الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إثيوبيا وعصر الفوضى

داليا سعدالدين
باحثة فى التاريخ

(Dahlia M. Saad El-din)

2021 / 7 / 5
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تردد فى الآونة الأخيرة عبارات تتكرر يوميا مثل: دول حوض النيل، والعلاقات المصرية بدول حوض النيل، وأزمة المياه، وتداعيات بناء دولة إثيوبيا لسد الألفية أو سد النهضة، فأصبح جانب من الرأى العام المصرى مهتم بشكل كبير بجزء مهم من الاستراتيجية المصرية تجاة الدول الأفريقية عموما ودول حوض النيل بشكل خاص، الأمر الذى أفسح المجال أمام العديد من المحللين لمناقشة أبعاد العلاقات المصرية الأفريقية، إلا أنه من الصعب الوقوف على أبعاد تلك العلاقات دون الرجوع المباشر للتاريخ الأفريقى من ناحية، ومن ناحية أخرى تاريخ حوض النيل وعلاقته المؤثرة فى استراتيجية الدولة المصرية على مدار عقود من الشد والجذب، والتقارب والتنافر، فيما اختصت به دراسات التاريخ الحديث والمعاصر، هذا بالإضافة إلى أن كل تلك الدراسات العلمية أو تحليل العلاقات الدولية والاقليمية لن تصل لمقصدها من النجاح دون الاعتراف بشكل فعلى بكون مصر نفسها دولة أفريقية فى المقام الأول؛ إذ لم يكن لكل من الملك المصرى "إحموس الأول" مؤسس الأسرة الثامنة عشر، والملك "تحوتموس الثالث" أعظم القادة العسكريين، من توسيع نفوذ الدولة المصرية فى تاريخها السحيق، نحو الشرق والشمال الشرقى، دونما تأمين فعلى للعمق الاستراتيجى نحو الجنوب؛ ذلك أن حلقات التأثير والتأثر متداخلة فى العلاقات الدولية نفسها، فما بالنا فيما تعلق بالعلاقات الإقليمية.
وتعد إثيوبيا دولة محورية هامة فى العلاقات الإقليمية لمصر فى منطقة حوض النيل، سواء فى تاريخها الحديث أو المعاصر؛ فعلى الرغم من أن العلاقات المصرية الإثيوبية ضاربة فى عمق تاريخ نشأة الدولة المصرية القديمة نفسها، إلا أننا سنحاول هنا الوقوف على التأثيرات الاجتماعية والسياسية فى التاريخ الحديث والمعاصر لكل من الدولة المصرية والدولة الإثيوبية؛ إذ أن إثيوبيا تحديدا تشكل محور النقاش المصرى الحالى حول أزمة المياه، وعليه فمن المنطق أن نحاول معرفة جانب من تاريخ نشأة تلك الدولة.
ثابت تاريخيا أن الدولة الإثيوبية قد أثرت بشكل فعال فى تاريخ واستراتيجيات المنطقة خلال حقبة التسعينات من القرن التاسع عشر الميلادى، خاصة بعد تنصيب الإمبراطور "منليك الثانى 1889 – 1913) نجاش ناجوشت – أى ملك الملوك – فى شهر نوفمبر سنة 1889؛ إذ ارتبط تأسيس إثيوبيا الحديثة كدولة موحدة ذات شأن باسمه، فقد كانت الهضبة الإثيوبية قبل اعتلائه عرش المملكة، تعج بالصراع السياسى والحربى فيما بين أمراء قوميات الأمهرة والتيجراى والأورومو، للسيطرة على مقاليد الحكم فى الهضبة نفسها، ومن ثم فرض السيطرة السياسية على الأراضى المحيطة، فحتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادى، كان الأمراء فى تناحر حول عرش ملك الملوك، وتعرف الفترة (1769- 1855) فى التاريخ الإثيوبى بعصر الفوضى، فقد كانت فترة فوضى سياسية عارمة؛ إذ كان من المحتمل جدا أن لا يظل الامبراطور فى قصر "جوندار" – العاصمة القديمة لإثيوبيا شمال بحيرة تانا – إلا بضعة أشهر؛ حيث يأتى أمير إثيوبى أقوى ليستولى على مقاليد السلطة، كما يجبر البطريرك المصرى فى الكنيسة الإثيوبية على تنصيبه نجاش ناجوشت – أى إمبراطورا على كافة أنحاء البلاد، وقد اتفق غالبية المؤرخين على تحديد فترة زمنية – خلال عصر الفوضى - أطلقوا عليها مصطلح "عصر الفوضى الكبير"، وهى فترة زمنية امتدت إلى أكثر من سبعين سنة، تبدأ بنهاية حكم الإمبراطور "تكلا هيمانوت الثانى 1769 – 1777"، حتى بداية حكم الإمبراطور "ثيودور الثانى" سنة 1855، الذى بدأ فى عصره نوع من الاستقرار السياسى والاقتصادى، وبالتالى الاجتماعى فى الهضبة الإثيوبية.
وفيما يخص عصر الفوضى لابد من الإشارة إلى أن وضع الحكم داخل الهضبة الإثيوبية كان أشبه ما يكون بحكم الاقطاعيات؛ إذ كان كل جزء من أجزاء الهضبة يحكمه إما أمير أو ملك إثيوبى أو أحد قواد "الشفتا"، والتى كانت عبارة عن مجموعات مسلحة يتزايد نشاطها خلال فترات الانهيار الاقتصادى والجفاف، خاصة وأن المملكة الإثيوبية خلال تلك الفترة كانت حبيسة الهضبة معتمدة فى جانب كبير من اقتصادها على التجار الأجانب الذين يتاجرون فيما بين الهضبة وسواحل البحر الأحمر والسواحل الصومالية، التى أضحت مع أواخر ستينات القرن التاسع عشر تحت السيطرة التامة للإدارة المصرية، مما شكل ضغط اقتصادى فى الهضبة الإثيوبية، الأمر الذى أشعل الصراع فيما بين الأمراء والقواد.

