الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظاهرة التفاهة

حيدر جواد السهلاني
كاتب وباحث من العراق

2021 / 7 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


" لكل داء دواء يستطب به............................. إلا الحماقة أعيت من يداويها المتنبي."
المقدمة:
التفاهة اصبحت في حياتنا بنية متكاملة تحاصرنا من كل الاتجاهات والأركان، فيكفي النظر إلى مواقع التواصل الاجتماعي والتي اصبحت تمثل بوابة كبيرة جداً في حياتنا، سنجد الكثير من التفاهات وبكل أشكال السخافة والانحطاط والفيديوهات الضحلة والصور السخيفة الخالية من أي معنى أو مضمون، ولكن بالمقابل تجد هذه المحتويات التافهة تحقق في ساعات قليلة ملايين المشاهدات. وقد تمكن التافهون من إفراغ الكثير من القيم الاجتماعية والأخلاقية واصبح الابتذال هو السائد ويضرب بجذور القيم الأخلاقية وبضراوة في وجداننا، ولقد اصبحت التفاهة كنز عند البعض يحافظون عليها بكل الطرق والوسائل، ويطلقون العنان لتأكيد دورهم في نشر الوباء، ولا يوجد سلاح آخر لديهم غير التفاهة، لإثبات وجودهم في المجتمع، ولا شك في أن وسائل التواصل الاجتماعي وفرت لهؤلاء التافهين فرصة للظهور والانتشار والخروج من جحورهم، ودفعت بهم إلى مدارج الشهرة ومصاعد النجومية نتيجة أعمالهم التافهة، وهنا الأمر لا يخص التافهون فقط في وسائل التواصل الاجتماعي بل أيضاً الكثير من السياسيين والإعلاميين وحتى من يدعون أنهم رجال دين، فاصبح اليوم لدينا الكثير من رجال الدين المزيفون، فلا عجيب من أن نرى التافهة يجني الأموال من السرقة والاحتيال وتجارة المخدرات ويلبس لباس رجال الدين، وتراه يقوم بخطب رنانة وغير صادقة ويبني المساجد لتبييض أمواله الحرام، وأيضاً المستشفيات ويعمل جمعيات خيرية، وهذا كله بالحرام والقتل والاتجار بالبشر، ومن العجيب يصدقه الكثير من التافهين ويعطونه قدسية رمزية ويصبح رجل وطني وقومي، وهو يمارس كل أنواع التفاهة بحق مجتمعه وبحقه أيضاً. واصبحت التفاهة اليوم سوق لها نظامها واسعارها وطرق تداولها، وتحمل معها قيماً جديدة تتعلق بالأخلاق والمثل والعادات وأساليب العيش.
وسائل التواصل الاجتماعي:
يقول أمبرتو إيكو" أن أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناولهم كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم اسكاتهم فوراً، أما الآن فإن لهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل، إنها غزوة البلهاء." وتقول الدكتورة مشاعل في مقدمة كتاب الآن دونو(نظام التفاهة) " أن شبكات التواصل الاجتماعي نجحت في اختصار مسيرة طويلة من التبادل الفكري والخطابات والمراسلات، ورغم كل هذا فقد استغلت هذا الوسائل الاجتماعية من قبل التافهين، وتحويل التافهين إلى رموز، مما جعل الكثير من التافهين مشاهير ورموز." وقد اصبح التافهة اليوم يقول أي جملة غبية أو حركة غبية ممكن أن تحصد الكثير من المشاهدات، وكذلك الحال لأي جميلة بلهاء أو وسيم فارغ، ممكن أن يصبح عالماً في كل شيء ويعطي رأيه بكل شيء، ويتم تداول المحتوى الذي يخص التافهة بحجة السخرية منه، لكن في الحقيقة أن تداول المحتوى يحقق للتافهة نجاح كبير، وبالتالي سيؤثر هذا المحتوى على الأجيال الناشئة بقوة، وهذا