهاتان الشهادتان تختلفان كلياً عما ما ذكره سائق سيارة الحِمل خلال التحقيق معه يومها حيث ذكر.. (أنه كان يقود السيارة ببطيء شديد لكن المطر حجب عنه رؤية الشارع فلم يستطع رؤية السيارة الحكومية التي تفاجأ بوجودها كونها كانت تسير بسرعة كبيرة!!).
والمفارقة المهمة التي يقتضي التنويه عنها قد جرت في اليوم التالي من الحادث، حيث تم الغاء المؤتمر المخطط إقامته وتحوّله الى جلسة تأبين رمزية للفقيد الكبير واستذكار لمنجزاته العلمية، أعقبتها مراسيم تشييع مهيبة له، تليق ومكانة العالم الراحل، أهم ما كان يجلب الانتباه فيها هو غياب رئيس المؤسسة الدكتور "مؤيد سعيد" عنها. من جانبٍ آخر يذكر زملاء الكاتب أنه بعد أجراء القدّاس الخاص بالفقيد في أحدى كنائس بغداد واكمال مراسيم الدفن، عاد الموظفون الى مقر المؤسسة لوضع باقات من الزهور أمام غرفة الأستاذ الفقيد "فؤاد سفر"، لكنهم فوجئوا أن باب الغرفة مفتوح بعد أن كسر قفلها وعُبث بمحتوياتها لتغدوا خالية من جميع الأوراق الخاصة به، من بحوث وملاحظات ومسودات لتقارير عمليات تنقيب ومخططات لمواقع أثرية، وكل ما كان الفقيد قد كتبه ودونه خلال حياته العلمية، والتي كانت بمثابة أرشيف متكامل لأعمال وجهود العالم الراحل على مدى سنين عمله الطويلة، فيا ترى أين اختفت تلك الأوراق؟
بالعودة بضع سنوات الى الوراء أي في منتصف السبعينات من القرن العشرين، فأن الأستاذ "فؤاد سفر" كان قد أجرى تنقيبات أثرية في مدينة "كالحو"/"النمرود" الآشورية، مُتتبعاً ومُكمّلاً للتنقيبات التي كانت قد أجرتها بعثة أثرية بريطانية تتبع "مدرسة الآثار البريطانية في العراق"(4) في هذه المدينة خلال عقد الخمسينات القرن العشرين، وقد حققت تنقيبات العالم الكبير نتائج علمية كبيرة، خاصة تلك التي أجراها في آبار "القصر الشمالي الشرقي"، الذي شيّده الملك الآشوري "آشورناصربال الثاني" 883_859ق.م، حيث تم العثور في باطنها على كميات كبيرة من المنحوتات العاجية الفريدة من نوعها جاوز عددها التسعين قطعة، كانت قد القيت في أحداها من قبل سكان القصر للحفاظ عليها، بعد تعرض المدينة للحصار في آخر أيام الامبراطورية الآشورية. وحسب ما رواه الآثاريون وعمال الحفر الذي شاركوا في عمليات التنقيب تلك، أن الأستاذ "فؤاد سفر" كان خلال العمل قد بدا كأنه يبحث عن شيء ما لم يخبر أحداً به، حيث كان دائم النظر في أوراق ومخططات قديمة، ولم يفاجأ بهذه القطع أطلاقاً، بل كان على العكس يتوقع أكثر من ذلك الاكتشاف، حيث ذكر للعاملين أن هناك ما هو أهم وأثمن بكثير في هذه العاجيات تحديداً في الطبقات الأعمق من هذه الآبار وأيضاً تحت أرضيات غرف ذلك القصر.
لكن للأسف فأن هذه التنقيبات قد أوقفت دون أن تُستكمل، من أجل توجيه الجهد الآثاري العراقي بالكامل في تنقيبات "حوض حمرين"، علماً أن العالم الفقيد كان قد كتب مسودة كتاب كبير كان من المفترض أن يقدمه للطبع يتعلق بتلك التنقيبات، يتضمن وصف وشرح مفصل لنتائجها، ثم ما يتوقع العثور عليه مستقبلاً، وكل ذلك معزز بخرائط تفصيلية ومخططات وصور لنقاط التنقيب، التي في الغالب ستثمر عن نتائج مهمة في المستقبل، إضافة الى ملحق يتضمن صور ووصف للمنحوتات العاجية المكتشفة.
لكن مسودة هذا الكتب للأسف قد اختفت من ضمن الأوراق التي سرقت من غرفته، علماً أن هذا الكتاب قد تم اصداره بالفعل ضمن منشورات المؤسسة العامة للآثار والتراث عام 1987 تحت عنوان "عاجيات نمرود" شارك العالم "فؤاد سفر" التأليف فيه الآثاري الأستاذ "ميّسر سعيد العراقي"، لكنه كان يتضمن فقط الملحق المصور للقطع العاجية دون القسم الأول الهام المتعلق بمجريات عمليات التنقيب ونتائجها، وأن أي مختص لبيب يطلّع على هذا الكتاب سيدرك مباشرة أن العالم القدير "فؤاد سفر" بمكانته العلمية الراقية، محال أن يؤلف أو يشارك في تأليف كتاب متواضع بهذا الشكل، الذي لا يعدوا كونه مجرد "كاتلوك" يتضمن فقط وصف فني لتلك القطع العاجية المكتشفة، كما سيلاحظ بسهولة أنه مُستل من كتاب أكبر أو جزءاً منه.