أما داخل الهضبة، فقد كان الوضع السياسى مترديا تماما؛ إذ يمكن أن نجمل الصراع على الحكم فى الملوك والأمراء والقواد الأكثر قوة، والمتمثلين فى كل من الراس[1] "أوبى"، وهو من الشفتا، الذى حمل بعد ذلك لقب الإمبراطور "يوحنا الثالث ( توفى 1873)"، وكان يحكم مناطق "تيجراى، وسيمين، ولكيت، وجيرا"، والملك "سهلا سيلاسى" الذى يحكم مقاطعة "شوا" جنوب غرب الهضبة، والراس "على الثانى" حفيد الراس "جوجُسا" زعيم قومية "الأورومو"، الذى كان مسيطرا على منطقة شعب "الأمهرا" فى جنوب ووسط الهضبة بالإضافة إلى المناطق الجنوبية المتاخمة للهضبة، التى هى داخل أراضى قومية الأورومو؛ إذ كان أقوى القادة خلال تلك الفترة، مما دعى الملك "سهلا دينجل" للتحالف معه، الذى كان قد حكم بشكل غير مستقر من 1832 وحتى أوائل أربعينات القرن التاسع عشر، وذلك بسبب التدخلات اليونانية من خلال التجار من ناحية، والكنيسة اليونانية من ناحية أخرى؛ إذ دعموا الصراع خلال أربعينات القرن التاسع عشر لصالح منافسه الراس "كاسا هايل جيورجوس"، الذى كان من "الشفتا"، فساعد "الراس على الثانى" الملك "سهلا دينجل" على استعادة عرشه فى فترة حكمه الثانية (1851 – 1855)، إلا أنه كان حاكما اسميا فقط، وكانت مقاليد الأمور كلها فى يد "الراس على الثانى".
وهناك أيضا الإمبراطور "يوحنا الثالث" الذى كان هو الأخر يحكم جانب من الهضبة خلال حكم "سهلا دينجل"؛ إذ أنه استطاع الوصول للعرش باعتباره الوريث الشرعى، فقد كان هذا الراس هو ابن الإمبراطور " تكلا جورجيوس الأول" الذى حكم الهضبة الإثيوبية خلال فترات متقطعة من ثمانينات وتسعينات القرن الثامن عشر، وحتى تتجلى الحكمة القائلة بأن الإبن هو سر أبيه، كانت فترات حكم ابنه الإمبراطور "يوحنا الثالث" متقطعة كذلك، وذلك بسبب ما كان يعترى البلاد من فوضى سياسية.
إلا أن السنتين 1853 و 1854 كانتا فارقتان فيما اعترى تاريخ إثيوبيا من فوضى، حيث استطاع الراس "كاسا هايل جيورجوس" الذى كان يدعمه كل من التجار الأوروبيون والكنيسة اليونانية، أن يهزم الراس "على الثانى"، وبالتالى استطاع السيطرة على مناطق شعب "الأمهرا"، فأصبح وسط وجنوب الهضبة كله خاضعًا له تمامًا مما جعله يمثل أحد أهم القوى فى البلاد، ومن ثم استطاع بعد ذلك هزيمة كل من الإمبراطور "يوحنا الثالث"، وأيضًا "سهلا دينجل" فى أوائل 1855، وطلب الراس "كاسا هايل" من المطران المصرى تتويجه إمبراطورًا لإثيوبيا كلها، وتم ذلك بالفعل فى 7 فبراير سنة 1855، واتخذ لنفسه لقب "ثيودور الثانى".
