الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإرهاصات الأولى للحضارة المصرية القديمة

داليا سعدالدين
باحثة فى التاريخ

(Dahlia M. Saad El-din)

2021 / 7 / 6
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


كثيرا ما نطالع بين الحين والأخر مقالات وكتب تنعت الحضارة المصرية القديمة إما بكونها حضارة سارقة لمجهودات غيرها من شعوب وادى النيل، أو آخرين من بقاع أخرى من الأرض، أو حضارة صنعها أخرون أتو إلى أرض مصر نفسها ليكملوا حضارتهم المنقرضة، أو ليبنوا لهم فى هذا الوادى حضارة ما على غرار ما كان فى مدنهم أو أوطانهم الأصلية، أو كائنات فضائية! ذلك فى إشارة خفية للتقليل من شأن أبناء القارة الأفريقية بشكل عام، وأبناء الوادى بشكل خاص، وليترائى أمام العالم أجمع كونها حضارة مارقة، وأن كل ما تسنى لها من شموخ معمارى أو تعاليم فلسفية أو علوم بحته، هو ليس من صنع أبناء هذا الوادى، ولم يكن من خلال تطور اجتماعى واقتصادى لأبناء الوادى عبر أزمنة ضاربة فى عمق تاريخ البشرية.
لم تقم الحضارة المصرية القديمة من العدم، شأنها فى ذلك شأن تطور الجنس البشرى عموما؛ إذ سبقتها مجموعة من الحضارات البدائية، فحتى بداية ثمانينات القرن العشرين كان أغلب الظن أن حضارات مثل المعادى وحلوان والفيوم ومرمدة بنى سلامة والبدارى ونقادة الأولى والثانية وغيرها من المجموعات الحضارية خلال منتصف العصر الحجرى الحديث (الفترة من 5300 : 3000 ق.م تقريبا) هى أقدم حضارات مصر، لكن مع بداية الثمانينات تم كشف النقاب عن نتائج عمليات التنقيب فى الصحراء الغربية حيث مناطق: بير تَرفاوى، وجبل نبتة، وواحات الداخلة والخارجة، ومنطقة الجلف الكبير، مما سهل عملية الربط التاريخى للانتقال من العصر الحجرى القديم إلى العصر الحجرى الحديث، وكان الاكتشاف الأكثر إثارة متعلق باكتشاف بقايا بذور متفحمة من القمح والشعير فى منطقة وادى الكوبانية جنوب غرب كوم أمبو بأسوان يرجح عودتها إلى الفترة 16000 : 14000 ق.م تقريبا، الأمر الذى زاد معه الجدل حول مسألة جلب الحبوب من منطقة الهلال الخصيب لزراعتها فى مناطق وادى النيل، كما كان لاكتشاف المستوطنات الأولى لـ "نبتة بلايا" - 100 كم غرب أبوسنبل، صدى واسع فى الأوساط العلمية الخاصة بدراسة الحضارات القديمة.
كما كان لاكتشاف بذور الذرة الحلوة فى نبتة بلايا التى يرجح أن تعود إلى حوالى 8000 ق.م من خلال الحفريات فى الموقع (E-75-6) أواخر تسعينات القرن العشرين، أثره فى التشكيك فى النظرية القائلة بجلب بذور الذرة من الهند حوالى 3000 ق.م عن طريق تجارة السند – البنجاب مرورا بدوراس وعبر الشرق الأوسط فى الهلال الخصيب إلى وادى النيل، ومع وجود الدائرة الحجرية التى هى أحد أقدم النظم الفلكية؛ حيث انتظام الأحجار تحدد الاتجهات الأربع، علاوة على ذلك وجد الباحثون خطان هندسيان اشتملا على إثنى عشر حجرا إضافيا، مما يطرح تساؤلا حول ما إذا كان سكان تلك المستعمرة قد عرفوا نظاما فلكيا قسموا من خلاله السنة إلى إثنى عشر شهرا؟ وهل عرفوا معه أيضا انتظام الزراعة؟ إذ تشير الدائرة الحجرية تلك فى جانب منها إلى الإنقلاب الصيفى.