وبالفعل فقد صدقت توقعات العالم الراحل بشأن الاكتشافات المستقبلية في مدينة "كالحو"/"النمرود" الآشورية، حيث تم اكتشاف تلك الآثار الذهبية الرائعة في المدافن الملكية الأربع تحت أرضيات "القصر الشمالي الشرقي" في هذه المدينة، وذلك خلال التنقيبات الأثرية التي أجريت هناك من قبل المؤسسة الآثارية العراقية وامتدت للفترة 1988_1992، والتي في الغالب كانت مستندة الى دراسات الفقيد وملاحظاته المهمة (التي كانت ضمن أوراقه المسروقة). والغريب أنه بعد العثور على تلك الآثار الذهبية والاعلان الأولي عنها، صدر أمر خاص من رئاسة الجمهورية يقضي بإيقاف جميع عمليات النشر والدراسة عن هذا الاكتشاف الهام وكل ما يتعلق بتفاصيل العثور عليه. فيا ترى هل كان هناك رابط في هذا الموضوع، بين ما كان يتوقعه عالمنا الراحل من اكتشافات هامة، وبين أرشيفه المنهوب، ثم التوصل فعلاً لتلك النتائج الكبيرة خلال التنقيبات التي أجريت هناك بعد ما يقارب العقد من رحيله؟
من جانب آخر فيما يتعلق بشخصية هذا العالم الكبير، فأنه وبشهادة كل من عاصره، سواءً كان قد عمل معه أو تتلمذ على يديه، فقد كان رغم وداعته وطيبة قلبه المتناهية وتسامحه الشديد مع الجميع، حتى مع أولئك الذين كانوا يسيئون إليه، إلا أنه كان حَدّياً جداً في القضايا العلمية، لا يقبل الانتهازية بشأنها والمساومة عليها قيد أنمُلة، ويعتبرها جزءاً مقدساً من شرفه المهني، وهذا ما جعله في حالة خلاف دائم مع سلطة البعث المقبور مُمثلة بوزارة الأعلام، وما كانت تروجه من أكاذيب تاريخية لتزويق الحقيقة المريضة لحكام البعث. فبعد أن تولى منصبه الأخير مفتشاً عاماً للتنقيبات عام 1973 خلفاً لزميله العالم الراحل الأستاذ "محمد علي مصطفى" الذي كان قد أكره بدوره على التقاعد حينها، أعتقد جلاوزة السلطة الحاكمة واهمين، أنه بديانته المسيحية سيكون من السهل التعامل معه ليغدو أحد أبواقها المريضة، لكنهم وجدوه أقسى وأكثر صلابة من سَلفه.
ليبلغ الخلاف أشده بين العالم الفقيد وبين وزارة الأعلام بسبب موضوع أعادة بناء مدينة "بابل" التاريخية، الذي بدأت فكرته في منتصف السبعينات من القرن العشرين، حيث كان الراحل مُرشّحاً للأشراف على هذا المشروع، لكنه رفض الفكرة أشد الرفض، كونه يرى فيها تدميراً مفضوحاً وجريمة كبرى ستطال هذه المدينة العريقة، وفي هذا الصدد كان قد ذكر عدة مرات للآثاريين في المؤسسة، بأنه سيستغل علاقاته الشخصية مع المؤسسات العلمية العالمية وعلى رأسها منظمة "اليونسكو" للتدخل وايقاف هذه الجريمة، مما دعا الوزارة الى استدعائه والتحقيق معه عدة مرات بشأن ذلك، اعقبها تعرضه الى حملة اعلامية حقيرة للحط من وطنيته وأمانته العلمية، وصلت حد اتهامه بمحاباته للصهيونية وانتمائه الى المنظمات الماسونية، وبالفعل فقد أخرجّت مدينة "بابل" في منتصف الثمانينات من القرن العشرين من لائحة التراث الثقافي العالمي بعد أن نفذت سلطة البعث جريمتها بحق هذه المدينة، استناداً الى التحذيرات السابقة للعالم الفقيد.
وبعد كل ما تقدم ألا يحق لنا أن نثير شكوكنا وريبتنا في حادث رحيل العالم الشهيد الأستاذ "فؤاد سفر"، أم أن الكاتب كان مخطئاً في تصوراته وما ذهبت إليه استنتاجاته، وأن ما حدث في ذلك اليوم الشتوي الماطر لم يكن سوى إحدى الصدف والمفارقات الغريبة التي طالما ترافق حياة الآثاريين، قد تجمّعت بهذا الشكل الدرامي الغريب لتعطي هذا الانطباع؟
واليوم بعد مرور كل تلك السنوات على ذلك الحادث المؤلم، وتوالت بعده الأيام والأحداث الجسّام على العراق التي أدت الى زوال سلطة البعث المقيتة، ثم ليأتي للأسف ويغتصب مقدرات الوطن مرة أخرى من هم أسوأ وأشنع من سابقيهم، مواصلين نفس أسلوب أسلافهم الاجرامي في محاربة وتصفية العلماء والمفكرين والفنانين، من الرافضين لفكرهم المتخلف المريض، حَريّ بنا أن نتساءل، هل ما جرى في تلك السنين العجاف وما يزال يجري في وقتنا الأدهم الحاضر، بمثابة مخطط كبير قديم جديد لتدمير العراق؟ من خلال افراغه من عقوله الفذّة ومكوّناته الأصيلة المتآخية، بين قتل وتهجير وترويع، وتشويه لتاريخه العريق ونهب آثاره العظيمة وتجفيف أنهاره، لتُمحى من الوجود صورته الزاهية الناصعة التي صَمدت آلاف السنين بوجه عاتيات الزمن، ليُجعل منه مجرد كيان مِسخ ليس له ملامح بلد؟ وبالمقابل هل سيتمكن شعب الرافدين من الصمود بوجه هذا الطاغوت الأهوج المسعور الذي يروم فتكاً بوطنه وسلب مقدراته، ويظل متمسكاً بإرثه العريق وهويته المتجذرة في عمق التاريخ؟ أم تراه سيترك بلده يُقتل أمام عينيه ثم يُسجل سبب موته قضاءً وقدراً، لنطرح بعد سنين ذلك السؤال المُحزن الأليم.. (هل قُتل العراق؟).