كان ذلك عرضا سريعا لما اعترى الهضبة الإثيوبية من تمزق سياسى خلال ما عرف بعصر الفوضى، ولابد من ملاحظة أن كل تلك الأحداث السياسية لم تكن لتخرج عن نطاق حدود الهضبة الإثيوبية نفسها، وإن تجاوزتها فى بعض الأحيان لتصل للأجزاء المتاخمة لجنوب الهضبة فى مناطق الأورومو، ذلك أن حدود المملكة الإثيوبية آنذاك كانت الهضبة فقط، فلم تكن قد توسعت بعد لتصل لحدودها السياسية الحالية.
كما تجدر الإشارة إلى أن بعض الذين حددوا انتهاء عصر الفوضى بتولى الإمبراطور "ثيودور الثانى"، من المحتمل جدا أن يكونوا قد تأثروا بشىء من الرواية المقدسة فى أبوكريفا[2] أثيوبيا، والتى تذكر أن "يسوع المسيح" قد تنبأ فى الإنجيل أن "المنقذ" سوف يظهر فى الشرق، عندما تضرب الفوضى التامة إثيوبيا، هنا يظهر "المنقد" المسمى بـ "ثيودورس" لإنقاذ إثيوبيا وانقاذ الشرق.
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] راس بمعنى زعيم أو قائد عسكرى، وهى تنطق راس وليس رأس؛ إذ أنها اشبه بالنطق المصرى لكلمة "ريس".

[2] الأبوكريفا: هى الأسفار التى لم تقبل بين الكتب المقدسة- وأبوكريفا العهد القديم قبل بها الكنيستان الأرثوذكسية والكاثوليكية، فى حين يرفضها اليهود والبروستانت، أما أبوكريفا العهد الجديد فهى الأناجيل والرسائل وسواها من الأسفار، التى لا تقر الكنائس المسيحية بأنها من الكتب المقدسة، أما الأبوكريفيا الإثيوبية فهى كتاب "فيكّارى لياسوس" – أى حب ياسوع – ، الذى يعتقد أنه كتب فى القرن السادس عشر الميلادى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 200 يوم على حرب غزة.. ماذا جرى في «مفاوضات الهدنة»؟| #الظهير


.. مخاوف من اتساع الحرب.. تصاعد التوتر بين حزب الله وإسرائيل| #




.. في غضون أسبوع.. نتنياهو يخشى -أمر- الجنائية الدولية باعتقاله


.. هل تشعل فرنسا حربا نووية لمواجهة موسكو؟ | #الظهيرة




.. متحدث الخارجية القطرية لهآرتس: الاتفاق بحاجة لمزيد من التناز