ومع الكشف عن نتائج الحفريات فى أواخر التسعينات، حيث وجدت أيضا بذور الذرة شرقى النيل جنوب أسوان ومتاخمة لمنطقة الحدود مع السودان الشمالى حاليا، مما قد يطرح فكرة أن كل من القمح والشعير والذرة من المحتمل أنها كانت تنمو بشكل طبيعى أو كونها زرعت بشكل فعلى فى كل من مصر والسودان خلال استقرار تلك المجموعات البشرية فى المنطقة خلال الفترة الزمنية المحتملة من 10000 : 8000 ق.م، هذا بالإضافة إلى العثور على بقايا حيوانات، إما ماشية مستأنسة أو برية؛ إذ كانت الصحارى خلال تلك الحقبة الزمنية مناطق سافانا، غير أنه من المحتمل أنهم قد عرفوا استئناس بعض الماشية؛ إذ تم العثور على هيكل عظمى لبقرة مدفونة فى نبتة بلايا ترجع إلى حوالى7500 ق.م.
إلا أن ما يرجح عملية تنظيم قواعد الزراعة ومواسمها كانت أحد مهام الدائرة الحجرية فى نبتة بلايا، هو اكتشاف "دائرة جوسيك - Goseck Circle" 1991 فى ولاية "سكسونيا – ألمانيا"، التى رجح علماء الآثار فى جامعة "هالى" بألمانيا سنة 2002 كونها تعد واحدة من أقدم الدوائر الفلكية (4900 ق.م)؛ إذ يرجعون بنائها لعبادة النجوم والأجرام السماوية ولتقديم الأضاحى البشرية للآلهة السماوية؛ حيث ربطوا بين الدائرة وبين جثة لإمرأة شابة بدون رأس تم العثور عليها فى "بافاريا"، فى حين أن رأسها كانت مدفونة بوسط دائرة مشابهة، كما رجح الآثاريون من خلال شقفات الفخار وبقايا أدوات خشبية بأنها تعد من أولى مراحل الانتقال من التجول والصيد إلى الزراعة فى وسط أوروبا، مما يطرح تساؤل حول ما إذا كان الإنسان فى شتى بقاع العالم قد حاول التوصل لمعرفة مواسم الزراعة خلال مراحل زمنية متقاربة؟
وبالرجوع للدائرة الحجرية فى "نبتة بلايا"، فبالربط بين ما رجحه الآثاريون من احتماليات نتائج "دائرة جوسيك" من ناحية، ومؤشرات سكن وتعمير المناطق الجنوبية لوادى النيل فى مصر من ناحية أخرى، تطرح فكرة أن تلك المجموعات البشرية فى نهايات العصر الحجرى القديم من المحتمل جدا أنها قد عرفت المواسم الزراعية ومن ثم عرفت الزراعة وطورتها؛ إذ أن الطفرة فى بناء الصوامع وتخزين الغلال وتدجين المواشى فى العصر الحجرى الحديث فى منطقة "مرمدة بنى سلامة" جنوب غرب دلتا النيل فيما بعد – على بعد 2 كم جنوب قرية بنى سلامة بالدلتا و60 كم شمال غرب القاهرة – خلال أوائل الألفية الخامسة قبل الميلاد، لم تكن لتجىء من العدم؛ إذ كشفت الحفريات الأثرية للمنطقة أن تلك المجموعات البشرية قد عرفت زراعة الحبوب مثل القمح والشعير، كما عرفوا تخزينها فى صوامع، وعرفوا صناعة الفخار، مما قد يدل على أنهم عرفوا طهو الطعام، وعرفوا زراعة الكتان ونسجه إلى ملابس يرتدونها، كما تزينوا بالحلى من العظم والصدف والعاج والخرز، وعرفوا مواد الزينة كالكحل، وكانت المبانى مسقفة وحوائطها مستخدم فيها الجص والروث، ويعد تخطيط آثار مرمدة بنى سلامة من أقدم التخطيط المعروف للقرية المصرية؛ إذ نظمت مبانى المدينة من خطين شبه مستقيمين يفصل بينها طريق ضيق، مما يدل على نشوء نوع من التنظيم الاجتماعى، وبالتالى احتماليات وجود سلطة عليا ما فى المدينة، مما يدلنا على وجود إرهاصات المدنية فى تلك الحقبة البعيدة..
وعليه يمكننا القول بأن الحضارة المصرية القديمة كانت نتاج لبنات وضعتها أجيال تعاقبت على هذه الأرض، وطورت من أدواتها وتقنياتها على مدى قرون من الزمن فى تواصل مستمر لم يتيسر لحضارات أخرى ربما كانت مواكبة لها فى البديات أو لاحقة عليها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -