الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وقفة إستذكار وإعتبار, في وداع فقيد الكلمة, أستاذنا المؤرخ المفكر عماد عبد السلام رؤوف

هيثم الحلي الحسيني

2021 / 7 / 3
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


فقدت الأسرة العلمية العراقية والعربية, أستاذا لامعا, وعلامة جهبذا, وباحثا رصينا, في حقول الدراسات التأريخية والحضارية والإنسانية, إذ نعت الأوساط العلمية والثقافية, إبن الموصل الحدباء, المفكر المؤرخ, والكاتب الباحث, الأستاذ الدكتور عماد عبد السلام رؤوف.
نشط الفقيد في البحث والتأليف والتدريس, إذ نشر المئات من الكتب والبحوث القيمة والمعمقة, في مجالات علمية حيوية, أغنت وأثرت المكتبة العربية, ورفعت مناسيب الثقافة والفكر والمعرفة, عراقيا وعربيا وإنسانيا, خاصة في جوانب التراث العلمي العربي الإسلامي, والتأريخ العراقي والعربي الحديث والمعاصر.
وقد ساهمت دراسات الموسوعية, حول المنجز الثقافي العراقي والعربي الإسلامي, في إثرائه وإغنائه, وفي توثيقه ونشره وإحيائه, تاركا إرثا غنيا وكبيرا من المؤلفات والتصنيفات, باتت تعد مصادر رصينة في موضوعاتها, يعتد بها المشتغلون والناشطون في البحث والدراسة التأريخية والحضارية والإنسانية والمجتمعية.
كان الفقيد قد تخرج في كلية الأداب جامعة بغداد, في تخصص التأريخ, ثم أكمل دراسته العليا في الماجستير, في جامعة القاهرة, في رسالته عن ولاية الموصل في القرن التاسع عشر, والدكتوراة من ذات الجامعة, في أطروحته عن الحياة الإجتماعية في العراق في القرن التاسع عشر أيضا, وذلك في أوائل سبعينات القرن الماضي.
عمل الفقيد استاذاً للتاريخ العربي الإسلامي والحديث والمعاصر في جامعة بغداد, ومحاضرا في الكثير من الجامعات والمعاهد العراقية والعربية, وباحثا ناشطا في الكثير من مراكز البحث والتطوير المتخصصة, ويحسب له أنه كان رئيساً لمركز إحياء التراث العلمي العربي في جامعة بغداد, وهو المركز المضطلع بدراسة الموروث الثقافي والحضاري العربي الإسلامي, وتوثيقه ونشره, ويعد المركز المتفرد عربيا, الى جانب شقيقه في جامعة دمشق.
وقد تميز الفقيد بإشتغاله الثري, في تحقيق الكتب المخطوطة, التي تعد مناجم مختزنة للإرث الثقافي والمعرفي والحضاري, والتي تحتاج لمنهج البحث الحفري, الذي يعرف بالنبش الأثاري المعمق, في بطون الكتب المخطوطة والموروث الموثق, والتي يجهد في حقلها, نخبة النخبة, من الأساتذة المحققين المجتهدين, المتمكنين من أدواتهم العلمية والبحثية, وقد أنجز أستاذنا أكثر من أربعين كتابا محققا, سواء في التراث العلمي, أو في تحقيق الكتب المعاصرة وتقديمها للنشر, بما يتماهى وطرائق ما يعرف بالتقريرات, في التصنيفات الفقهية التراثية.
وقد نشط الفقيد كذلك في بحوثه المميزة في السير الشخصية وتوثيقها, والتي ترجمت لتجارب تستحق الدراسة, لشخصيات في الحقب الإسلامية, ولرجالات الدولة, في عهود تأسيس الدولة العراقية, أو المراحل التي سبقت عصر الدولة, من الفاعلين في صناعة القرار السياسي ورجال الحكم, أو الذين شهدوا وشاركوا, في ثورات التحرر والإستقلال, عراقيا وعربيا, حيث تمثل تجاربهم وشهاداتهم, وثائق ومرجعيات ثرية, في دراسة التأريخ العراقي أو العربي الحديث والمعاصر, والإضاءة في تفصيلاتها ومعطياتها, وقد جمع ذلك في العشرات من الكتب المصنفة خالدة الذكر.
وقد اشرف أستاذنا الفقيد على رسائل وأطاريح العديد من طلبة الماجستير والدكتوراه, في مجال تخصصه, وتشرفت بمقامه وهو يقدم محاضراته القيمة والرصينة, في رحاب جامعة البكر للدراسات العسكرية العليا, التي كان يحرص الطلاب على حضورها, لما يتمتع به من حضور وهالة علمية مميزة, وقدرة إبداعية في إيصال المادة, فضلا عن موسوعيته الواسعة, التي جعلته محيطا بتفاصيل المعلومات, وحقائق الوقائع والأحداث.