الهوامش
_____________

1_ حوض حمرين، من الأحواض المائية الكبيرة في العراق، يقع في محافظة "ديالى" بين سلسلتي جبال "حمرين" و"قرة تبة"، أحتوى عشرات المواقع الأثرية، ونتيجة أنشاء سد كبير لتخزين المياه في هذه المنطقة فقد تعرضت تلك المواقع لخطر الغرق والاندثار، لذلك دعت منظمة "اليونسكو" بطلب رسمي من العراق لإقامة مشروع دولي للتنقيب والتحري في تلك المواقع المعرضة للغرق، والتي بلغ عددها أكثر من سبعين. على أثر ذلك قدمت الى العراق عشرات البعثات الآثارية من مختلف دول العالم، أستمرت بالعمل هناك عدة سنوات، توصلت على أثرها الى نتائج آثارية غاية في الأهمية تخص تاريخ وادي الرافدين ومنطقة الشرق الأدنى القديم عموماً.
2_ بعد انتصار ثورة 14 تموز الخالدة عام 1958 عيّن الزعيم الخالد "عبد الكريم قاسم" العالم الفقيد "فؤاد سفر" مديراً عاماً للأثار بعد إحالة مديرها السابق الدكتور "ناجي الأصيل" الى التقاعد، لكن الطائفيون في وزارة الإرشاد (الاعلام) آنذاك وجهوا ضغوطاً وانتقادات كبيرة للزعيم لهذا التعيين، كون الراحل مسيحي الديانة وليس مسلماً، مما أضطره بعد مدة قصيرة ونتيجة لذلك الى إبداله بالعالم الراحل "طه باقر" لتولي هذا المنصب، بحالة مشابهة للضغوط التي واجهها الزعيم "قاسم" عند تعيينه العالم المندائي الدكتور "عبد الجبار عبد الله" رئيساً لجامعة بغداد.
3_ كانت المؤسسة العامة للآثار والتراث خلال عقد السبعينات من القرن العشرين تتبع إدارياً لوزارة الأعلام.
4_ مدرسة الآثار البريطانية في العراق... مؤسسة علمية تعنى بالبحوث التاريخية والآثارية الخاصة بوادي الرافدين ومنطقة الشرق الأدنى القديم، تأسست في لندن عام 1932 تخليداً لذكرى الدبلوماسية البريطانية الشهيرة "كَيرترود بيل" التي كانت الراعية الأولى لآثار وادي الرافدين عند تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1920، أرسلت العديد من البعثات الآثارية للتنقيب في حواضر العراق القديمة، كما عمل ضمنها العديد من مشاهير علماء الآثار، تصدر مجلة علمية سنوية تحت عنوان (IRAQ) تختص بنشر البحوث الاثارية الخاصة بالعراق. تحول أسم هذه المؤسسة عام 2007 الى (المعهد البريطاني لدراسة العراق).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصين تحذّر واشنطن من تزايد وتراكم العوامل السلبية في العلاق


.. شيعة البحرين.. أغلبية في العدد وأقلية في الحقوق؟




.. طلبنا الحوار فأرسلوا لنا الشرطة.. طالب جامعي داعم للقضية الف


.. غزة: تحركات الجامعات الأميركية تحدٍ انتخابي لبايدن وتذكير بح




.. مفاوضات التهدئة.. وفد مصري في تل أبيب وحديث عن مرونة إسرائيل