ما نراه في مجتمعاتنا من تقليد الكثير للأشياء التافهة. وقد اصبح اليوم مقياس النجاح بعدد المشاهدات أو المتابعين، فليس مطلوباً أن يكون المحتوى مفيداً، بل على العكس تماماً فكلما كان المحتوى الذي تقدمه مبتذلاً وهابطاً كان أدعى لكسب المشاهدات والمتابعين، إذ في وسائل التواصل الاجتماعي يكفي أنك تعرض قليل من التفاهة لتحصل على مشاهدات كثيرة، أو يكفي أنك تتعرى أو تصطنع لك فضيحة، ستحقق نجاحاً باهراً، وفي عالم التفاهة لم تعد الشهادات لها قيمة تذكر، فليس المهم ما تقدمه، بل كيف تبدوا وتظهر، ولذا اصبح التافهون يفهمون في كل شيء، ولهم آرائهم في كل شيء، وخاصة في أزمة كورونا رأينا العديد من التافهين ينصحون بعلاجات لكورونا وكأنهم اطباء، وليس هذا فقط بل تجدهم لهم آرائهم الشرعية والسياسية والاجتماعية والخ... من المواضيع المهمة في تسيير حياة الناس. ولقد أثرت هذه المحتويات التافهة والرخيصة على ثقافاتنا وأسلوب عيشنا وتم نحر الدين والعادات الاجتماعية، فاصبح اليوم لدينا بما يعرفون باليوتيوبر، ومنهم الكثير يستعرض في فيديوهات حياته الشخصية ويتم نشرها على وسائل التواصل، وهذه نعتقد إنها دعوة للدعارة والخلاعة وموت الحياء، فقد تم التخلي عن الفضيلة، أن معالجة هذا الموضوع يتطلب دخول الحكومة على الخط ومنع هكذا تصرفات، وأيضاً التركيز على مواد التربية الأخلاقية وعدم الترويج ونشر المحتويات التافهة. وعلى الرغم من أن شبكات التواصل الاجتماعية لديها حسنات لا تعد ولا تحصى، فهي قد جعلت العالم قرية صغيرة، لكن مع ذلك فقد سمحت هذه الشبكة لنشر الكثير من الأشياء التافهة، وقد تسببت هذه الشبكة بأمراض نفسية كثيرة، والعجيب في الأمر أن هذه التفاهة اصبحت موضة وثقافة لها روادها، فهي تسير بسرعة كبيرة جداً، وقد اصبح الكثير من الفنانين والشعراء والرياضين وحتى السياسيون ورجال الدين لديهم مواقع تواصل اجتماعية، ولا ضير بذلك لكن نشاهد منهم من يستعرض حياته الشخصية وهذه قمة التفاهة.
أما التفاهة في المجتمع العربي، فمن السهل رؤيتها يومياً في حياتنا، فالتكنولوجيا اصبحت تحتل مكانة كبيرة من حياتنا، وتجد التفاهة منتشرة جداً في وسائل التواصل الاجتماعي، وقد قلبت الكثير من العادات والاعراف ودخلت بيوتنا وعقولنا فقلبتها رأساً على عقب وانتهكت الخصوصيات، وكسرت الكثير من القواعد، فأنتجت عالماً مغايراً وسلوكاً لا يوجد فيه الحياء، الواقع أن شعوبنا العربية دخلت عصر التفاهة من أوسع أبوابها، وأن كثير من تفاصيل حياتنا السياسية والإعلامية والأدبية والاجتماعية والفنية والتعليمية، والخ... من مجالات الحياة قد دخلتها آفة التفاهة، فأصبحت التفاهة الواحدة تنتج وتولد تفاهات متعددة.
الآن دونو وكتابه نظام التفاهة:
الآن دونو(1970) فيلسوف كندي، واستاذ للفلسفة في جامعة كيبيك، وهو أكاديمي ناشط، معروف بنقده للرأسمالية ومحاربتها على عدة جهات، وقد كانت مساعيه موجعة للأطراف التي حاربها حتى أنه لوحق قضائياً من قبل أقطاب صناعة التعدين عام(2008). ويعد كتاب نظام التفاهة، كتاباً ثورياً في تشخيص ما نعيشه اليوم في ظل نظام التفاهة والسيادة السطحية والرداءة في الوصف، التي اعتمدها التافهون والحمقى من أجل السيطرة على كل مجالات الدولة، وخاصة المؤثرة