ثم أدركته أستاذا لامعا في مرحلة الدكتوراة, في معهد التأريخ العربي والتراث العلمي للدراسات العليا, إذ كان محاضرا متفردا, ومحللا دقيقا, في مادة التأريخ الإسلامي لمرحلة الدولة العباسية المتأخرة, في الحاضرة بغداد, في أسباب ضعف الدولة وإنهيارها ومآلاتها, ثم سقوطها بيد الغزاة القادمين من بلدان بعيدة, وهي بالمجمل أسباب ذاتية, تتعلق برجالات الدولة وقادتها, ومنظومة صناعة القرار السياسي فيها, فضلا عن مركز متخذ القرار, وقدرته على إتخاذ القرار الملائم, المعالج والمصلح.
وكنت مهتما متحلقا بمادته, وكأني أقارب فيها, واقعا مسقبليا مشابها, يتفق في الجغرافية ويختلف في التأريخ, ويتماهى كثيرا في المقدمات والنتائج, وفي الأسباب والعلل, فضلا عن أصحاب الأمر والقرار, واللاعبين الرئيسيين.
وقد أشرف حينها متفضلا, على بحثي العلمي المنهجي, الذي وصف بالجرأة والتميز والتحليل المعمق, والذي قدم دراسة مستقبلية مقارنة, بين واقع المرحلة المتأخرة من دولة بغداد العباسية, التي تميزت بأزمة المؤسسة السياسية, والحكم غير الرشيد, وتبذير الأمراء وعمال الدولة فيها, وبالتالي إنهيار المؤسسة العسكرية, وعدم الإستجابة لمتطلبات إصلاحها, ورفع منسوب قدراتها, وبين واقع الدولة العراقية ومآلاتها, في مرحلة تقديم البحث, في نهايات تسعينات القرن الماضي, في جوانب أزمة السياسات الستراتيجية, العسكرية والأمنية والإقتصادية والسياسية والمجتمعية, بتفصيلاتها وإنسدادات نهاياتها, مستحضرا محاضرات الفقيد القيمة, عن أسباب إنهيار دولة الخلافة في بغداد, في مقدماتها ومخرجات نتائجها.
وعليه أزعم جازما, أن فقيدنا لم يكن أستاذا أكاديميا متجمدا في المنقول الفكري, أو المنجزالمعرفي الموروث, بل كان مفكرا ذا حنكة تحليلية جوالة, ورؤية تقييمية ثاقبة, للواقع المعاصر المتحرك, إذ جعل من الدراسة التأريخية, مرجعية مخبرية وأداة تحليلية, تقدم الإجابات الواعية, للتساؤلات المعبرة عن علل الواقع المعاصر, وتداعياته وأنتكاساته.
والحال لا يخفى أن التأريخ مرأة للماضي, تطل على الحاضر, وتتصل بالمستقبل, وهذا ليس بمستغرب عن قواعد وقوانين فلسفة التأريخ, التي قال بها الفيلسوف المؤرخ العربي بن خلدون, في مقدمته عن العمران الحضاري, والتي أكدها الخالد توينبي, في كتاب فلسفة التأريخ, وما عبر عنه نظريا, بالتحدي والإستجابة, فالأمم تبحث دائما عن نقاط القوة فيها, لتبني وتؤسس عليها, وتعمل على إكتشاف ثم معالجة نقاط الضعف فيها, ومن هذه الثنائية المتحركة, تتأكد أهمية دراسة التأريخ, وإستحضاره في حياة الشعوب, فهو يشكل هويتها وعنوانها.
فحين تختل عند الشعوب, المفاهيم والرؤى, أو القيم والثوابت, في مرحلة زمنية عاصفة, أو في لحظة إنكسار وضعف وتردي, يصمد حينها التأريخ كصمام أمان, فيستدير بالبوصلة في إتجاه السير السليم, لأنه نتاج تراكمي لحضارات متعاقبة, تتفاعل مع الحاضر, وتصيره طاقة رافعة, لتحرك المنظومة الإبداعية والإصلاحية الى الأمام, ولذا يعبر عن الإنسان والتأريخ, بأنهما في الواقع كلمة, لأن كليهما قد بدآ بكلمة.
والحال نستذكره اليوم, كفقيد للكلمة المعبرة عن الإنسان وذواته, إذ يقول أستاذنا الراحل مقولته السديده, "أن علينا أن نبني لزمان مقبل", وأن "علينا أن نعمل من أجل أن نرتقي بذواتنا, لكي نستطيع أن نكون في مكان أفضل, وبخلافه سنُطرد من دائرة الحياة".
دهيثم الحلي الحسيني, باحث في الدراسات الإستراتيجية, ومتخصص في التراث العلمي العربي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة تقتحم جامعة كولومبيا لتفريق المحتجين| الأخبار


.. مؤشرات على اقتراب قيام الجيش الإسرائيلي بعملية برية في رفح




.. واشنطن تتهم الجيش الروسي باستخدام -سلاح كيميائي- ضد القوات ا


.. واشنطن.. روسيا استخدمت -سلاحا كيميائيا- ضد القوات الأوكرانية




.. بعد نحو 7 أشهر من الحرب.. ماذا يحدث في غزة؟| #الظهيرة