منها، وتدور فكرة الكتاب حول مرحلة نعيشها اليوم وهي مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام أدى تدريجياً إلى سيطرة التافهين على الكثير من أمور حياتنا، ويعرض دونو في كتابه كيف تؤثر التفاهة في مفاصل العالم ومراكز صناعة القرار، وكيف تتداخل التفاهة في الثقافة والفن والتعليم والصحافة والإعلام والتجارة والسياسة، وأيضاً في بيوتنا، إذ اصبحت بيوتنا عرضة لفيروس التفاهة الذي لا ينفع معه الحظر الصحي ولا الكمامات ولا المطهرات، اصبح يسير بسرعة الضوء، واصبحت مراكز السيطرة والسلطة هدفاً متاحاً لهؤلاء التافهين، إذ يسعون إليها بكل الوسائل والطرق.
يقول دونو " أن التفاهة تشجعنا بكل طريقة إلى الإغفاء بدلاً من التفكير، النظر إلى ما هو غير مقبول وكأنه حتمي، إلى ما هو مقيت وكأنه ضروري، إنها تحيلنا إلى الأغبياء." ويرى دونو أن اليوم العالم يمر بمرحلة تاريخية غير مسبوقة، يسود فيها نظام التفاهة ويغير القواعد والتقاليد القديمة، ويستبدلها بالرداءة والابتذال، ويسيطر هذا النظام على تدهور متطلبات الجودة العالية وتغييب الأداء الرفيع وتهميش منظومات القيم وإبراز الأذواق المنحطة وإبعاد الأكفاء، كل هذا أدى إلى تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية واصبحت الديمقراطية لا تؤدي وظيفتها، وينتقد أيضاً دونو الحكم التكنوقراطي، ويرى أن هذا النظام استبدل مفهوم السياسة بالحاكمية، والإرادة الشعبية بالمقبولية الاجتماعية والمواطن بالشريك، فصار الشأن العام تقنية وإدارة، وليس منظومة قيم ومبادئ ومفاهيم، وتحولت الدولة بكاملها إلى شركة استثمار ومجلس إدارة، فالتفاهة تخدرنا بلغة خبرائها الفارغة وبالاستشارات العامة والملخصات المكتوبة مسبقاً والتي لا تفيد سوى تأييد خيارات السلطة. ويعتقد دونو أن البديل عن التفاهة هو الرجوع إلى المثقف وجعله محل اهتمام للحوار والتواصل ، والتركيز على البرامج التي تساهم في بناء المواطن والرأي العام وقضاياه المصيرية كالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الأفراد والجماعات والمساواة والسلطة وتوزيع الثروة، وأيضاً لا بد من الرجوع إلى الفلاسفة المتنورين كجان جاك روسو الذي ركز في مشروعه الفلسفي على العقد الاجتماعي في كتابه الشهير( العقد الاجتماعي) ومونتسكيو الذي وضع تصوراً لفصل السلطة وتوازنها في كتابه (روح القوانين)، وفولتير الذي اجتهد لتنظير الحرية والاختلاف والتسامح وتقبل الأخر، واحترام الرأي والرأي الأخر، وكانت الذي يؤكد على استعمال العقل في القضايا العامة والشأن العام، ويورغن هابرماس الذي ساهم بصياغة تصور فلسفي وسياسي لمشروع مجتمعي يصبح فيه الفضاء العمومي مجالاً مهماً للفعل التواصلي للمواطن.( أن الدول العربية لم تأخذ بمنتجات وتنظيرات مفكريها ولهذا السبب لم تتطور الدول العربية، بل على العكس كان المفكر العربي دائماً معرض للاغتيال والتهميش، وصدق عالم الكيمياء المصري احمد زويل(1946_2016) عندما قال " الغرب ليسوا عباقرة ونحن لسنا أغبياء هم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح، ونحن نحارب الناجح حتى يفشل." )
يعتقد دونو أن المبالغة في خلق التخصصات العلمية الدقيقة تدخل هي الأخرى ضمن منتجات نظام التفاهة، فأصبحت الجامعات تهتم بتسطيح المعرفة من خلال تعميقها بدل من توسعها، وأيضاً أن الجامعات اليوم أصبحت تستجيب للشركات التجارية وتحولت المعرفة إلى سلعة، وبذلك تحولت الجامعة من منتجة للمعرفة إلى تاجر فيها، وهذا ما حذر منه عالم الاجتماع ماكس فيبر في كتابه (العلم بوصفه حرفة)، وكذلك غياب الفلسفة أوجد فقراً عميقاً فمع دعاوي التخصص أخذت الفلسفة تبتعد عن العلوم والمعارف، وعندما سارت الجامعات في طريق التخصص العلمي الدقيق اصبحت تتلقى التمويل من الشركات التجارية، واصبح الاساتذة والطلاب يعملون مشاريع الشركات، وأنتجت الجامعات خبراء ذوي تخصص دقيق يخدم السوق، ولم تنتج علماء من ذوي الأفق الواسع القادر على مواجهة مشكلات الحياة، فالخبير ممثل للسلطة وينتج أفكاراً مقابل الحصول على منافع مادية وعلاقته بالعلم قائمة على المصلحة والمنفعة، أما العالم والمثقف فهو حالة تحركه دوافعه الأخلاقية، وكذلك المبالغة في التخصصات الدقيقة أوجد تخصصات لا جدوى منها. والفن أيضاً كان له نصيب كبير من التفاهة فعندما دخل التجار واصحاب الأموال على السينما والمسرح وكافة الفنون اصبحت الفنون مادية جداً، وتخلت عن رسالتها الحقيقية، وفي وقتنا الحاضر بدأنا نسمع الكثير من الفنانين يتكلمون عن قضية أجورهم في الأعمال الفنية، وبدأت الأجور هي من تحدد العمل الجيد، وأيضاً أدخال التافهين من رواد مواقع التواصل واعني التافهين، لأن في الحقيقة يوجد الكثير من اليوتيوبريه يقدمون محتوى جيد جداً، لكن كلامنا على السيئين، ويقدمونهم للتلفزيون على اعتبار أن لديهم الكثير من المشاهدين، وبذلك أدخلوا التفاهة إلى التلفزيون والذي يعتبر من أكثر الأشياء التي يجتمع حولها العائلة.
يعتقد دونو أن من اسباب أنتشار التفاهة هي:
1_ تجارة التفاهة، فالرأسمالية العالمية تغرق في أوحال التفاهة من خلال الترويج لبرامج وسلع تافهة.
2_ الترويج للتفاهة، أن التفاهة لها أبعاد نفسية وفكرية واجتماعية، ووسائل التواصل الاجتماعي تصنع وتصدر بعض التافهين وتصورهم على أنهم نجوم، فاليوتيوب وبرامج أخرى تقيم قيمة المحتوى على اساس المشاهدات بغض النظر عن قيمته الفكرية.
3_ مجانية التفاهة، عندما تكون البضاعة مجانية، فتذكر أنك أنت الثمن.
4_ تسيس التفاهة، في هذا العالم يتم أنفاق الملايين لإنتاج برامج تافهة والهروب من الواقع، ويصبح السفل أسهل من الترفع، واصبح المحتوى التافهة محل الاهتمام والتطوير وتسويقه لأفراد المجتمع، وهذا أدى إلى زعزعة ثوابت المجتمعات وقيمها وأخلاقها.
5_ تنمر التافهون، أن التافهين تغلغلوا في جميع قطاعات المجتمع ومن بينها الإعلام والاقتصاد والتجارة والتعليم، واصبحوا يتصدرون المشهد ويوجهون أفراد المجتمع كما يشاؤون، لأنهم يرون أنفسهم الأفضل، وغير مدركين عدم نضجهم وقلة فهمهم لأمور الحياة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تظاهرات في إسرائيل تطالب نتنياهو بقبول صفقة تبادل مع حماس |


.. مكتب نتنياهو: سنرسل وفدا للوسطاء لوضع اتفاق مناسب لنا




.. تقارير: السعودية قد تلجأ لتطبيع تدريجي مع إسرائيل بسبب استمر


.. واشنطن تقول إنها تقيم رد حماس على مقترح الهدنة | #أميركا_الي




.. جابر الحرمي: الوسطاء سيكونون طرفا في إيجاد ضمانات لتنفيذ اتف